لن يَقـْبَلَ الشعبُ الكردي بالعودة إلى الوراء بالسماح لبغداد لممارسة اية سلطة على إقليمهم، حتى تلك السلطات التي اقرها الدستور للحكومة الاتحادية. وليس هذا فحسب، فالأكراد لن يهدأ لهم بال قبل انّ يـُتَوجوا حلمهم القومي بإعلان الدولة الكردية. ولهذا انفتح ملف إدارة الدولة، وبدأت القوى الكردية تطالب بصوت عالٍ وحاسم لجعل نظام الحكم برلمانيا بدلا عن النظام الرئاسي الذي يصر عليه الحزب الديمقراطي الكردستاني، الواجهة السياسية لآل بارزاني، لتسهيل تمرير التوريث واستمرار سطوة العشيرة على مقدرات الإقليم [= الدولة المستقبلية].
لقد قدَّمَت حركةُ تغيير الكردية المعارضة التي تحتفظ بخمسة وعشرين مقعدا في برلمان إقليم كردستان منذ أكثر من عامين مشروعا للإصلاح السياسي في إقليم كردستان حول رئاسة الإقليم ورئاسة مجلس الوزراء، طالبَتْ فيه بتعديل النظام الداخلي للبرلمان وتنشيطه وتنظيم عمل القوات المسلحة في كردستان بتحويل عمل القوات المسلحة الحزبية إلى قوات وطنية ومنع التحزب داخل تلك المؤسسة والتدخل الحزبي في المؤسسات الحكومية وتنظيم المنح المالية للأحزاب بقانون وضمان حرية التعبير.
ولم تلقى مطالبات حركة تغيير صدى يذكر إلا بعد لقاء نوشيروان مصطفى، المنسق العام للحركة، وجلال طالباني، رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بتاريخ 24-09-2012. حيث صرح نوشيروان عقب الاجتماع بأنهما تبادلا «الآراء حول مجمل الأوضاع المتعلقة بالإقليم والمنطقة، وكانت الآراء متطابقة، والنقطة الأهم التي ركزنا الحديث حولها، وكانت آراؤنا متفقة بشأنها، هي مسألة إجراء الإصلاحات السياسية والإدارية والقانونية بالإقليم، وسنبدؤها بإعادة مشروع دستور الإقليم إلى البرلمان وكذلك جميع القوانين التي تحتاج إلى توافق وطني من أجل تعديلها بما يحقق ذلك التوافق. أما طالباني، فقد أكـّدَ انّ وجهات نظر الطرفين كانت متطابقة «وحتى لو لم تكن متطابقة، فإنها متقاربة جدا. وهذه هي البداية لمرحلة جديدة من التعاون والتنسيق بين غوران [= حركة تغيير] والاتحاد الوطني الكردستاني». واضاف طالباني «صحيح ان لدينا اتفاقية استراتيجية مع الديمقراطي الكردستاني، لكن هذا لا يعني ان لا نختلف في وجهات النظر». [المصدر: جريدة الشرق الأوسط السعودية 25-09-2012 وجريدة العالم العراقية 04-10-2012].
وبعد مرور اقل من عشرة ايام على الاجتماع المذكور، وجـَّهَ السيد عادل مراد، رئيس المجلس المركزي للاتحاد الوطني الكردستاني، اﻧﺘﻘﺎدات ﺸديدة إﻟﻰ اﻟﺤﺰب الديمقراطي اﻟﻜﺮدﺳﺘﺎﻧﻲ ﺣﻮل ﺣﺮﻣﺎن أﻋﻀﺎء وأﻧﺼﺎر الاتحاد اﻟﻮطﻨﻲ وﺣﺮﻛﺔ تغيير واﻟﻘﻮى اﻹﺳﻼﻣﯿﺔ واﻟﻌﻨﺎﺻﺮ اﻟﻜﻔوءة واﻟﻤﺴﺘﻘﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻤﻨﺎﺻﺐ واﻟﻮظﺎﺋﻒ ﻓﻲ ﻣحافظة دهوك واﻟﻤﻨﺎطﻖ اﻷﺧﺮى ﻓﻲ ﺣﺪود ﻣﺤﺎﻓﻈﺔ اﻟﻤﻮﺻﻞ اﻟﺨﺎﺿﻌﺔ ﻟﻨﻔﻮذ ھﺬا اﻟﺤﺰب، وأوضح انه «أﺻﺒﺢ ﻣﻦ اﻟﻨﺎدر أن ﺗﺠﺪ وﻟﻮ ﺷﺮطﯿﺎ واﺣﺪا ﻣﻦ أﻧﺼﺎر الاﺗﺤﺎد اﻟﻮطﻨﻲ ﻓﻲ وظيفة حكومية ھﻨﺎك».
