يمضي الزمان؛ وتتغير ملامح الانسان وأبعاد الزمان والمكان ولكن تبقى الذاكرة مؤرِّخا؛ يوثق عطر الأحداث وجمال المواقف.. وعلى الجانب الأكثر إشراقا من الذاكرة تظل ذكريات الصبا والطفولة حاضرة، يقظة؛ بكامل عنفوانها برغم تلاحق الأحداث واحتشاد المواقف .. حشود من ذكريات الصبا والطفولة تقف على حافة الذاكرة؛ تصارع قوى النسيان بعنف وتأبى أن تسقط.. تصارع وكأنها سقيت إكسير البقاء؛…. تفاعل عاطفي و وجداني عندما يتذكر الانسان ايام الطفولة فكلها بالغة الروعة لانها ذكريات و أيام جميلة تمر وتمر و السنوات تنقضي واحدة تلو الاخرى وتتعدد الاحداث في حياتنا ونكبر عاماً بعد عام ولكن يبقى الحنين الى الماضي الى الطفولة الى البراءة مستمرا في أرق العبارات وهي تخط أناملنا على أحلى المواقف وأجمل الذكريات التي تركت أكبر الأثر في نفوسنا بحيث أتذكر هذه الأيام و دموعي تتساقط دونما أشعر…والذي يبكيني أكثر حينما أتذكر والدي الغالي والذي انتقل الى رحمة الله.. فقد كان المرحوم معلما لنا في المدرسة واستاذا في مدرسة الحياة…أتذكر ابتسامته الدائمة وروحه المرحة معنا وهو يضحك مع الصغير والكبير ويسمع من هذا ويصغي لهذه ويطالع الكتب الادبية والسياسية والاجتماعية كثيرا ..لم نعرف منه إلا كلمة واحدة دائما يرددها حينما نطلب منه شيئا أنا وإخوتي وهي كلمة (بةسةرجاو) وتعني (ببطن عيني ) أو ( بعيوني ) لازال صداها يتردد في أذني حتى هذه اللحظة… دخلت الى الصف الاول الابتدائي واول مالاحظت ان المعلم قام بانزال صورة (أحمد حسن البكر ) وعلقوا مكانها صورة (صدام حسين ) باعتباره الرئيس الجديد للجمهورية العراقية . وبعد فترة بدات الحرب العراقية الايرانية وكانت منطقتنا قصبة ( ديانا ) آنذاك تعرف بقضاء الصديق وهو الان قضاء (سوران) وفي كل الاحوال يمكن القول ان الدراسة كانت مستمرة وشيقة في ظل وجود رعاية علمية وتربوية وصحية كاملة و التغذية المدرسية في متناول العملية التعليمية وكنا نتلقى الدروس على يد معلمين اكفاء بمعنى الكلمة ونحن مدينون لهم الى الابد وكنا بين فترة واخرى نتعرض لقصف المدافع والطائرات الايرانية بحيث يدب الهلع والخوف بين الطلاب الصغار حتى اصبحت فيما بعد سمة تعودنا عليها الى درجة أن صوت صفارات الانذار كانت تدوي في مسامعنا بصورة مستمرة .. أيام لايمكن نسيانها بحلوها ومرها.. وكنا نلعب ونتشاجر احيانا لكن تبقى المحبة بيننا مستمرة .. وبما ان والدتي مدرسة اللغة العربية وهي خريجة كلية الشريعة جامعة بغداد في الستينات كانت تعير اهتماما بالغا للغة العربية وتدرسنا في البيت وتشجعنا على الاهتمام بلغة( الظاد ) لذا كانت الرغبة في داخلي تجاه اللغة العربية تنمو يوما بعد يوم وانا اتابع قناة بغداد بما فيها من برامج عربية مثل ( استراحة الظهيرة ) لمحمد حسين عبدالرحيم وامل طه و( العلم للجميع ) للدكتور( كامل الدباغ ) و (قدامة الملاح ) والرياضة في اسبوع (لمؤيد البدري ) اضافة الى المسلسلات الدرامية والافلام العربية والاجنبية بترجمة ( معامل انيس عبيد ) وكانت ترجمة رديئة جدا و سماع البيانات العسكرية التي تبدا بعبارة ( ياحوم اتبع لو جرينه ) بصوت (مقداد مراد) و (رشدي عبدالصاحب) وكانا يؤججان لهيب المعركة لان عنوان المرحلة في تلك الفترة كانت ( لاصوت يعلو فوق صوت المعركة ) و( للقلم والبندقية فوهة واحدة ) وآنذاك بدات ماساة هذا الشعب والهلع والفزع والدموع و الدماء والصراخ والبكاء و أنين الهروب والاختباء وشرارة الحرب تستهدف الجميع دون تميز ودون سابق انذار ؟ ذكريات مؤلمة في خلجات دجلة والفرات . عصافير مزقزقة في سماء العراق المشهور بنخيله وجوزه وجباله و تاريخه و شناشيله فكل من أذرفوا الدموع بسبب ويلات الحرب اتهموا بالضعف والخيانة .. وعلاوة على ذلك كنت اتابع الصحف والمجلات التي تصدر مثل جريدة الراصد والثورة والجمهورية والقادسية ومجلة حراس الوطن وألف باء وكل العرب والرشيد الرياضي بصرف النظر عن مواضيعها لانها كانت تنصب فقط في خانة مدح وتعظيم ( القائد الظرورة ) وحزب البعث المنحل .. لكن غرضي من المطالعة كان لاجل تعزيز وصقل وتنمية تعابيري و قدراتي اللغوية في اللغة العربية وبما ان منطقة ( ديانا ) و راوندوز كانتا بمثبابة الجبهة الخلفية للمعارك كانت قطعات كبيرة من الوية الجيش العراقي متواجدة فيها وكانوا يزودوننا باعداد الصحف اليومية والمجلات المتوفرة لديهم واتذكر اني كنت اتحدث مع الجنود في بادئ الامر بالعربية الفصحى لان منهج الدراسة المدرسية كالنحو والمطالعة والانشاء كانت بالفصحى فاقول لهم ( متى تاتي الجرائد ؟) فيضحكون ويقولون ( بعد شويه ) وفي احدى المرات طلبت منهم مجلة ( كل العرب ) فقالوا مبتسمين ( ماعدنا بس عدنا كل الاكراد ) وكثيرا كانوا يسالوننا عن عادات وتقاليد الشعب الكردي لكن يتحسسون الحديث عن المسائل السياسية بسب خوفهم من بطش النظام الا قلة قليلة منهم وكان اهل المنطقة كرماء معهم جدا ويجب القول انه عندما اندلعت الانتفاضة في كردستان في ربيع عام 1991 لم يصاب أي جندي عراقي في كردستان باية اذى ولم تسقط قطرة دم واحدة منهم باستثناء افراد الامن والاستخبارات الذين كانوا يمارسون القمع والقتل في مدن كردستان وفي كل العراق بالعكس كانت الاهالي يمدون الجنود بالطعام والالبسة الى درجة ان بعض افراد الجيش العراقي كانوا يبكون عندما يرون طيبة وحفاوة الشعب الكردي معهم وقد رايت ذلك بام عيني مرات عديدة… في ايام الصيف كان الجنود يطلبون منا الثلج وكنا نلبي طلبهم وفي فترة فرض الحصار الاقتصادي على العراق ايام غزو الكويت كان الجيش العراقي يعاني من نقص حاد في المواد الغذائية بعكس فترة الحرب العراقية الايرانية وبدورنا كنا نساعدهم قدر امكانياتنا البسيطة ( فقد مرت علينا ايام من فترة الحصار لم نجد فيها ما ناكله او بمعنى اخر لم نستطع تذوق شي كل يوم نستيقظ على اخبار اسوأ من اللتي قبلها.) والحق يقال ان القطعات العسكرية كانوا يعاملوننا بكل لطف واحترام وفي بعض الاحيان كنت ادخل معهم في نقاشات وسجالات سياسية (ممن اثق بهم ) واتحدث لهم عن الحقوق المسلوبة للشعب الكردي وازودهم بمعلومات اضافية عن قائد الثورة الكردية المرحوم ( مصطفى البارزاني ) بالرغم ان عقوبة ذكر اسم (البارزاني ) وتاريخه المجيد كان يصل بالفرد الى عقوبة الاعدام . ومعلوم ان المخابرات العراقية في تلك الفترة اصدرت كتابا عن المرحوم ( مصطفى البارزاني ) بعنوان ( مصطفى البرزاني الاسطورة والحقيقة ) الكتاب من تاليف (فاضل براك ) والغرض منه محاولة من اجهزة الامن العراقية لتشويه صورة المرحوم ( البارزاني) ..بالعكس فقد انقلب السحر على الساحر ودارت الدوائر على الباغي بحيث سارع الناس الى شراء الكتاب لا لقراءتها لان المعلومات كانت مفبركة من قبل أجهزة حزب البعث وغير صحيحة بل لرؤية صور (البارزاني ) وحدث بالصدفة اني عثرت على صورة عم والدتي المرحوم ( وهاب آغا جندياني ) مع البارزاني وكان ( وهاب آغاي جندياني ) رفيق الدرب النضالي للمرحوم( بارزاني) ومن المقربين اليه جدا والصورة كانت ماخوذة أيام جمهورية (مهاباد) الكردية في كردستان ايران عام 1946 ..أعود و أكمل حديثي عن عساكر المنطقة ومن هؤلاء طاب ذكره الملازم الاول ( علي ) لاأعرف اسم والده وكان من اهالي مدينة الموصل متطوع خريج كلية التربية قسم الكيمياء كان انسانا نبيلا ورزينا جدا ويتقبل الراي الاخر وكثيرا ماكان يقول لي أثناء احتدام وسخونة المناقشة وهو يضحك ( والله انتو الاكراد دوختونا ) وقصدي من ذلك اني كنت انتفع من هذه الحوارات وكان سببا مباشرا لتنمية ذخيرتي اللغوية .. وكان والدي (رحمه الله) حريصا جدا على متابعة التزاماتنا الدراسية فكان يقول لنا: تلعبوا تمرحوا تذهبون الى السفرات انتم احرار لكن في نهاية السنة اريد منكم نتيجة ترضيني . لذا كنت متمسكا جدا باداء واجباتي البيتية وكنت دائما أحصل على درجات عالية جدا خاصة في مادة اللغة العربية والسبب حبا في ( الظاد ) خاصة في النحو والانشاء بعكس زملائي في الدراسة .. في الثالث المتوسط واثناء امتحانات البكلوريا وفي مادة اللغة العربية كانت الاسئلة صعبة وأحدثت نوعا من التوتر لدى التلاميذ وكانت احدى مواضيع الانشاء عن فلسطين وثورة الحجر فيها فرأسا ارتجلت أبياتا شعرية من ذاكرتي بدايتها ( تفجر تفجر ياثورة الحجر وهللي بالعز والنصر والظفر ) … وقصدي من وراء المقال بغض النظر عن هذه الذكريات أن جيل الستينات والسبعينات والثمانينات كان جيلا مثابرا دؤوبا متحملا لأعباء الحياة يعرف الاحترام والتمسك بالقيم الاجتماعية ويراعي علاقة الصغير بالكبير ويحرص على المحافظة عليها فضلا عن مستواه العلمي بعكس الجيل الحالي الذي يتصف مع الاسف بالعجز وقلة الثقافة وعدم تحمل اعباء الحياة ودون مبدا همهم فقط التركيز على العلاقات الاجتماعية الخاطئة عن طريق الانترنيت والوسائل الحديثة واستخدامها لغير مرامها الصحيحة ناهيك عن تدني مستواهم الدراسي فكثيرا مانشاهد حملة البكالوريوس في اللغة العربية والانكليزية والاختصاصات الاخرى لايستطيعون الحديث بلغة تحصيلهم الدراسي ولايسعهم كتابة موضوع انشائي في اطار تخصصهم مما اثرت سلبا على العملية التربوية وعلى مستوى الطلاب وقد يكونوا معذورين لبعض الاسباب وعلى راسها طبيعة الظروف التي نمر بها حاليا لكن يجب القول ان المستوي العلمي والمناهج الموجودة الان مختلفة تماما مقارنة بالعقود الماضية وفي تدني ملحوظ مما اثر سلبا على مستوى خريجي المعاهد والكليات من المعلمين والمدرسين وحتى اساتذة الجامعة مع احترامي الشديد لهم والعلة في ذلك أن الرجل المناسب لم يوضع في المكان المناسب ويلاحظ هذا في كل قطاعات الدولة العراقية الحديثة والسؤال هو : هل يستقيم الظل والعود اعوج؟ .