18 ديسمبر، 2024 8:46 م

شرفات نضاليّة حازت الإعجاب والإجلال

شرفات نضاليّة حازت الإعجاب والإجلال

«إنّني أحسّ على وجهي بألم كل صفعة تُوجّه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاك هو وطني »
أرنستو “تشي” غيفارا

 غالبا ما يحيلنا مفهوم النضال، إلى الشعوربشحنات عاطفيّة  جيّاشة،توقظ  فينا الوعي بلذّة التضحية،لا فقط  من أجل القيم الجميلة،بل وكذلك – ولعلّه الأهم- من أجل الآخر. وكثيرا ما يرافق هذا الشعور النبيل إستحضارنالذلك الزمن الجميل الذي ناضل فيه الإنسان/نظيف العقل واليدين، ضدّكل من يمثّل قوى الإستعمار والإمبرياليّة والصهيونيّة، وضدّ من يمثّل أي شكل من أشكال الإستبداد والتزمّت و التخلّف و الرجعيّة في مختلف وجوهها الكريهةوتمظهراتهاالبشعة، بما تعنيه من تحجّرفكري وتسلّط، وتوهّم ساذجبامتلاك الحقيقة المطلقة، ومحاولة الدفع  بالمجتمع إلى الرجوع إلى بعض إشراقات ظلمات الماضي السحيق الغابر والوقوف عندها صاغرين، دون محاولة تجاوزها قصد المشاركة بفعاليّة في حركة التقدّم بالإنسانيّة إلى ما يوفّر لها أسباب الرفاه والرّاحة المنشودة.
والنضال، أعزّك الله، نضالات عديدة، تختلف باختلاف نوعيّة النضال، الذي قد يكون نضالا سياسيّا،من مثل نضال المهاتما غاندي ونيلسون مانديلّا وتشي غيفارا، أونضالا نقابيّا من مثل نضال الزعيم الفرنسي جورج سورالصاحب كتاب”أوهام التقدم” وكتاب”محاكمة سقراط” وخاصة كتابه المثير للحدل” تأملات في العنف ” الذي أكّد فيه أن »التحول الإجتماعي الحق لا يتم بالعقل والإقتناع بل بالعنف« ومن مثلنضال الزعيم التونسي فرحات حشّاد الذي أحرج الإستعمار الفرنسي فاغتالته يد الغدر فيما سمّي باليد الحمراء.  وقد يكون النضال حقوقيّا من مثل نضال هيثم المالح شيخ الحقوقيين العرب أو هيثم المنّاع ومنصف المرزوقي.أمّا النضال  الديني فقد يكون دعويّا خالصا، من مثل ما قام به الشيخ متولّي الشعراوي ويقوم به اليوم الشيخ القرضاوي أو جهاديّا من مثل ما قام به الشيخ أسامة بن لادن، ويقوم به اليوم أيمن الظواهري وأتباعه والسلفيين الجهاديين عامّة.وهو أقرب إلى العبث الذي يهدم ، منه إلى النضال الذي يبني ويحقّق التحوّل الإجتماعي. لا بل قد يكون النضال فكريّا وثقافيّا كذلك، من مثل نضال طه حسين ، الطاهر الحدّاد،فرج فودة ،ناصر حامد أبو زيد، محمّد باقر الصدر ومحمّد أركون أو  محمّد الطالبي ويوسف الصدّيق.
وفي كل الحالات فإنّ النضال لا يخلو من مكابدة ومعاناة ومجاهدة في مواجهة قوى الجمود السياسي والديني والفكري والثقافي التي لا تركن إّلّا إلى التصحّر والقحط، ولا تستسهل إلّا الجلوس على الربوة، ولا تصدر إلا عن أفراد لم يفلحوا في تحرير ذواتهم قبل أن يستحقّواشرف تحرير الآخرين. وهو العصيّ عليهم ولو حاولوا وكرّروا المحاولة وتوهّموا النجاح.
ولعلّي أكتفي لضيق المجال، بعرض ثلاث وقفات نضاليّة مضيئة في المجال السياسي فحسب، تجاوزت المحليّة وأخذت بعدا عالميّا لصدقيّتها وعدم تعامل أصحابها، بعد نجاح تجربة كل منهم، بمنطق الإتّجار والهرولة إلى الغنيمة السياسيّة بما تعنيه من إغتصاب لحقوق الآخرين .