ودعا مراد الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى «إﻋﺎدة اﻟﻨﻈﺮ بمواقفه ﻣﻦ الاﺣﺰاب واﻟﻘﻮى اﻷﺧﺮى ﺑﻜﺮدﺳﺘﺎن، واﻟﺴﻤﺎح ﻟﮭﺎ ﺑﺎﻟﻤﺸﺎرﻛﺔ اﻟﺤﻘﯿﻘﯿﺔ، ﻓﻠﯿﺲ ﻣﻌﻘﻮلا أن ﺗﻄﺎﻟﺐ قيادة ھﺬا اﻟﺤﺰب ﺑﻐﺪاد ﺑﺎﻟﺘﺰام ﺣﻜﻢ اﻟﺸﺮاﻛﺔ اﻟﻮطﻨﯿﺔ، ﻓﻲ وﻗﺖ ﺗﺴﺘﺄﺛﺮ ﻓﯿﮫ ﺑﺤﻜﻢ ﻣﻨﻄﻘﺔ واﺳﻌﺔ ﻣﻦ ﻛﺮدﺳﺘﺎن ﻣﻦ دون إﺷﺮاك اﻵﺧﺮﯾﻦ». وبَيـَّنَ مراد أنّ «اﻟﻤﺼﺎﻟﺤﺔ ﺑﯿﻦ الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة تغيير ﺳﺘﺆدي إﻟﻰ ﺗﺪﻋﯿﻢ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ الديمقراطية ﻓﻲ اﻹﻗﻠﯿﻢ، وﻟﻦ ﺗﻜﻮن ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺎب أي طﺮف آﺧﺮ». [المصدر: جريدة الشرق الأوسط السعودية 02-10-2012].
جاء رد الديمقراطي الكردستاني على لسان ادهم بارزاني المثير للجدل، حيث ابدى اسفه من «موقف الاتحاد الوطني او ما أبداه من موقف في اجتماعه مع حركة التغيير حول الدستور، كان من الافضل للاتحاد الوطني ان ينهي محادثاته مع حليفه الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يرتبط معه باتفاقية ستراتيجية؛ ثم يأتي الاتحاد الوطني ويناقش مع جهات اخرى خارجة عن هذه الاتفاقية هذا الموضوع، طـُرِحَت بعض الانتقادات وسَمِعْتُ رأياً يقول ان الاتحاد الوطني استعجل في ابداء هذا الموقف مع حركة التغيير».
والمَحَ ادهم لوجود نية مُبَيـَّتة لدى الاتحاد الوطني الكردستاني للتنصل من التزامات الشراكة الستراتيجية، حيث قالَ انه «كانت هناك اجتماعات طويلة جدا وجَـرَتْ منذ مدة ليست بقصيرة مناقشات ومحادثات مستمرة بين الجهتين وفي هذا الاجتماع الذي حدث بعد عودة الرئيس جلال طالباني الى السليمانية من اوروبا، في هذا الاجتماع [= اجتماع جلال ونوشيروان] كانت ورقة العمل حاضرة لإبداء المواقف حول الكثير من المسائل ومنها موضوع اعادة الدستور الى البرلمان».
ودافع ادهم بارزاني عن دستور كردستان قائلا «استطيع ان اقول بصورة مطلقة ان الدستور كامل من كل النواحي، والدستور في هذه الفترة مناسب لطرحه على الاستفتاء، ويشغل بالي شخصيا سؤال هو لماذا تأخر برلمان كردستان لطرحه للاستفتاء، وكان يجب طرحه قبل فترة، وتطالب بعض الجهات الان بإعادته للبرلمان مرة ثانية وصياغته بشكل آخر».
وفيما يبدو انه تعريض بالاتحاد الوطني واتهامه بمحاباة حركة تغيير على حساب الحزب الديمقراطي الكردستاني، قال ادهم بارزاني أن «حركة التغيير لم تنشق عن الاتحاد الوطني وحدث هذا الموضوع في عام 2009 ومنذ وقتها لدي شخصيا ارائي في هذا الموضوع، بأنه لا يمكن تجزئة حركة التغيير في كردستان عن سياسة الاتحاد الوطني الكردستاني ولا يمكن الفصل بين الحركتين بأي شكل، من حيث الواقع والتاريخ والعلاقات التي تربط هذه الاتجاهات مع بعضها وعلى هذا الاساس وكما يتصور الكثيرون في كردستان بأنه حدث انشقاق في الاتحاد الوطني وأعلنت حركة التغيير عن نفسها في انتخابات 25 تموز عام 2009. ولكن كما قلت في تلك الفترة والآن اؤكد ان هذه الحركة لا تستطيع ان تتجزأ عن الاتحاد الوطني الكردستاني. [المصدر: موقع شفق نيوز 07-10-2012].
