18 ديسمبر، 2024 9:04 م

شتان ما بين : لثام ولثام

شتان ما بين : لثام ولثام

وجوه معظم العراقيين من المعتمدين في معيشتهم على الرضا بالرزق الحلال جميلة ونضرة ، حتى وان بان على بعضها آثار تعب الزمان بسبب الحروب والحصار والظلم والحرمان ، والعراقيون الاصلاء من معروفي الحسب والنسب عرف عنهم في القديم والحديث الشجاعة والجرأة وقدرتهم في المواجهة وعلى التعبير عن مظلوميتهم في أحلك المواقف حتى وان أدى ذلك إلى ما لا تحمد عقباه ، نقول هذا ليس مدحا او ذما وإنما تعجبا من ظاهرة أخذت تنتشر وتتوسع منذ سنين وهي وضع اللثام على الوجوه كلا او جزءا لإخفاء معالمها ، فالبعض من رجال الأمن يضعون اللثام عندما يشاركون في واجب القبض على السراق والمجرمين وفي مختلف الجنايات حتى إن كانت مخالفات خفيفة في بعض الاحيان ، وبعض المتظاهرين السلميين المطالبين بحقوقهم المشروعة في اغلب الساحات يضعون اللثام موشحا بعلم العراق او ( الغترة ) او ( اليشماغ ) او بوضع الكمامات على أجزاء مهمة من الوجه او بارتداء النظارات المعتمة وغيرها من وسائل إخفاء الوجه او بعض من ملامحه أثناء التصوير واللقاءات التلفزيونية او تسجيلات اليو تيوب ، ومن يعتدي على المتظاهرين من حملة السكاكين او القناصين او البلطجية ممن امتهنوا القتل او وصنع العاهات او بث الرعب في الليل والنهار يرتدون اللثام أيضا على كامل الوجوه ، وفي بعض الاحيان يتواجه الملثمون بعضهم مع بعض بالسب او الشتم او القذف او الاقتتال بالأيدي او الأسلحة البيضاء او بالأسلحة الخفيفة او المتوسطة ، حتى باتت المسالة لثام ولثام .
وهذه المسالة التي لم تسلط عليها الأضواء الكافية لتشخيصها وتحليلها ووضع الاستنتاجات والمعالجات المناسبة لها جديرة بالاهتمام ، فوضع اللثام يعبر عن حالة غاية في الحساسية لأنها تعبر عن فقر الثقة وربما إدمان الخوف من التداعيات كما إنها تكرس لعادات جديدة في تجنب المواجهة وربما يشير ذلك إلى الكثير من المدلولات ، فالعرف العام إن رجال الواجب الرسمي في الجيش والشرطة وفي أي جهاز إداري مدني او عسكري محميا بموجب القوانين ، وجزءا من الشرعية والشفافية تتطلب الكشف عن هويته وصلاحياته والجهة التي كلفته ونوع الإجراءات التي يتوجب اتخاذها لكي يتعاون معه الآخرون ، وإن تطلب الأمر قدرا من المباغتة والتخفي فان اللثام ليس حلا مثاليا لأغلب الحالات ، أما المطالبون بالحقوق الشرعية فإنهم لا يحتاجون اللثام لأنهم أكثر جرأة من الآخرين في التعبير والتصدي فغالبا ما يشكل المتظاهرون نسبة محددة من مجموع المعترضين لأنه ليس بالضرورة أن يتحول كل المعترضين إلى معتصمين او متظاهرين ، ولكن وضع اللثام يعبر أيضا عن حالة من عدم الثقة عندما يخشىون المطاردة والخطف خارج أماكن الاعتصام من غير الأجهزة المختصة حتى وان كانوا يتمتعون بقدرات أعلى من الغير في التعبير والمواجهة والتحمل فحماية النفس أحيانا أسمى حالات التعبير ، فالمعترضون يضعون درجات محددة للمخاطرة وفي اغلب الاحتمالات لاتصل مستوياتها إلى التصفية بالقتل