قطعا،أنّ من أبرز المناضلين السياسيين، الذين ظلّوا في الذاكرة الجماعيّة  لكافة الشعوب المحبّة للسلام، نذكر، بكل فخر واعتزاز ، المهاتما غاندي، ذلك الزعيم السياسي و الروحي للهند خلال النصف الأوّل من القرن العشرين. حيث أنّه كان ، وهو المحامي المغتربً في جنوب أفريقيا، رائداً  في مقاومةالاستبدادالبريطاني ومناهضة سياسة التفرقة العنصرية، من خلال العصيان المدنيالشامل، الذي يعتمد اللاعنف الكامل. وهو ما تمّ في مسيرة ملح داندي عام 1930، و كانت مسافتها 400 كيلومترا ، احتجاجا على فرض بريطانيا ضريبة على الملح الهندي .وقد أدّت هذه المقاومة النضاليّة،السلميّةوالشرسة في آن، التي كلّفت غاندي عدّة سنوات من السجن في كل من جنوب أفريقيا والهند، إلى استقلال الهند بأقل الخسائر الممكنة.وهو ما أستلهمتهالحركات التحرّرية و الحقوقية  المدنيّة فيما بعد. ما جعله يلقّب بالمهاتما أي  ‘الروح العظيمة’، كتشريف له . بل ولقّب كذلك ب (أبو الأمة).واعتبر يوم عيد ميلاده ، لا فقط ، يوم  عطلة وطنيّة، بل وكذلك- وهو الأهم- يوماعالمياًللاعنف الذي يعتبره غاندي »أعظم قوّة متوفّرة للبشريّة..إنّها أقوي من أقوي سلاح دمار صنعته براعة الإنسان«
. ولعلّ غاندي كان متأثّرا في ذلك  بالشاعر الأميركي هنري ديفدثورو  صاحب كتاب”العصيان المدني”.لكن، ورغم المواثيق والإتفاقيات الدولية والقوانين الوطنيّة التي تسمح  بالتعويض لمن تعرّضوا للظلم والتعذيب والسجن والتشريد فهل تقاضى هذا الرجل العظيم ما يعوّضه عن السجن والتعذيب؟. الجواب قطعا، لا و الف لأ. لماذا؟.لأنّه لو حصل ذلك، لفقد غاندي تاريخه وإشعاعه النضاليين، ولما كان نظيف العقل واليدين كما ننظر إليه بإعجاب اليوم، بل وكما سينظر له غداوفي كل أوان ومكان. لأنّالنضال الحقيقي يسموبممارسيه  إذا صحّ عكوفهم عليه. ومثلما يقسّم علماء الأصول والتفسير الحديث الى محكم ومتشابه ويقولون أنّ المتشابه، من مثل وصف الجنّة،  قد يحتاج الى نظروتأويل، فإنّي أقول-إن جازت المقارنة- أنّ هناك نضال محكم ونضال متشابه قد يدعونا إلى الريبة والتتشكيك في صدقه وصدقيته، ومنطلقاته ودعاويه.
الوقفة النضاليّة الثانية تتعلّق بنضال الزعيم الجنوب إفريقي، الاسطورة الحيّة نيلسون مانديلا، الذي تأثّر بشكل لافت بالمهاتما غاندي. ويعتبر اليوم الزعيم الأكثر شعبيّة في العالم.إعتبارا لنضاله التاريخي المستميت ضد سياسة التمييز العنصري التي مارستها الأقلّية البيضاءالبريطانيّة في جنوب إفريقيا. والتي كانت تكرّس سياسة الفصل العنصري وتنكر، بصلف وصفاقة، الحقوق السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة للأغلبيّة السوداء.لذلكأضفت عليه قبيلته لقبMadibaأو’العظيم المبجّل’.