إنّ حركة تغيير، فيما يبدو، قد عقدت العزم على ابقاء مطلب الإصلاح في واجهة الأحداث ووضعته في اعلى سُلـَّم اولوياتها، فتصريحات مسؤوليها تتوالى بلا انقطاع مطالبة بالاصلاح، فقد اكد يوسف محمد، رئيس قسم الابحاث في حركة غوران، ان «حزبه يطالب بإقامة نظام برلماني لأن النظام الرئاسي او النظام الهجين، حتى وان مُورِس في هذه المنطقة، إلا انه ادى الى تركيز كل السلطات بيد شخص واحد، فكانت النتيجة هي التوجه نحو الدكتاتورية». [المصدر: جريدة العالم الغراء 04-10-2012]. ثم أكد محمد توفيق رحيم، القيادي في الحركة، أن الخطوة المقبلة للحركة هي «العمل بالتنسيق والتفاهم مع الاتحاد الوطني وأحزاب المعارضة داخل البرلمان لصوغ دستور ينسجم ويلائم الوضع في الإقليم، ونؤكد ضرورة جعل نظام الحكم برلمانياً، بينما يطالب الديمقراطي بأن يكون رئاسياً». [المصدر: جريدة الحياة 05-10-2012].
أما الموقف الاشد حزما ووضوحا فقد تمثل في ما اقدم عليه نوشيروان مصطفى المنسق العام لحركة التغيير، ومحمد فرج امين عام الاتحاد الاسلامي، وعلي بابير امير الجماعة الاسلامية في كردستان، حين رفضوا حضور الاجتماع الوطني الذي دعا إليه مسعود بارزاني، وعقدوا اجتماعا مقابلا في اربيل في نفس اليوم (17-10-2012) شددوا فيه على ضرورة اعادة مشروع دستور الاقليم الى البرلمان الكردستاني لإدخال التعديلات الضرورية عليه وبما يغير النظام السياسي القائم في الاقليم من الرئاسي الى البرلماني. أما اختيار اربيل مكانا لاجتماع المعارضة، فقد احتوى على رمزية وحِرَفية عاليتين، عبر التأكيد على ان المعارضة ليست مناطقية مقتصرة على السليمانية فحسب. بكل بساطة، إنّ الشعبَ الكردي لا يريد أن تستحوذ عائلة بعينها على كل مفاصل الدولة تحت مُسَوِّغ الشرعية الثورية وضرورة المرحلة وغيرها من المسوغات البائسة التي بار سوقها بفعل الربيع العربي.
وفيما يتعلق بعدم مشاركة قادة المعارضة في الاجتماع الذي عقده مسعود بارزاني مع القوى السياسية الكردية، قال نوشيروان: «نحن نعتقد بأن الأهم هو أن نركز على الأوضاع في إقليم كردستان وعدم الانشغال بمسائل جانبية»، وهو تعليق قصير وبليغ جدا، طالب فيه نوشيروان مسعوداً بالكَفِّ عن استخدام ملف العلاقة مع بغداد للالتفاف على المطالب المحلية المُلِحـّة، وإنّه ليس من الإنصاف انّ يحدد بارزاني بمفرده اولويات الشعب الكردي، وليس لمسعود انّ يجُـرَّ كل الأكراد في خلافه الشخصي المستحكم مع رئيس الوزراء نوري المالكي.
إن الخلاف الكردي ـ الكردي لن يضعف الأكراد، فترتيب البيت الكردي شأن داخلي يقبل الخلاف وحتى الخصام، وستبقى الاحزاب الكردية موحدة كالبنيان المرصوص بوجه بغداد قدر تعلق الأمر بمصلحة كردستان.
إن الظروف الإقليمية المحيطة تكاد تصيب بغداد بالدوار، فمن سوريا الملتهبة، مرورا بتركيا التي تتعامل معنا بعقلية السلاطين العثمانيين، وإيران التي تقف على شفا حفرة من حرب مدمرة، الأمر الذي قد يدفعها لسلوك عدواني أكثر خطورة من إرسال الطائرة المُسَيَّرة إلى اسرائيل بمساعدة حزب الله اللبناني، وانتهاءا بالسعودية التي ترى الأمور بالأبيض والأسْوَد فقط، فمن ليس معها في صراعها مع إيران فهو ضدها. لهذا سيكون من المفيد جدا لبغداد أن تنأى بإقليم كردستان [= دولة كردستان في المستقبل القريب] بعيدا عن المحور [الافتراضي] التركي ـ السعودي من خلال بناء علاقات جيدة مع كل القوى السياسية الكردية وعدم قصر علاقتها على الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني.