23 ديسمبر، 2024 9:39 ص

شذرات من حياة الشيخ المفيد (رحمه الله) (336-413 هـ) في تاريخ الفكر الاسلامي

شذرات من حياة الشيخ المفيد (رحمه الله) (336-413 هـ) في تاريخ الفكر الاسلامي

هو ابو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي ، العكبري ، البغدادي ، المعروف بالشيخ المفيد ، وبابن المعلم . والملَّقب ايضا بشيخ المشايخ الأجلّة ورئيس رؤساء الملّة فخر الشيعة ومحي الشريعة علم الحق ودليله ومنار الدين وسبيله اجتمعت فيه خلال الفضل وانتهت إليه رئاسة الكل واتفق الجميع على علمه وفضله وفقهه وعدالته وثقته وجلالته.

ولد سنة 336 ه ، وقيل : سنة 338 ه ، في بلدة عكبرا [اسم بليدة من نواحي دجيل ، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ . ينظر: ياقوت ،معجم البلدان ،ج4 ،ص142] ترعرع في كنف والده الذي كان معلما في واسط ، ولذا كان ابنه يكنى بابن المعلم . انحدر به أبوه إلى بغداد وهو بعد صبي ، وبغداد حينذاك حاضرة العلم ، و مركز الحضارة وعاصمة العالم الإسلامي كله ومهد العلماء. وهو من الشخصيات الإسلامية الفذّة التي يفتخر ويسمو بها مذهب اهل البيت(عليهم السلام).

وأما وجه تسميته بالمفيد قال الشيخ النوري في كتابه مستدرك وسائل الشيعة: ولقبّه المفيد صاحب الزمان(صلوات الله عليه) والمشهور أنَّ لقبه هذا إنما لقبه به بعض علماء العامة. وقيل لقبه الشيخ الرماني ب ( المفيد ) ، لسبب محاجته المعروفة معه ، وكان المترجم له يقرء آنذاك على أبي عبد الله الحسين بن علي المعروف ب ( جعل ) في منزله بدرب رباح . شيوخه وأساتذته يربون على الخمسين ، جلهم من أقطاب المدرسة البغدادية ، في الأدب والفقه والحديث وغيرها . وصفاته : كان شيخا ، أسمر نحيفا ، قوي النفس ، كثير البر والصدقات ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، حسن اللباس ، يلبس الخشن من الثياب ، دقيق الفطنة ، ماضي الخاطر ، حسن اللسان والجدل ، صبور على الخصم ، ضنين السر ، جميل العلانية . كان له مجلس نظر في داره بدرب رباح ، يحضره كافة العلماء من سائر الطوائف ، يناظر أهل كل عقيدة ، زاره ابن النديم صاحب الفهرست في ذلك المجلس و قال عنه : شاهدته فرأيته بارعا . كان مديما للمطالعة والتعليم ، من أحفظ الناس وأحرصهم على التعليم ، يدور على حوانيت الحاكة والمكاتب فيتلمح الصبي الفطن فيستأجره من أبويه .

مؤلفاته ومصنفاته ناهزت المائتين أو جاوزتها (كتاب ورسالة) في الفقه والكلام والحديث من هذه المؤلفات :الأرشاد في معرفة حجج الله على العباد، والأختصاص، والأمالي ، والمقنعة. وغيرها الكثير.

لقد كان من جملة مقتضيات الزعامة العامة للإمامية التي بلغها الشيخ المفيد(رحمه الله ) في زمانه ، وجود نواب له ، وممثلين عنه في كثير من النواحي والبقاع في أرجاء المعمورة ، حيث تواجد الشيعة الإمامية . ومن البديهي أن النائب يمثل امتدادا طبيعيا للعقيدة عنه واتجاهاته وانطباعاته عن الأشياء ، ويبقى كلما أشكل عليه أمر استرشد بموكله ، واستمد من توجيهاته ، فارسل إليه وكيله من ناحية ( صاغان ) ، وكان قد أدلى بها فقيه

الأحناف في ذلك البلد ، ولم يكن له بد من إرسالها إلى زعيم الإمامية ليجيب عنها ويشفعها بالأدلة والبراهين ، فتصدى لها الشيخ المفيد .