إستلهم مانديلا فلسفته، حول المقاومة السلميّة ونبذ العنف ومواجهة الشدائد بعزّة نفس وشموخنادرين، من تجربة المهاتما غاندي الناجحة.فتزعّمحملات المعارضة والمقاومة التي بدأت سلميّة ثمّ ما لبثت أن أصبحت مسلّحة، في تحدّ واضح لهذه السياسة الخرقاء.لا سيما بعد إطلاق النّار على متظاهرين عزّل.وكان من نتائج ذلك أن حكم عليه، بتهمة التخطيط لعمل مسلّح والخيانة العظمى، بالسجن والأشغال الشاقة مدى الحياة، ليقضي في ظروف صعبة وفي زنزانة منفردة مدّة 28 سنة، رفض أثناءها بكبرياء عرضا بإطلاق السراح مقابل إعلان وقف المقاومة المسلّحة. ثم أصبح بعد ذلكرئيسالجنوب إفريقيا ومهندسا للانتقالالديمقراطي  من حكم الأقلية البيضاء إلى حكم الأغلبيّة السوداء، مكرّسا مبدأ التسامح مع من مارسوا عليه سياسة الفصل العنصري.وكان بإمكانه التمسّك بالسلطة كتعويض له على سنوات الجمر التي عاشها مسلوبا من حرّيته وفاقدا لعمله كمحام، لكنّه لم يكن ديدنه التعويض،لانّه كان يناضل من أجل مبادىء سامية ومن أجل شعب ووطن.ولم يكن يناضل من أجل غنيمة سياسيّة ينقضّ عليها في أوّل فرصة.لذلك بقي رمزا للنضال الحقّ،للنضال الصادق، للنضال دون تعويضودون مقابل، مهما كان نوعه. وأي مقابل يمكن أن يوازي حبّ الجماهير له في أقاصي الأرض وأدانيها.
أمّا الوقفة النضاليّة الثالثة فبطلها من عائلة برجوازية عريقة،وهو
الثائر الأرجنتيني الكوبي
“تشي” غيفارا(Che Guevara) .أي الرفيق غيفارا، الذي يعتبراليوم، وبلا منازع ، رغم أنّه كان في الأصل طبيبا وكاتبا، أشهر  ثوري  معاصرضد الاستعمار الجديد والإمبريالية و ضد الرأسماليّة الإحتكاريّة التي يصفها بأنّها مسابقة “بين الذئاب” .حيث أنّه برهن عن مهارة نادرة في زعامة حربالعصابات والقيادة العسكريّة. ممّا جعل منه بالنتيجة، الشخصيّة المحوريّة في الثورة الكوبيّة على النظام الرجعي للديكتاتور فولجنسيوباتيستا الذي أطاحت به الثورة رغمالدعم العسكري الذي قدّمته له الولاياتالمتّحدة الإمبرياليّة. فلم يجد حلّا أمامه سوى الفرار إلى الجمهورية الدومينيكية بشكل درامي ومهين، في سيناريو مشابه لفرار المخلوع بن علي إلى السعوديّة.
علما وأنّ  الدكتور تشي غيفارا كان قدتوجّه إلى الساحة السياسية بحثا عن الكفاح المسلّح،  بعد أن ترك مهنة الطب من أجل»مساعدة هؤلاء الناس« كما قال في كتابه » يوميّات درّاجة ناريّة« الذي يروي فيه رحلته المديدة إلى دول أمريكا اللّاتينيّة, وكان يقصد بذلك، الفقراءالمعدمين الذين عايش  فقرهم وحرمانهم وإصابة بعضهم بأمراض خطيرة. و قد لاحظ بتأثّركبير بؤس الفلاحين الهنود في كل من  بوليفيا وباناما والبيرو وغيرها من بلدان أمريكااللاتيتيّة. كما تأكّد من استغلال الشركات الأمريكية بالشيلي لعمال مناجم النحاس هناكوالذين كان يباشرهم كطبيب.وقدأثّر ذلك أيّما تأثيرفي نفسيّة ”تشي”ليصبح أكثر وعيا بالتفاوت الاجتماعي وبالظلم المستفحلفي أمريكا أللاتينية.حيث شعر بالذهول لشدّة فقر بعض المناطق الريفيّة النائية التي تجعل السكان يضطرّون إلى »قبول فقدان الابن على أنّه حادث غير مهمّ« كما جاء في كتابه المشار إليه. وهو ما جعله يزداد أقتناعا بالواقع “الرهيب” للرأسمالية”الإخطبوط” ويزداد رغبة في الانتقام لهؤلاء المعدمين، من خلالالإلتحاق بصفوف الثوريين،
مؤكّدأأنه لن يرتاح حتّى »يتمّ التغلّب على هذه الأخطبوطات«، كما جاء في قسمه على قبر جوزيف ستالين. ومن هنا قام بتجربته النضالية الأولى في غواتيمالا،حيث شارك  في مقاومة الانقلاب العسكري الذي دبّرته المخابرات الأمريكيّة، والذي أنهى الإصلاحات الزراعيّة الثوريّة التي قامت بها حكومة أربنز الديمقراطية والتي نالت إستحسان تشي غيفارافي حينها.إلّا انّوكالة المخاباراتالمركزّيّة الأمريكيّة صمّمت على اغتياله هناك. لكنّه نجا منهامثلما نجا منمحاولتين أخريين فاشلتين لاغتياله من قبل المنفيين الكوبيين بعد نجاح الثورة الكوبيّة.