او الموت لان القوانين والدساتير لمعظم الدول المتحضرة تعطي الشرعية في التعبير عن الرفض بالطرق الشرعية ومن واجب الأجهزة المختصة حماية المتظاهرين إن التزموا بقواعد هذه الممارسة الديمقراطية من حيث تحديد الزمان والمكان وعدد المشاركين وشكل التعبير ، أما المجرمون والمعتدون وغيرهم ممن يرتكبون المخالفات والجنح والجنايات فإنهم يضعون اللثام لأنهم يدركون تمام الإدراك أن ما يقومون به هو خارج القانون ، لذا فان وضعهم اللثام او أغطية او التغيير بملامح أجسامهم ووجوههم من باب التنكر هي مسالة متعارف عليها لنوعهم الانهزامي من باب التنصل والتملص ومحاولة للتخلص من الإجراءات القانونية عن الأفعال التي يقومون بها والتي غالبا ما يدركون مقدار جزاءاتها اجتماعيا وقضائيا .
وشتان ما بين لثام ولثام ، فلثام المظلومين والمقهورين والمسروقين ابيضا بل ناصع البياض حتى وان احتوى على ألوان أخرى تشبع علم العراق ، ووجوههم بارقة في الدنيا والآخرة إن شاء الله لأنهم على حق والله خير ناصر للمظلومين ، وهم حين يضعون اللثام ليس هروبا او خجلا وإنما لتقليل الأخطار والمخاطرة في وضع قد تختلط فيه الأمور في بعض المرات فيظهر في المعادلة طرف جديد لا يجيد غير الأدوات الحسابية في الظلم بالضرب او القسمة والتصفية بكل ما يتيسر له من الأدوات ، أما وضع اللثام من قبل من ينفذ الواجب ويدعي انتمائه إلى جهات رسمية فإنها مسالة تحتاج إلى مراجعة وقرارات من قبل ذوي الشأن ، لان اللثام في حالات تنفيذ الواجب يترك انطباعا سلبيا عند الآخرين لا يخلو من المخاوف والشكوك والقلق وهو ما يؤدي إلى نوع من الصراعات والتصادم في بعض الحالات ونترك لأهل العلاقة قضية معالجتها لكي لا تتفاقم لأكثر مما هو سائد في بعض الحالات ، والعجب العجاب فيما لم نذكره في أعلاه وهو أن يخرج فتى عشرينيا ( من الذكور او الإناث ) معتصما او متظاهرا سلميا بالتمام والكمال ليطالب بحقوقه في الدراسة او العمل لخدمة البلاد والعباد او للحصول على ابسط الحقوق من متطلبات المعيشة او الخدمات بما فيها إيجاد علاج لامه او أبوه او احد أخوته وقد تحمل عناء بقاءه مطالبا أياما وأسابيع بنقص في الأكل والشرب والدفء والاغتسال ، فيأتي ملثما في ظلمة الليل ليرديه بوابل من الرصاص الخارج من سلاح مجهول المصدر والتمويل ليكون قتيلا تتناقل جثته الطرية عربات ( ألتك تك ) فينقلوه إلى مستشفى الميدان التي يديرها المتطوعون الشباب وعندما لا يجدون أملا في إسعافه وعلاجه تنقله سيارات الإسعاف إلى الطب العدلي لكي تبدأ سلسلة النحيب واللطم والبكاء مأسوفا على شبابه الذي قضاه بالحرمان ، وتذهب روحه الطاهرة إلى ما يشاء الله بينما يهرب الملثمون القتلة بسياراتهم المسرعة ليزفوا نبأ تنفيذ المهمة بنجاح ليحصلوا على مباركة من أرسلهم للقتل ، وبعدها يلوذون بالفرار كما هو الحال في كل المرات ويتوارون عن الأنظار فتسجل القضية ضد ملثم مجهول ، وتتكرر الحالة مرة ومرات فيزداد الملثمون عددا وتتكرر دعوات أمهات الشهداء للكشف عن هوية الملثمين دون جواب .