قراءة في رواية الكاتب احسان وفيق السامرائي
في رواية غير تقليدية Non-traditional وغير خيالية او لاتخيّلية Non-fiction , التي لانستبعد فيها وجود مسحة من الخيال تضيق تارة وتتسع تارة أخرى وفقآ الى فبركة عدد من الحكايات Anecdotes والحوادث الواقعية التي وظفها الكاتب لتعزيز وحدة السرد . فالرواية خالية من الحبكة والصراع Conflict , أما ابطالها فهم شخصيات نمطية Flat characters . اختار الكاتب إحسان وفيق السامرائي , هذه المرة , الدخول في موضوعة ادبية جديدة ومعقدة كونها ذات مفاهيم تنتمي إلى عدة جوانب معرفية مقارنة بأعماله السابقة .
في الرواية مزيج من ادب الرحلات والسيّرالذاتية Auto-biography And Travel Literature والذكريات Memoir المتعارف عليها منذ عهود , وهي ترتكز في بنيتها على الواقعية Realism بشكل عام و على الواقعية الاجتماعية Social Reality بشكل خاص . اعتمد الكاتب فيها على مبدأ الحوار بشكل رئيسي في ارسال الرسائل الى المتلقي والكشف عن الكثير من الاحداث اللازمنية Achrony – التي تفتقر الى الارتباط الزمني – والمواضيع Themes واشتغاله بأسلوب التقطيع المكاني والزماني واسلوب السرد الموضوعي Objective narration الخالي من الوصف احيانآ والسرد الخيالي( = الذاتي ) Subjective fictional narration .
يتبادل الحوار في الرواية بين شخصيتين رئيسيتين في الرواية هما ” نعمان ” و” الجده ” مما يجعل المتلقي معتمدآ عليهما في الكشف عن الاحداث والشخصيات الاخرى .
تبدو رواية ” شتاء اللقالق ” التي يرتبط عنوانها بموضوعة اللقالق المهاجرة , فهي طيور تهاجر مرة مع رفيق او زوج وتعود الى ديارها من دونهما , ومرة تهاجر من دونهما لتعود بعد الهجرة برفقة احدهما . واللقالق طيور خرساء لاتطلق اصواتآ عدا طقطقة مناقيرها التي استخدمها الروائي- أحيانآ – كلازمة Refrain في روايته للتعبير عن حركة الزمن تصاعده وتقلباته ودورانه .
صدرت هذه الرواية عن دار ضفاف للنشر سنة 2013 , بسطورها التي تبدا من الصفحة الثالثة عشر حتى الصفحة الاربعمائة بعد السادسة والعشرين لمؤلفها الاستاذ احسان وفيق السامرائي . وهي تكشف وتأرشف معآ الجانب الشخصي الطفولي للكاتب نفسه واسرته المدينية وتأريخه الذي امضاه في حقبة تمتد من 1947 الى 1952 وهو طفل غرير في بيئة من الكبار تختلف عن البيئة التي ولد فيها وذلك بطريقة المشاهد السينمائية .تدون الأحاديث والأفكار عن أصدقائه وعن احداث تلك الحقبة من تأريخ العراق كثورة (= دكة ) رشيد عالي الكيلاني1941 وما تلاها بأيام قلائل من احداث كالفرهود , والمظاهرات التي حدثت عام 1948 بعد توقيع معاهدة بورتسموث Portsmouth treaty من قبل رئيس وزراء العراق صالح جبر.
فقد كان والده يشغل منصب ضابط كبير في الشرطة مما يتطلب سفره الى مدن اخرى حسب مايقتضيه الواجب العسكري . فكانت الأسرة تعيش في عوالم مختلفة طبقآ لطبيعة المنطقة والسكان والعادات والتقاليد وهي في الرواية مع مايحيط بها من ظروف تمثل الأنموذج او الرمز للعائلة العراقية , جعلها الكاتب مرآة للكثير من القضايا والأحداث والمواقف التي مرت في العراق .