وانتقل تشي من غواتيمالا إلى المكسيك، أين تعرّف على فيدال كاسترو، وأين سجن معهصحبة مجموعة متمرّدين كوبيين.ثم ّ توفّق مع هؤلاء لإنجاح الثورة الكوبيّة . ليصبح بعد ذلكمحافظا للبنك المركزي في الحكومة الثورية الوليدة ثم وزيرا للصناعة. وكانت له طاقة عمل جبّارة ، حيث عرف عنه العمل لمدّة 36 ساعة متواصله وعقده لاجتماعات بعد منتصف الليل دون تناول الطعام لعدة أيّام أحيانا . لكنّه، وهو القائل»إنّ الثورة تتجمّد وإنّ الثوار ينتابهم الصقيع حين يجلسون فوق الكراسي، وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمّدة داخلي«فقد فضّل الإستقالةمن جميع مناصبه في الحكومة والحزب ومن رتبة القائد. كما تخلّى عن الجنسيّة الكوبية الفخرية .مكرّسانفسه للثورة في جميع أنحاء العالم. بدءا بقيادة حملات تمرّد في جمهورية الكونغو، ووصولا إلى بوليفيا حيث اغتاله الجيش البوليفي ومستشارو وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بعد أسره، وبعد أن عانى رجال غيفارا من سوء في التغذية ومن شحّ في المياه ونقص في الأحذية بما إضطرّهم للمشي حفاة. بلوعانوا كذلك من البرد الشديد، حيث كانوا يمتلكون ستة بطانيات فقط ل 22 رجل يعيشون في الجبال الوعرة والأودية.
لقد سخّر تشيغيفاراالذيوصفه جان بول سارتر بأنّه »ليس مثقفا فقط ولكنّه أيضا أكمل إنسان في عصرنا«،سخّرحياتهبالكامل للثورة ،حتّى انّهلحظات قبل إعدامه سئل عمّا إذا كان يفكّر في حياته والخلود. فأجاب : »لا أنا أفكّر في خلود الثورة« وفعلا لم يفكّر يوما في الحوافز الماديّة، بدليل إستقالته من جميع المناصب، ولا بمنطق الغنيمة السياسيّة التي هرول إليها مناضلو الإسلام السياسي في تونس ليعوّضوا عن سنوات نضالهم المرتبط بالمعتقد والمطالبة بممارسته بحريّة، وربّما تطبيق الشريعة الإسلاميّة، وليس بتحسين الأوضاع الاجتماعية والسياسيّةوالإقتصاديّة للبلاد، وإرساء الديمقراطيّة وممارسة الحريّات،بما يخدم مصلحة الوطنالذي هو اليوم في حالة وهن. لكنّهم رغما عن ذلكيسعون لمزيد وهنه وربّما تفقيره وجعله مرتهنا للخارج، بإعدادهم لمشروع قانون للتعويضللمساجين السياسيين على سنوات القبض عن الجمر التي عاشوها. بما يثقل كاهل الميزانيّة لعشرات السنين.فأين حبّ الوطن من هذا المسعى. بل وأين هم من المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا ؟ !!! واين هم من النضال الخالص لوجه اللّه الذي قام به تشي غيفارا، ذلك الشيوعي الماركسي اللينيني المعتبر ملحدا وكفره بواح من وجهة نظرهم الفقهيّة؟ !!!وهو ما يذكّرنا بالضرورة  بنظريّةالمستبد العادل -ولو كان كافرا- كنموذج  للحكم الذي يكرّس الفضيلة أكثر ممّا يكرّسها المسلمون غير العادلين.إنّها لمفارقة عجيبة. قد لا يستسيغها ”الإسلامويون” ممّن يدافعون عن سنّ قانون التعويض للمساجين السياسيين في تونس. ولعلّ أفضل جواب على هؤلاء، ما جاء على لسان، من يعتبرونه كافرا هو الآخر، وهو المناضل الشيوعي الكبير حمّة الهمّامي الذي أعلن عن رفضه للتعويض واعتباره أنّ هروب المخلوع بن علي هو أكبر تعويض له.  بهذا المعنى فأنّ الشيوعيين  يكونون أكثر نبلا و(أخلاقا إسلاميّة) من الإسلامويين. أليس كذلك؟