عندما نتحدث عن شرعية النظام، يتردد دائماً حجة أن النظام القائم في العراق إنما هو شرعي لأنه حصيلة الإنتخابات، وهو من مخرجات العملية السياسية، رغم إنتقاداتنا لها. وبما أن النظام السياسي هو ديمقراطي، فمسؤولي الدولة في البرلمان والحكومة هم نتاج الإنتخابات الحرة (والنزيهة ! مع أن هذا العامل قد تحطم نتيجة التزوير الفضيع الذي حدث في الإنتخابات الأخيرة). فالنظرية الديمقراطية الليبرالية الغربية تحدد أن أساس الشرعية في النظام السياسي هو أن تكون حصراً من نتاج العملية الديمقراطية؛ هذا بالاضافة الى إلتزام النظام بضمان الحريات العامة للمواطنين والمسائلة والشفافية لعمل المسؤولين فيه. فالشرعية الديمقراطية الغربية قائمة حصراً على الإنتخابات وعلى الضمانات القانونية لحماية الحريات على أن يكون النشاط الحكومي شفافٌ ونزيه (مع أن عامل النزاهة معدوم في نظامنا بصورة كلية نتيجة الفساد المستشري في عمل مسؤولي الدولة). لذا تصبح العملية السياسية “مقدسة” في النظام الديمقراطي الغربي. ولهذا يتبجح السياسون في العراق بشرعيتهم الديمقراطية، فهم ممثلوا الشعب بالإنتخابات.
ولكن مثل هذه الشرعية تكاد تكون ناقصة بشكل كبير. فالشرعية في العرف الشرقي (الآسيوي أو المجتمعات الإنتقالية) يكون المقدس فيها شيئاً مختلفاً ولا يتصل بالعملية السياسية ولا بالانتخابات. فليس كل مخرجات الديمقراطية ونتائج الإنتخابات فيها تكسب النظام شرعيته. فالشرعية في النظام الشرقي تُحدد حصراً في الأمور التالية (وهي مسؤوليات يقوم بها النظام ويؤديها لشعبه)، وهي:
الإزدهار الاقتصادي
توفير الخدمات العامة للمواطنين
ضمان الحاجات الضرورية الأساسية للعيش الكريم
حفظ السلامة والأمن المجتمعي
هذه الأمور الأربعة هي التي تؤمن للحكومة ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة ونظامها السياسي وتؤمّن أيضاً ثقة المواطنين بالحكام والمسؤولين. فعلى حكام النظام أن يكونوا بدرجات من الكفاءة والخبرة والجدارة في العمل تجعلهم قادرين على القيام بالوظائف والمسؤوليات الأربعة أعلاه، وأن تصبح لديهم القدرة والفاعلية في الإستجابة لمطالب المواطنين بصورة دائمة ومستمرة. ولهذا نجد أن هنالك أنظمة ليست ديمقراطية ولا تجري فيها إنتخابات دورية وقد تكون الحريات الشخصية فيها خاضعة لرقابة الدولة ولكنها تتمتع بالشرعية ويحظى الحكام فيها على ثقة المواطنين بهم.
هنالك أمثلة كثيرة في عالمنا المعاصر على سبيل المثال: سنغافورة، في عهد لي كوان يو، الذي صنع بلده وأنتشلها من الحضيض الى مصاف الدول العظمى؛ والصين من الثمانينات ولحد الآن، وما زال يحكمها الحزب الشيوعي وجعلها القوة العظمى في العالم بعد الولايات المتحدة؛ وحتى اليابان (التي يحكمها حزب واحد منذ الحرب العالمية الثانية على الرغم من توالي الإنتخابات)؛ وفيتنام (ما بعد حروب التحرير)؛ وأغلب دول الخليج (مثل عُمان والكويت والإمارات)؛ وغيرها…
لا يعني أن مثل هذه الأنظمة الآسيوية/الشرقية التي تحظى بالشرعية (القبول الطوعي للمواطنين للنظام الحاكم وثقتهم بالحكام) أنها لا تضمن الحريات أو ينتشر فيها فساد المسؤولين أو تكون فيها حكومات ديكتاتورية نتيجة عدم إجراء الإنتخابات فيها. فالنظام الغربي والشرقي يكادان يتفقان على أن شرعية النظام تعتمد بصورة رئيسة على ثلاثة عوامل، إن فقدتها، فإنها تفقد شرعيتها:
العمل على محاربة الفساد بصورة حثيثة
إلتزام الحكام والمسؤولين بالقانون (القانون فوق كل شيء)
عدالة النظام في معاملة المواطنين بغض النظر عن أصولهم ومعتقداتهم.
فالعرف الآسيوي الشرقي يعتبر نزاهة الحكام والمسؤولين السياسيين من أسس الحكم الرشيد (وتسمى “السياسة النظيفة”)، ويركز هذا الفكر السياسي الآسيوي على أن تكون الحكومة ملتزمة بالقانون وتعامل أفراد الشعب بصورة عادلة، وهذا ما يضفي عليها الشرعية حتى وإن إنعدمت الإنتخابات عندها. وبإختصار، فإن الشرعية الناتجة من مبدأ “السياسة النظيفة” قد تكون حتماً أفضل من مخرجات “الإنتخابات المزورة”. وأن الإنتخابات المزورة (والتي هي إنعكاساً لفساد الحكام) مهما تكررت وتعددت فإنها لا تعطي للنظام شرعيته.