لم يعمد الكاتب على جعل روايته افضل مما في الخيال , بل جعلها بأسلوب بسيط من خلال شخصيات غير تراجيدية وغير كوميدية , على العكس من اعمال ادباء سابقين مثل الكاتب الانكليزي هنري جيمس( 1843 – 1916) Henry James الذي يعتبره النقاد مؤسس الواقعية في الادب الخيالي Fictional Literature وخاصة في روايته ” فتى صغير وآخرون ” A Small boy and others , وهي ذكريات Memoir عن طفولته , او رواية ديفد كوبرفيلد لجارلز ديكنزCharles Dickens( 1850 ) التي تميزت بالخيال بدرجة امتياز .
يستمر الكاتب بكتابة هذا النمط بشكل مستمر مدفوعآ بضرورة الاهتمام والتركيز على الوقائع وكشف للمبادئ الاخلاقية ونقد لحقيقة الفساد الذي لحق بمن ارتبط بهم في طفولته وكشف وتوثيق المكان والزمان في إطار السرد الموضوعي كمحوراول , والتطور الفكري الأختلاف في ثقافة الأنسان والرابطة الأثنية Ethnicity والاحداث التاريخية
لأعطاء القصة الواقعية التي يعرضها مسارآ مثيرآ Dramatic route – وإن كانت خالية من الحدث الدرامي – في إطار السرد التخيلي كمحور ثان . والجدير بالذكر ان الدقة تقتضي التفريق بين هذين النمطين من السرد .
يتشابه الكاتب اولآ في عمله هذا من حيث الشكل مع الكاتب الفرنسي جان ماري لوكلوزيو Jean-Marie Gustave Le Clézio (13 April 1940) عمره 75 عامآ حاليآ في روايته ( الافريقي ) “The African” , التي يروي فيها حكاياته في مرحلة الطفوله في الاماكن النائية بأعتماده على ذاكرته وتوثيقه لمرحلة مهمة من تاريخ افريقيا عام 1948 سواء على المستوى الشخصي والعام .
ويتشابه ثانية مع طه حسين Taha Hussein في رواية الأيام The days ثم مع ارنست همنغواي Hemingway و فرانسيس سكوت فيتزجيرالد (24 ايلول 1896-21 كانون الاول 1940) F. Scott Fitzgerald في العديد من المقالات الخاصة بسيرتهما الشخصية , التي كانت تشترك في موضوعة واحدة هي انهما قاما بالنميمة والتعريض لأصدقائهم وأعدائهم ومحبيهم في ضرب من الادب سمي ب ” ادب النميمة ” Fiction as Gossip في صراحة وجرأة لايتشابه بها معهم بسبب التباين الثقافي والبيئي .
ان عملية السرد الموضوعي التي اختصت بها شخصية ” نعمان ” السارد الاول في الرواية First person narrative او الراوي الاساسي Main narrator وهو الطفل الساذج الذي منحه الكاتب بنية سطحية في مجال اللغة التي يسرد بها الاحداث Surface structure . وهي الطريقة المناسبة لتناول المواضيع الخاصة به , فمرة للتعبير عن مشاعره في مايدور حوله ومرة بشكل غير مقصود مع نفسه وهي فكرة Notion رئيسية اخرى في الرواية . أما ضمائر السرد الأخرى : هو .. هي .. هم التي استخدمها فقد كانت للمواضيع الأخرى الخاصة بالاتصال بالاخرين والكشف عن هوياتهم الاجتماعية والتأريخية في نمط يشبه الى حد بعيد النوع الادبي لكتّاب السّير الذاتية الاغريق سنة 150 قبل الميلاد المسماة ب Pausanias نسبة الى الكاتب والمؤرخ الاغريقي ” بوزانياس ” الذي أهتم بوصف احداث مهمة من تاريخ الاغريق القدماء وتراثهم الفني والشعبي وطوبوغرافية الأرض كقوام Staple رئيسي لمذكراته فكانت قدوة لكتاب هذا النوع من الأدب مابعد الحداثة Postmodernism . إضافة الى مذكرات أوغسطين التي صدرت مابين 397 – 400 ميلادية باللغة اللاتينية وبثلاثة عشر مجلدآ تحت عنوان ” اعترافات القديس أوغسطين ” Confessions of St. Augustine محققآ , السامرائي , في مذكراته هذه الحركة التطورية سواء على مستوى كينونة ” نعمان ” Being of state والطابع الاجتماعي او الزمن المقترن بالتاريخ الخطي Linear history الذي يتحقق فيه التغيير والتقدم – الموثق بالاحداث – واثرالطبيعة ذات الطابع الاحيائي السحري عليه . وهي تجربة اراد فيها ابراز مكوناته الجذرية ودوافعه الاولية التي استمد منها معاييره من ناحية , وليبرهن انه نتاج بنى اجتماعية تجسدت فيها اللغة ومنظومات القرابة واخرى ترتبت جراء الممارسة من الناحية الأخرى .
جعل الكاتب ” نعمان ” وهي شخصية حقيقية بأسم افتراضي يقترب في الوزن مع اسمه , ذو وظيفة اجتماعية تتمحور فيها جميع الافكار المكونة لبناء هذه الرواية من الناحية الفنية , فلم يشــأ ان يرسم شخصية نعمان رسمآ تفصيليآ(= مكرسكوبي ) سواء من الناحية الخارجية او الداخلية , بل قدمها الى المتلقي بشكل مباشر بعمر لايتجاوز السابعة ومن دون صورة استباقية Background ومن دون الاشارة اليه بشكل صريح على انه يروي مذكراته او انه يمثل لسان حاله Mouthpiece .
المحور الاول
اولآ : الرحلة الى قره تو
تدور الرواية – التي يتحكم بها الزمن منذ الوهلة الاولى متمثلآ بصوت القطار اللاهث : تتو .. تتو في الرحلة الاولى نحو قره تو – بشكل واضح حول المحورين الرئيسين اللذين تتموضع فيهما محاور أخرى عديدة فرعية تم ذكرها لتشكل بالنهاية الموضوعة الرئيسية . ففي المحور الاول يبدأ الزمن ليسجل دخول الطفل ” نعمان ” – وهو طفل ينحدر من اسرة تعتبر من الطبقة المتوسطة العليا Upper middle class , إذ ان ابيه كان احد ضباط الشرطة الكبار في تلك الفترة – في إطار حياة جديدة غير ممنهجة Desultory life إثر رحلة لم تكن له ارادة الاختيار فيها في ترك مراحل من حياته وراء ظهره بسبب صغر سنه إذ لم يتجاوز سنوات عمره السبعة آنذاك وعدم اختمار الوعي والمعرفة لدية ليستمر الحال رغم انه في مرات عديدة يطلب من الجدة العودة الى ربوعه الاولى – بعقوبة بقوله : اريد أمي ..ص 28 .
ثم يبدأ الطفل بالتواصل وتبادل المعلومات والافكار بلغة تلوح فيها ملامح تكوّن منظومة الثقافة المجتمعية لديه, فهو يفقه الحديث امام تدفق من الرموز والمعاني الجديده من خلال التحاور مع الجدة التي تشكل لديه المعلم الاول في محاولتها لترتيب الصور الذهنية لتشكيل الفكر المنطقي له بشكل ليّن و تعالق يشبه ارتباط عين الرواف بعمل يده على
خلاف ما يفعله خاله ” سالم ” الذي يظهربسلوك خاطئ لا يتجاوزإطار التأديب نحو الايذاء فحسب بل الى النظرة الاستعلائية – Superiority وهي ابراز لشهوة ( = حب ) العلو في الارض – ويبدو ذلك بسبب ارتباطات الجدة بالبيئة المسالمة التي , ربما , وفرتها لها تلك المرونة الجينية البيئية منذ النشأة الاولى فأرادت توظيفها لحفيدها لتحول بينه وبين التأثيرالسلبي للبيئة الجديدة عليه لكي تبدأ دورته في الحياة الجديدة كما تريد .
ومن ناحية اخرى , فأن الجده ومنذ بدء الرحلة الى قره تو بدأت تعمل على ابراز ماهو خصوصي وأثني Ethnic في منهج عائلتها وكأنه ارث ارادت ان تحافظ عليه بشكل تلقائي وغير متكلف . وهي كذلك خصوصية جينية ارادت ان تبق الطفل على مرجعيتها الثقافية بعيدآ عن التهجين Hybridization بسبب دخوله في منظومة ثقافية جديدة . لذا نرى ان الجدة ماتنفك عن استرجاع الترديدات الشعبية باللغة العامية في حالة تشبه اجترار الماضي , كانها تريد نقلها من السلف الى الخلف في تواصل زمني ومكاني لواقعها الثقافي : يمطر سياله .. لاتزلك الخياله .. وتصير الحنطه أباره ( أي تصبح بفلس ) .. وتمتلي الأبياره ( الآبار ) .. ص 39 .
