-1-
القراءة الواعية في تاريخ السلطويين ، توقفنا على شرائح ثلاث منهم :
فهناك السلطويون الذين تمسخُهُم (كراسيهم) إنسانياً وأخلاقياً ، وتنقلهم من خندق الى خندق …
تنقلهم من خندق أصحاب الطباع السليمة، الى خندق أصحاب الغرور والتكبر والاستعلاء والاستهانة بالحقوق والكرامات …
وهناك نمط من السلطويين لاتزيدهم مناصبهم الاّ رفعةً في الخلق ، وتمسكاً بأهداب الدين ، وحرصاً على الخدمة العامة …
وهؤلاء وان كانوا قلّةً – ولكنهم موجودون .
والى جانب الصنفين الأولين ، صنفٌ ثالث يتذبذب بين الحالتين .
فيستقيم طوراً ، وينحرف في طور آخر .
-2-
ومقالتنا هذه ، مكرسة للحديث عن واحدٍ من النمط الثاني ، وهو النمط الرفيع من السلطويين .
-3-
انه تحديداً الصحابي سعيد بن عامر القرشي الجمحي
جاء في ترجمته (أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير ) ج2 ص 241-242 انه :
أسلم قبل خَيْبَر .
وهاجر الى المدينة وشهد خيبر وما بعدها، وكان من زهّاد الصحابة وفضلائهم
يقول ابن الأثير :
{ ولاّه عمر حمص فبلغه أنه يصيبُه لَمَمٌ فأمره بالقدوم عليه – فلم يَرَ معه الاّ عكّازا وقدحاً .
فقال له عمر :
ليس معك الاّ ما أرى ؟ فقال له سعيد :
وما أكثر من هذا ؟
عكّاز أحمل عليه زادي ، وقدح آكلُ فيه فقال له عمر :
أَبِكَ لَمَمٌ ؟
قال : لا
قال :
فما غشية بلغني أنها تصيبُك ؟
قال :
حضرتُ خبيب بن عدي حين صُلب ، فدعا على قريش وأنا فيهم ، فربما ذكرتُ ذلك ، فأجد فترة حتى يُغشى عليّ .
فقال عمر :
ارجع الى عملك ،
فأبى ،
وناشده إلاّ أعفاه “
وواضح من هذا السرد ان الرجل في غاية الزهد والعفة ،
كما انه في غاية الصفاء والسلامة النفسية، بحيث ان دعوةً سمعها على قريش، جعلته ممن يُغشى عليه بين الحين والحين كلما تذّكرها …
وجاء في ترجمته أيضاً :
انه لما قدم عمر حمص (أمرهم ان يكتبوا له فقراءهم، فرفع الكتاب ، فاذا فيه سعيد بن عامر
قال :
من سعيد بن عامر ؟
قالوا يا امير المؤمنين :
أميرنا .
قال : وأميركم فقير ؟
قالوا : نعم ، فعجب ، فقال :
كيف يكون أميركم فقيراً ؟
أين عطاؤه ؟
أين رزقُه ؟
قالوا :
يا امير المؤمنين لايُمسك شيئاً ، قال :
فبكى عمر
ثم عهد الى ألف دينار فصّرها وبعث بها اليه وقال :
أقرئوه مني السلام ، وقولوا له :
بعث بها اليك أمير المؤمنين فاستعن بها على حاجتك
قال :
فجاء بها الرسول فنظر اليها فاذا هي دنانير ، فجعل يسترجع ،
فقالت له امرأتُه :
ما شأنك ؟
أصيب أمير المؤمنين ؟
قال :
أعظم
قالت :
فظهرت آية ؟
قال : أعظم من ذلك
قالت:
فأمر من الساعة ؟
قال :
بل أعظم من ذلك
قالت :
فما شأنك ؟
قال :
الدنيا أتتني
الفتنة اتتني، دخلت عليّ
قالت :
فاصنع فيها ما شئت
قال لها :
أعندَكِ عون ؟
قالت : نعم
فصرّ الدنانير فيها صُرراً، ثم جعلها في مخلاة ، ثم بات يصلي حتى أصبح، ثم اعترض بها جيشاً من جيوش المسلمين فأمضاها كلها .
ولا نريد الآن ان نعقد مقارنة بين ” سعيد بن عامر ” وبين عامة السلطويين المعاصرين ، فانها صعبة مستصعبة ، خاصة مع ما طرأ على الحياة من تغييرات وتطورات .
الا ان المهم : اننا هنا لانتحدث عن نبيّ أو وصيّ نبيّ
انه رجل كسائر الرجال، ولكنه استطاع ان ينتصر على ذاته، وان يتحرر من الأهواء والشهوات ، واستطاع ان يكون رجلاً تداعبه طيوف الجنّة فلا يفتر عما يقرّبُهُ منها …
والمهم أيضاً ان السلطة لم تُخْرِجْهُ عن منهاجه في العبادة والزهادة، وبقي وفياً لمبادئه ورسالته .
ان الرجل الذي تجعله السلطة ، يُطلّقُ المكارم بالثلاث، هو أكبر الخاسرين، بمعايير الدين،
واي خسارة أكبر من هذه الخسارة ؟!!