19 ديسمبر، 2024 12:17 ص

شرائح السلطويين

شرائح السلطويين

-1-

القراءة الواعية في تاريخ السلطويين ، توقفنا على شرائح ثلاث منهم :

فهناك السلطويون الذين تمسخُهُم (كراسيهم) إنسانياً وأخلاقياً ، وتنقلهم من خندق الى خندق …

تنقلهم من خندق أصحاب الطباع السليمة، الى خندق أصحاب الغرور والتكبر والاستعلاء والاستهانة بالحقوق والكرامات …

وهناك نمط من السلطويين لاتزيدهم مناصبهم الاّ رفعةً في الخلق ، وتمسكاً بأهداب الدين ، وحرصاً على الخدمة العامة …

وهؤلاء وان كانوا قلّةً – ولكنهم موجودون .

والى جانب الصنفين الأولين ، صنفٌ ثالث يتذبذب بين الحالتين .

فيستقيم طوراً ، وينحرف في طور آخر .

-2-

ومقالتنا هذه ، مكرسة للحديث عن واحدٍ من النمط الثاني ، وهو النمط الرفيع من السلطويين .

-3-

انه تحديداً الصحابي سعيد بن عامر القرشي الجمحي

جاء في ترجمته (أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير ) ج2 ص 241-242 انه :

أسلم قبل خَيْبَر .

وهاجر الى المدينة وشهد خيبر وما بعدها، وكان من زهّاد الصحابة وفضلائهم

يقول ابن الأثير :

{ ولاّه عمر حمص فبلغه أنه يصيبُه لَمَمٌ فأمره بالقدوم عليه – فلم يَرَ معه الاّ عكّازا وقدحاً .

فقال له عمر :

ليس معك الاّ ما أرى ؟ فقال له سعيد :

وما أكثر من هذا ؟

عكّاز أحمل عليه زادي ، وقدح آكلُ فيه فقال له عمر :

أَبِكَ لَمَمٌ ؟

قال : لا

قال :

فما غشية بلغني أنها تصيبُك ؟

قال :

حضرتُ خبيب بن عدي حين صُلب ، فدعا على قريش وأنا فيهم ، فربما ذكرتُ ذلك ، فأجد فترة حتى يُغشى عليّ .

فقال عمر :

ارجع الى عملك ،

فأبى ،

وناشده إلاّ أعفاه “

وواضح من هذا السرد ان الرجل في غاية الزهد والعفة ،

كما انه في غاية الصفاء والسلامة النفسية، بحيث ان دعوةً سمعها على قريش، جعلته ممن يُغشى عليه بين الحين والحين كلما تذّكرها …

وجاء في ترجمته أيضاً :

انه لما قدم عمر حمص (أمرهم ان يكتبوا له فقراءهم، فرفع الكتاب ، فاذا فيه سعيد بن عامر

قال :

من سعيد بن عامر ؟

قالوا يا امير المؤمنين :

أميرنا .

قال : وأميركم فقير ؟

قالوا : نعم ، فعجب ، فقال :

كيف يكون أميركم فقيراً ؟

أين عطاؤه ؟

أين رزقُه ؟

قالوا :

يا امير المؤمنين لايُمسك شيئاً ، قال :

فبكى عمر

ثم عهد الى ألف دينار فصّرها وبعث بها اليه وقال :

أقرئوه مني السلام ، وقولوا له :

بعث بها اليك أمير المؤمنين فاستعن بها على حاجتك

قال :

فجاء بها الرسول فنظر اليها فاذا هي دنانير ، فجعل يسترجع ،

فقالت له امرأتُه :

ما شأنك ؟

أصيب أمير المؤمنين ؟

قال :

أعظم

قالت :

فظهرت آية ؟

قال : أعظم من ذلك

قالت:

فأمر من الساعة ؟

قال :

بل أعظم من ذلك

قالت :

فما شأنك ؟

قال :

الدنيا أتتني

الفتنة اتتني، دخلت عليّ

قالت :

فاصنع فيها ما شئت

قال لها :

أعندَكِ عون ؟

قالت : نعم

فصرّ الدنانير فيها صُرراً، ثم جعلها في مخلاة ، ثم بات يصلي حتى أصبح، ثم اعترض بها جيشاً من جيوش المسلمين فأمضاها كلها .

ولا نريد الآن ان نعقد مقارنة بين ” سعيد بن عامر ” وبين عامة السلطويين المعاصرين ، فانها صعبة مستصعبة ، خاصة مع ما طرأ على الحياة من تغييرات وتطورات .

الا ان المهم : اننا هنا لانتحدث عن نبيّ أو وصيّ نبيّ

انه رجل كسائر الرجال، ولكنه استطاع ان ينتصر على ذاته، وان يتحرر من الأهواء والشهوات ، واستطاع ان يكون رجلاً تداعبه طيوف الجنّة فلا يفتر عما يقرّبُهُ منها …

والمهم أيضاً ان السلطة لم تُخْرِجْهُ عن منهاجه في العبادة والزهادة، وبقي وفياً لمبادئه ورسالته .

ان الرجل الذي تجعله السلطة ، يُطلّقُ المكارم بالثلاث، هو أكبر الخاسرين، بمعايير الدين،

واي خسارة أكبر من هذه الخسارة ؟!!