هنا يلمّح الكاتب للقارئء ان الجدة وثيقة الصلة بتراثها الثقافي الغني , بل وحمله وبقائها عليه رغم تقدم العمر لتعطيه الى حفيدها في دور ابوي Parental role لتنير ذهنه بتلقائية فريدة . وفي ترديدة أثنية اخرى : يمطر بديه بديه .. والزرع عطشان .. ويريد له سكيّه .. ص 42 . لاشك ان لهذه الترديدات الأثر البالغ في تطور مجموعة القيم لدى ” نعمان ” اضافة الى تبصيره بمبادئ الأسلام في نواح اخرى : ومن هو ابو المطر ياجدتي ؟ – الله .. والرعد ياجدتي ؟ – الله .. يانعمان .. ص 39 .
يستمر ” نعمان ” بالتواصل والتبادل في المعلومات والافكار في بيئته الجديدة من خلال مجموعة من الشخصيات : سالم المأمور( خاله ) وهي الشخصية المهيمنة في قره تو – كاكالي الخادم , شهاب الشرطي , منور , ايوب , حمه , أم هيله , ناردين , مام شمدين , هوبي , يعقوب , ديزي , مارسيل , كولدران والشرطة وشخصيات نمطية اخرى ..
يتجسد المكان والزمان والاشخاص والاحياء والمشاهد الحية في الرواية بلغة هي مزيج من العربية الفصحى والعامية الخالصة ( اللهجة البغدادية ) بتراكيبها المتداولة وتمتزج احيانآ بنتف من اللغة الكوردية كضرورة سردية في تلك الحقبة لكي ينقل الاحداث بصدق والتقريب بين القارئ والشخصيات مما تدفع بالمتلقي الى التدقيق في بعض جوانبها .
فبرفقة جدته كان يصغي الى حكايات من البيئة الكرديه يرويها كاكالي وهو يغسل حصان ” احمد دولت ” المح فيها الكاتب الى موضوعة الحكايات القريبة من الصحة والصدق Verisimilitude عندما يصبح الانسان سجين فوق الارض وتحت النجوم تحيط به الحيوانات البرية , إذ تعرض “كاكالي ” وهو في الطريق الى ” شاهو تبه ” لهجوم ذئب بري فقتله بسكينته التي يحملها وهو في مغارة جبلية . ثم يلمح الكاتب الى اسطورة ” عين الذئب اليسرى ” حيث الاحتفاظ بها تحت المخدة يجعل صاحبها لاينام الليل من خلال سرد ” كاكالي ” لقصته مع الذئب واقتلاع عينيه بعد قتله ثم الى تلميح آخر لأظهار الفرق بين حياة الانسان في السهول وحياته في الجبال حيث يمتاز بالقوة والشجاعة وهي اثنية يرتبط بها الكورد بشكل خاص … ص 48 .
يركز الكاتب في هذا الفصل على سرد الاساطير من خلال حكايات الجدة لحفيدها كانه يريد توثيق التاريخ كضرورة لبيان الفرق في عملية التطور التي يخضع لها نعمان من ناحية , وبيان ان سرد الاساطير كانت مدعاة لخلق عالم تخيلي لدى الاطفال اضافة الى كونها تراث ادبي محلي دون ان يجعل منها فكرة رئيسية Motif ذات صلة بصراع ما لأن الرواية خالية من الصراع كما اسلفنا , بل الصقها في روايته كملامح خاصة مستمدّة من البيئة المحلية فحسب من ناحية أخرى, فيبدأ بالجن والعفاريت التي تأخذ شكل شحاذ فقير او عنز تائه مما يثير الخوف لدى نعمان . ص 48 ثم يعود ثانية لسرد اسطورة الثريا وهي عن العقربه التي اكلت اولادها السبعة وقد رأتها الثريا فدعت من الله ان يعاقبها .. ص 62 .
وفي حوار مع نعمان تروي الجدة حكاية اخرى تكشف فيها عن احداث الفرهود وسقوط وزارة رشيد عالي الكيلاني وهروب الخال سالم من الحرب في سن الذبان ومقتل الشاب اليهودي على يد احد الجنود فوق رصيف محطة القطار وهي تصرخ بالجندي :
– ولك ليش ظالم النفس .. الله لايعطيك .. ماذنب هذا المسكين ؟ ص 126 – 127 .
