23 ديسمبر، 2024 5:19 ص

الكثير من العقلاء كانوا حاضرين في تفاصيل هذه الواقعة وقد إغرورقت عيون البعض بالدمع بل بكى أحدهم الى حد النحيب وإستغرب البعض الآخر مما شاهد وسمع من ذوي أحد شهداء النزاهة الذي قضى مع كوكبة من زملائه ، ففي المأتم الذي أقيم لهم في إحدى القاعات حضرت زوجة الشهيد وإبنه ووالده وقد إنتفخت عينا نجله ذي الخمسة عشر عاما من البكاء وشَحِب لون وجه الزوجة وإحدودب ظهر أبيه ، كظموا حزنهم ومأساتهم وهم يبحثون عن أي زميل للشهيد لكي يتحدثوا في موضوعِ قالوا عنه إنه مهم جدا ولا يحتمل التاخير ، ظن العديد من الحاضرين أن العائلة تطلب مساعدة مالية عاجلة إذ ان مظاهر الفقر والحاجة بانت واضحة على العائلة وما أكد ذلك هو أن الشهيد لم يكن موظفا بل عاملا باجور يومية بسيطة، إسترقتُ النظر الى الموجودين وهم يفرزون ما جادت به جيوبهم من مبالغ نقدية وجهزوها للمساعدة حين يبادر أحدهم لجمع هذه المبالغ ، لكن المفاجأة التي أذهلت الجميع أن العائلة المنكوبة لم تطلب المساعدة  بل على العكس من ذلك كانت زوجة الشهيد تحمل مبلغا ملفوفا من المال وقالت ما نصه : زوجي كان مشتركا في سلفة مع زملائه بالعمل مع كل راتب شهري لهم وقد إستلمها كأول مستفيد في الشهر الفائت ( السلفة أو الجمعية هي مبلغ من المال يجمع من عدة أفراد ويُعطى لأحوجهم أو عن طريق القرعة لينتهي الدور مع جميع المشتركين فيها ) ويكمل الأب ما بدأته الزوجة الثكلى وهم في اليوم الرابع من استشهاده : الآن جئنا بمستحقات الناس أي السلفة كاملة لكي لا تبقى بذمة ولدنا شيء منها !!! وربما هناك أناس يحتاجونها اليوم لأنها مبلغ كبير ولا نعرف عناوين الذين يعملون معه في الدائرة (عند الاستفسار عن المبلغ إتضح أنه مليون دينار ) !!! التعجب هنا هو أن دموعهم لم تجف بعدُ وهم في يومه الرابع ، والتعجب الآخر هو درجة إهتمامهم بالآخرين رغم نكبتهم أما ما ليس عليه أي علامة تعجب فهو الشرف الذي يحمله هؤلاء وقناعتهم بما قسم لهم ربهم وإيمانهم بتسديد ما بذمتهم من حقوق للآخرين .
  لأكثر من مرة ومن خلال كتاباتنا أو برامجنا على الشاشة نقول : أيها المسؤولون تعلموا من شعبكم وليكن هو مستشاركم لأنه هو مَن سلّمكم المسؤولية وهو مَن منحكم هذه الامتيازات النادرة وتدّعون أنكم جئتم لخدمته ، فما ضرّكم أن تستمعوا اليه أو تتعلمون منه ولو من بعيد . مسألة الشرف والأمانة ، لا عيب في أن نراقبها عند الفقير لنضعها معيارا في قياس سلوكنا مهما كانت مواقعنا في الدولة أو المجتمع، كل المظاهر نستطيع أن نروض أنفسنا وأجسادنا على ممارستها لتكون سلوكا خاصا إلا الشرف فهو جزء من كينونة النفس وسمة لانستطيع محاكاتها، نستطيع أن نتظاهر بالملبس والمأكل والورع والاحترام والزهد وحتى الكرم ، نستطيع أن نرتقي بتحصيلنا العلمي وشهاداتنا ومناصبنا ونطور كفاءاتنا ولكن الشرف غير ذلك كله فهو من ضمن الثوابت والقيم المتأصلة والمتوارثة وليست المكتسبة ، لهذا قال فيلسوف الاسلام علي بن ابي طالب عليه السلام : شرف المرء نزاهته ، ولو كان يعيش عصرنا هذا ورصد ما شهدناه من كوارث ومحن وجحود، ولأن الفقير لا يملك إلاّ شرفه فلربما قال : شرف الفقير نزاهته  .
[email protected]