ولابد من الاشارة انه في القرن الخامس الهجري انتقلت المدرسة من ( قم والري ) إلى ( بغداد ) حاضرة العالم الإسلامي عامة . وكان لهذا الانتقال أسباب عديدة :نذكر منها ضعف جهاز الحكم العباسي ، حيث ضعفت سيطرتهم في هذه القترة ، ودب الانحلال في كيان الجهاز ، فلم يجد الجهاز القوة الكافية لملاحقة ( الشيعة ) والضغط عليهم . وظهور شخصيات فقهية من بيوتات كبيرة . ( كالشيخ المفيد والسيد المرتضى ) فقد كان هؤلاء يستغلون مكانة بيوتهم الاجتماعية ، ومكاناتهم السياسية في نشر ( الفقه الشيعي ) وتطوير ( دراسة الفقه ) . و توسعت المدرسة البغدادية وتضخمها مما أدى إلى احتلال ( بغداد حاضرة العالم الإسلامي ) في ذلك الوقت ، وقد كانت هذه البيئة الجديدة صالحة لتقبل هذه المدرسة ، وتطويرها وخدمتها . فهي مركز ثقافي كبير من مراكز الحركة العقلية في العالم الإسلامي يقطنها الآلاف من الفقهاء والمحدثين ،فكان لانتقال المدرسة إلى هذا الجو الفكري على يد علماء كبار أمثال ( المفيد والمرتضى والطوسي ) أثر كبير في الحركة الفكرية القائمة في حينه ، وظهرت ملامح الاستقلال عليها وتبلورت أصولها وقواعدها في بغداد. ان عناية ( الشيخ المفيد ) ومكانة أسرته الاجتماعية تفرض شخصيته في الآداب الاجتماعية ، والثقافية ببغداد . ولم يتوقف أستاذه الأكبر ( المفيد ) وتولى بنفسه مهمة التدريس ، وزعامة الطائفة ، واحتشد حوله الطلاب . وكان يجري عليهم حقوقا تختلف حسب مكانة الطالب منه ومؤهلاته .

كما وقعت في أيامه اضطرابات وفتن طائفية في بغداد ، وكان من مقتضيات السياسة الحاكمة آنذاك (الحكم العباسي)نفي الشيخ المفيد من بغداد ، ووضعه تحت الإقامة الجبرية خارجها ، ونصرة المعتدين عليه . فمن ذلك ما حدث سنة ( 393 ه ) ، وتكرر في رجب عام ( 398 ه ) ، وكان إخراج المفيد من بغداد ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان ، إلى أن شفع فيه علي بن المزيد فأعيد . توفي ليلة الثالث من شهر رمضان في بغداد ، وهو في العقد الثامن من عمره المملوء بالكفاح ، سنة ( 413 ه ) ، و شيعه ثمانون ألفا من الباكين عليه . صلى عليه تلميذه الشريف المرتضى الموسوي ، بميدان الأشنان ، وضاق بالناس على كبره . دفن بداره في بغداد ، ثم نقل إلى مقابر قريش ، فدفن عند رجلي الإمام محمد بن علي الجواد ( عليه السلام ) وقبره في البقعة الكاظمية ، بجنب أستاذه الشيخ أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمي ، صاحب كتاب ( كامل الزيارات ) .

رثاه الشريف المرتضى ، والشيخ عبد المحسن الصوري وغيرهما من الشعراء ، و من أروع ما رثي به مرثية مهيار الديلمي ، التي جاوزت تسعين بيتا ، والتي يقول فيها :

مـــــا بـعـــد يـومـك سـلوة لــمعـلل * مــــني ولا ظفرت بـــسمع مـــعذل

سوى المصاب بك القلوب على الجوى* فيد الجليد على الحشا المتململ

فسلام عليه يوم ولد ويوم مات وهو مدافعٌ عن ولاية أهل البيت (عليهم السلام) ويوم يبعثُ حياً.