يتواصل الكاتب في السرد فيكشف من خلاله عن التعالق بين البيئة والمجتمع الفقير وانعدام الأمن وأن المأمور ” سالم ” الذي يمثل السلطة المهيمنة كان فاسدآ ويتعاون مع المهربين لتحقيق اغراضه الشخصية متجاهلآ مكافحة الجراد
الذي دمر المدينة بالوعود الكاذبة مما يدل على اهمال الحكومة للمواطنين الكورد . وكذلك اتفاقه مع ” الآغا ” في قضية فساد .. ص 101 , وهي نظرة نقدية للمأمور وللحكومة آنذاك على حد سواء من خلال نعمان عندما يقول لجدته :
– زين جدتي .. كيف يقول ماكو حنطة وبيته مليان حنطة وطليان ؟ ص100.
وهو في هذا يقدم دليلآ مرئيآ Prima Facia evidence ثم يستمر بالهجاء على لسان الجده اذ تخاطب نفسها :
– ولكم ايبين ابني صاير حرامي وماادري ؟ ص 102 .
وهي في هذا الموقف التهكمي إنما تعبّر عن تزويد نفسها بمعلومات إضافية Accommodation عما تملكه في السابق ازاء ابنها سالم .
ويمضي الكاتب في فضح التعالق بين الخال سالم وانشغاله بالفساد والعبث بثروة البلاد إذ يقوم بالتهيئة لصيد الاسماك بواسطة القنابل اليدوية فيمنع الاكراد من الاقتراب حتى من النهر إذ يخاطب كاكالي بلغة متعالية يسودها السب والشتم :
– اسمع ياكاكا .. قل لملا احمد ان يمنع الاكراد من عبور النهر .. اولاد الكلب سينهبون الاسماك لو عرفوا ؟ ص 106 . وفي موقف آخر يكشف عن تواطئه مع الآغا في حديث يرويه نعمان للجده :
– سمعت الآغا يقول لخالي :
– كيف اطلّع الطليان والشاي اخاف من الايرانيين ..؟
– ماعليك .. فنحن والشرطة الايرانية متفقون .. شرطتنا يقطعون الطريق بحجة التفتيش وبعدها نقدر اندخّل الشاي .. ! قال خالي :
– إي بس .. دير بالك علينا ياآغا .. لأننا نريد ان نعيش ؟ ص 118 .
هذه الدقة في تسجيل التأريخ وكشفه هي بمثابة شتم وسخرية لكل الاتفاقيات الحكومية مع الكورد من ناحية وانتهاك لحقوقهم وازدراء Scorn وكشف لأضطهادهم واستغلالهم وأبتزازهم من ناحية اخرى . ثم يتمادي سالم ( الخال ) اكثر اثناء المشادة الكلامية بينه وبين امه ( الجدة ) وهي تنتقده بشكل لاذع :
– أنت تاخذ نعمان معك لتتباهى بأبن المدير حتى .. تبوك .. على كيفك ! اعوذ بالله من لساني .. الظالم يبني بيادر الحنطة والشعير وجنابك تضرب الناس بالقرباج وتهرّب الجاي .. ولك المن تصلي وتصوم تريد تقشمر ربك .. ولك مو هذا حرام ؟ ثم تعود لتخاطبه :
– شوف سالم .. مال ابقى وياك هذا القطن طلعه من اذانك .. ولك سويتنه ناكل حرام مثلك .. لا لا .. كل شي ولا هذه الحاله .. ص 119.
تتخذ الجدة هنا موقفآ مضاد لتصرفات ” سالم ” , بينما تتسلقه حالة من التمرد العلني عندما تهدده :
– حتى محمد سعيد ( صهره ) .. صار ميهمك .. زين انتظر شويه لأن دكايكك .. ماراح اتخلي محمد سعيد يسكت وانت تنهب وتسلب الناس !!
– وماذا سيفعل بي .. يطهرني ؟ ص 120 .
