لعقود طويلة.. حلمت إيران بتعميق نفوذها في أراضي جيرانها، لا أرى تلك الطموحات الجامحة طائفية شيعية فحسب بل هي اقتصادية واستراتيجية الهدف وقد يكون العنصر الديني آلية واحدة وسط آليات أخرى عديدة تستغلها القيادة الدينية والسياسية في طهران.
وعقب توصل القوى الغربية لاتفاق نووي عام 2015 مع طهران الذي استغرق أعوام طويلة من المفاوضات العسيرة والعقوبات الغير حاسمه بسبب العمق الاستراتيجي والدعم الإقليمي الروسي والصيني لقطاعها النفطي والحربي، فقد تبددت لفترة مخاوف الدول الأوروبية من تهديد حدودها الشرقية نوويا رغم استمرار الهاجس لدى دول مجلس التعاون وإسرائيل الرافضة لوجود منافس نووي لها في المنطقة.
أوراق الخليج المحروقة!
منذ الإطاحة بشاه إيران عام 1979، تبنت إيران مشروع راديكالي على الصعيد الداخلي والخارجي وفق تصور قائد الثورة الإسلامية الخميني لمكانة الدولة الإيرانية ذات التاريخ الضارب بالمنطقة، ولم تعد هذه الدولة تتبادل قواسم مشتركة مع جيرانها العرب على الضفة الغربية من الخليج العربي مثل النظام الملكي المنفتح على العالم وخاصة نصفه الغربي!
ولا يعد التحول لدولة ثيوقراطية متعسكرة أمراً فريداً للضفة الشرقية من الخليج التي طالما تنازعت مع العثمانيون لأسباب طائفية دعمتها مصالح استراتيجية وإقليمية واسعة.
لكن، منذ اندلاع تلك الثورة، ورغم خوض حرب ضروس ضد العراق وحلفائه، لم يغير قيادات دول مجلس التعاون من أوراق اللعبة مع إيران إذ احتفظوا بورقة (القوى الغربية وحلفائهم الشرق أوسطيين) فقط في إدارة الأزمة الطويلة مع إيران.
وبعد أكثر من أربعة عقود، استمرت إيران متماسكة بل زاد وهن بعض الدول العربية المجاورة خاصة العراق واليمن وسوريا مما خلق فراغاً كبيراً مع تناقض المتقاتلين وإن اتفقوا على بند واحد فإن بنود الخلاف الأيديولوجي أكثر، ومع قرار واشنطن الانسحاب من سوريا عقب الفشل الذريع لاستخباراتها وقواتها ودبلوماسيتها في حسم الأمر، كان ولابد من توجه الخليج العربي نحو خلق أوراق جديدة، ولم يحدث الى حينه.
ورغم صعوبة رصد قيمة الصادرات الحربية من غرب أوروبا وأمريكا لدول مجلس التعاون منذ ثورة الخميني، إلا أن تلك الأموال الهائلة لم تضخ نحو تشييد صناعات حربية وطنية خليجية!
ثم تأتي استراتيجية المواجهة غير المباشرة لتعتمر رداء حروب بالوكالة وهي لا تمثل سوى رد فعل كالمعتاد، حيث حدثت كل تلك المواجهات خارج الحدود الوطنية للقطر الإيراني ولم تقترب من حدوده ميلاً واحداً علاوة على نجاح ميليشياتها في نقل أرضية المواجهة لداخل حدود المملكة العربية السعودية نفسها بفضل تسليح الحوثيين بصواريخ طويلة المدى وطائرات مسيرة التي نجحت في توجيه ضربات بالعمق السعودي مثل مطار أبها في حين لم تدخل رصاصة واحدة أراضي إيران.
شرق إيران.. ؟
استخدام إيران استراتيجية زعزعة استقرار البلدان العربية المتاخمة لحدودها الغربية عبر جماعات منظمة ومسلحة مثل حزب الله وأخرى خلايا نائمة تضغط على الحكومات العربية بالتظاهرات كما حدث في شرق السعودية والبحرين مسبقا هي منهج دائم يثير تساؤل دائماً لماذا لم يفكر العرب في عكس فوهة البندقية نحو إيران!
إيران.. جزيرة شيعية وسط بحر مغاير.
ينعم شرق إيران بالاستقرار مع دول مجاورة مثل باكستان وأفغانستان وأسيا الوسطى على الرغم من اتسامه بوجود مبررات ودوافع استنبات بذور الخلافات العرقية والقبلية والطائفية على حدود الجيران المغايرين شرقاً والتي قد تصبح أرضاً خصبة ونواة لحروب طاحنة عابرة للحدود تدفع حكومة طهران لتوجيه فوهة بنادقها ومدافعها ومواردها نحو الشرق وترك حدودها الغربية.
هذا وإن كانت قبائل البشتون نموذجاً مثالياً يطابق تلك التجمعات العرقية القاطنة في اليمن حيثما تجد طهران فراغات للتحريض وإثارة العداء. فإن فتح جبهات صراع في شرق إيران سيجبرها على تخفيف وطأة تدخلها بجيرانها العرب غرباً.
بلا شك، استثمار الأزمة السياسية والقبلية في أفغانستان الجار المتاخم مباشرة للحدود الشرقية لإيران والحركات المسلحة المتطرفة في تركمنستان سوف يدفع حكومة طهران لتقليل التزاماتها في العراق وسوريا، ثغرات عديدة في القوة الإيرانية لا يكترث لها الكثيرون.
ولا يمكن نسيان كم حصدت محاولات البعض لتحريك ملفات داخل إيران من أجل تفتيتها لدويلات ضعيفة مثل قضية الأحواز من إخفاق، فقدرة طهران على قمع أصوات الأحواز بل وإعادة التشكيل الديموغرافي لهذه المنطقة بالنقل القسري لمواطني الإقليم كبيرة.
ضخ الأموال في شرايين جماعات الضغط وصانعي القرار في واشنطن والصناعات الحربية الأمريكية ومحاولات زعزعة إيران من الداخل وشن مواجهات عسكرية مباشرة وغير مباشرة مع أذرع إيران.. محاولات لن تؤتي ثمارها في كبح جماح المشروع الإيراني التوسعي، بل لابد من السعي خلف حلول خارج الصندوق تولد من رحم أفق أوسع!