ثم تعلن الجدة موقفها الواضح منه , عندما تتخلى عنه فتقول :
– إي ومن اليوم راح اتبرأ منك .. يلله نعمان نرجع البعكوبة .. بس شوف .. آني ماراح احكي بس راح اخلي ابن اختك يحكي وبعدهه تعال طلّع روحك ؟
يزداد تمرد ” سالم ” ليبلغ الذروة فيقف ليقول لأمه ( الجدة ) متجاهلآ تهديدها :
– والله لو تخطيت باب العتبة راح أفرغ المسدس براسك وانتحر !! ص 120 .
تعود المياه الى مجاريها بين الأم وابنها سالم , إذ يعتذر منها ويقبل رأسها وهو يبكي . ص122 .
وهذا يؤكد انهما شخصيتان نمطيتان على ارض الواقع إذ لم يتغيرا من الداخل لأنعدام الدافع والغاية والصراع بينهما .
ثانيآ : الرحلة الى بعقوبة
في هذه الرحلة يبدأ الكاتب بفتح صفحة للجالية اليهودية وحالها بعد حركة ( = دكة ) رشيد عالي الكيلاني ضمن محور الرواية الاول . وفيها اظهر الكاتب تركيزه على علاقة ” نعمان ” بالآخر اليهودي , وأدراك ان أساس الصهيونية ليس الدين اليهودي على الرغم من انه لم يختر اي شخصية يهودية بشكل مكرسكوبي ليخضعها الى الشروط والاساليب الفنية لكي يميّز هذه الصفحة من الرواية , بل عمد على ربط اسماء لشخصيات يهودية محلية بشكل مباشر :
ابو حسقيل , شليمو , حييم , عزرا , ساسون الصائغ , مارسيل , ام روبين , سمير وموشي ونسيم وراشيل وأم ياهو في تلك الفترة لكي يشي فيها عن مفاهيمه بشكل خاص وعن مفاهيم الآخرين إزائهم بشكل عام من خلال احداث الفرهود وردود الفعل المتعاطفة معهم رغم انه استطاع ان يسلط الضوء بشكل واضح على الظلم الذي لحق بهم , فالحكومة من جانب والسكان المحليين من جانب آخر وهو بطبيعة الحال موقف متضامن مع اليهود من الناحية الانسانية فحسب . أما ارتباط الناس بالحكومة وماتفعله يظهر انهم كانوا محكومين برجال السلطة .
قال عبد الودود وهو يطرد ” هوبي ” الذي يحرّض على قتل اليهود :
– يلله امش من هنا , شوفوا ياجماعة .. الانكليز يريدون ان يلهونا بالفرهود والذبح حتى ننسى فلسطين ؟ ص 172 .
وفي مشهد آخر يظهر ” هوبي ” وهو يلوك البادم .. فصاح به ملوكي :
– ها .. ابن الكلب .. اليوم تاكل بادم .. والعباس .. ايبين كنت بالفرهود ؟
ثم توقف هوبي عن المضغ ليرد عليه :
– عيني ملوكي .. تره جعفر هو الفرهد العرق وغراض الدكان مو آني .. وخطيه أبو حسقيل ظل يتوسل :
– ابدالوك .. بس لتذبحونه وشيلوا كل شيء . ولكن جعفر ظل يضربه بسطرات ويصيح به :
– كواد .. اتبيع عرق وأدز فلوس لليهود في فلسطين .. ص 175 .
يتبين من خلال الحوار تعاطف الكاتب وموقفه وخياره بشكل ضمني من ان الفرهود هو عملية اعدام للقيم , او قلبها او الانتفاضة عليها فقابلتها شخصية الجدة ونعمان بالرفض لأنه يرى – اي الكاتب – ان هذا الحدث هو انحطاط في مباديْ الانسان وهي عملية ابعاد المرء عن انضباطه وعزله عن إيمانه وهذا مافعلته القوات البريطانية فعلآ ونوه به ” عبد الودود ” وهو بالتالي عمل بعيد كل البعد عن جذوره الاجتماعية الاصيلة . ولانستبعد ان الكاتب هنا يلبس قناع شخصية نعمان لتمرير تعاطفه اي بمعنى آخر يقترب الكاتب من وعي الشخصية على العكس من تباعد السارد عنها Dissonance .
عندما توالت الاحداث في شجب اعمال الفرهود ومن قاموا به , تصدت الجدة لأبنها سالم وهو يحمل عصا سوداء منقوشة بالفضة لتقول له :
– شوف سالم .. هاي العكازة من الفرهود .. لو لا ؟ ثم قالت له :
– شوف لو انت بالبيت لو آني .. إي .. ابن الامامي .. صاير حرامي ؟ ص 212
وهذه اشارة الى ا ن ابيه كان رجل دين معروف ولكن خيار سالم في ان يشترك بالفرهود هو خيار قد أضر بالعائلة .
وتتكرر مشاهد الشجب والرفض والتعاطف مع اليهود :
قالت ام جلاوي :
– عيني هذوله اليهود مال ذبح !
فردت خيريه الحفافة وتصاعد صوتها :
– وحق البيت الذي حجيت له .. اتصدقين مثل هذا الكلام ..؟ تصدقين ” شليمو” الفقير عنده قنابل وتصدقين بيت ” حييم ” عندهم كلاليب .., الله انشاف لو انعبد ؟ ص 213 .
ويخاطب ” نعمان ” جدته :
– جدتي .. اشو بس انت تقولين خطيه .. ليش ؟
عطست من رائحة الدخان .. ثم قالت :
– ليش مااقول واليهود مثل الاسلام يعبدون الله مثلنه ..
– ولماذا يريد اليهود يروحون الى فلسطين .. ؟
– إي مو خلصت ارواحهم .. كل يوم باسطين واحد منهم وكل يوم ناهبين حلالهم .. وكل يوم فرهود . ص 215 .
في مشهد طيران اللقالق وهي تحوم فوق اعشاشها تؤشر نهاية الاقامة في بعقوبة , فلم يكن رد فعل نعمان سوى حواره مع نفسه الذي يلمح الى نهاية ارتباطه بأصدقائه ” راحيل و موشي ” وترك ذكرياته الطيبة معهم لأن عائلته عاشت في حسن جوار معهم لسنين طويلة . في هذا المشهد يتشابه نعمان مع اللقالق , فهاهو يعود بعد الهجرة الى بعقوبة من دون صديق ليبدآ رحلته الرابعة الى بغداد مع عائلته بعد احداث 1948 ونقل ابيه اليها بعد استبداله بضابط آخر بسبب عدم اطاعته للأوامر العسكرية في ضرب المظاهرات الطلابية , وهذا ما سيكشف عنه نعمان في السطور اللاحقة من الرواية .
ثالثآ : الرحلة الى بغداد
بدا , السامرائي , انه تاركآ ومعطيآ الاهتمام الكبير للقارئ لأكتشاف ماتنعطف اليه تلك الاحداث من معايير من الناحية الفكرية والأجتماعية والعملية ودلالات اخرى لم نشأ التعرض لها , بل تركها لآخرين رغبة في تعدد الآراء حول هذه الرواية ذات الفائدة الكبيرة من الناحية السيسيولوجية لارتباطها بالبنية الاجتماعية والتكوينات الطبقيه والتحليل التاريخى البنائى للدولة العراقية من وجه نظر نظرية التبعية Theory of Subordination مما يمنح المتلقي كيفيات لفهم مغاير لما نقوم به في هذه المقالة وخاصة تشظيها الى العديد من المذاهب الادبية Genres .
ففي الرحلة الى بغداد , سادت حالة من عدم الرضا بين افراد عائلة الضابط والتعرض إلى مناوشات في الطريق العام و الاختلافات مع مدير مدرسة نعمان و زملائه وظهور التميّز الطبقي في تلك الفتره بين التلاميذ . إذ ثمة اهتمام ملحوظ من بعض المعلمين نحو الطلبة المنحدرين من أسر وعائلات معروفة في المجتمع , والدخول في مشاحنات مع صاحبة البيت الكئيب والمهدم وارتفاع صوتها الحاد بالدعاء عليهم كما وصفه نعمان ( ص 250 و251 ) ما ادى بالعائلة الى الشعور بالإحباط بينما جلس الأب يصفق بيدية أسفآ على ماآلت اليه عائلته .
ويكشف نعمان عن شعوره في حوار مع نفسه : ” احسست بالاختناق .. سبحنا بالسخام ورائحة المستنقعات المتعفنة .. فصاحت امي هائجة : أهذه بغداد ..؟ ص 250 . ثم تتغير معاملة نعمان بعد ان اعلن خاله سالم لمدير مدرسته ا ن ابيه هو المدير العام لافواج شرطة قوة السيارة ص 255 .
يكشف هذا الفصل ايضا عن ظاهرة الشقاوات التي سادت بعض الاماكن في بغداد منذ القدم , إذ ان البعض منها يلجأ الى سلب الفقراء وافراد من اليهود , على العكس من فئة اخرى تقوم بأحترام الصغار والكبار والنساء ومساعدة الفقراءعلى حد سواء . من الناحية الاخرى , يكشف نعمان عن مشاهدته اعدام حسين الشبيبي احد اعضاء الحزب الشيوعي العراقي آنذاك في باب المعظم في 14 شباط 1949 على يد النظام الملكي الموالي للنفوذ البريطاني – ذي النزعة ( = الشهوة ) الانتقامية ضد الافكار المناوئة له – وهو في طريق الذهاب الى مدرسته في الاعظمية ص 261 . عند عودته الى البيت يسمع نعمان الركاب يتكلمون بصوت عال عن ثلاثة شيوعيين تم اعدامهم في يوم واحد وهي اشارة الى مؤسس الحزب يوسف سلمان يوسف الذي يعرف بأسم ( فهد ) الذي اعدم في ساحة المتحف الوطني وزكي بسيم الملقب ب ( حازم ) الذي اعدم في الباب الشرقي اضافة الى حسين الشبيبي . في مشهد الاعدام قفز الى ذهن نعمان حادث صلب أخيه يونس مما اصابه القلق والاضطراب بسبب ذلك وبسبب تأخره عن امتحان , ثم انقلبت نفسيته السلبية الى الايجابية لاعفائه من اداء الامتحان التحريري والاكتفاء بالامتحان الشفوي . ص 263
تباين موقف الناس في قضية اعدام الشيوعيين , فمنهم من تعاطف معهم وهو ” ابو خليل ” الشخصية الساذجة التي تقوم هنا – اضافة الى كونها ذات دور اعلامي وذلك بأخبار سكان المحلة عن كل مايجري من احداث وهو يتربع على دكة بيته ص 258 – بتقويم اخطاء من يتمنى للشيوعيين السوء اثناء محاورة له مع ” نورية ” ص 266
تظهر الرواية – في جانب منها – الخيارات التي مرت بها العائلة وما آلت اليه , هذه الخيارات ربما اراد لها الكاتب ان تعرض على المتلقي لأستخلاص الدروس والعبر او ربما اراد ان يلمح بها على انه نتاج تلك الحقبة التي لم تؤثر على كينونته كأنسان سواء في تربيته وهو في كنف ابويه او في كنف جدته وخاله في بيئة يجهلها من كافة النواحي . فالكاتب اذن هو بطل الرواية أما والده فهو الضابط الذي اختار القرار الذي اراد ان يكشف عنه والذي سنتبينه في السطور اللاحقة .
ففي موقف يكشف نعمان وهو في بيت المعلمة ديزي عن سبب عودتهم الى بغداد :
– ست .. بس .. بابا يشتغل في قوة السيّار وبعد مارجعنا من بعكوبة طلعوا من الشرطة وحبسوا سبعة ايام ويقولون هو ماقبل .. يضرب الطلاب بالمظاهرة .. ص 267 .
ويمضي نعمان ليكشف عن الأحدات الخاصة التي جرت بعد اعدام فهد ورفاقه , إذ شنت الحكومة الملكية حملة اعتقالات شملت المعلمين والطلاب وخاصة ضد الشيوعيين واعضاء الحزب الوطني الديمقراطي بزعامة كامل الجادرجي وغلق جريدتهم – صوت الاهالي – وعدد آخرمن القوميين تحت نزعة تحقيق العدالة ولكن بشكل قاس . ص 275 .
وفي إطار النسق الاجتماعي السائد في محلته من مشاكل اسرية بشكل متلازم , يستمر في مسلسل كشف اسرار خاله سالم وافراد محلته ” سنية و خليل الاعمى ” وتبادل الاتهامات بالفساد ومشاركته في اثارة الشغب في بيت ” التنكجي ” وذلك بالقاء عظمة تسمى بلغة السحر آنذاك ب ” عزيزه ” في بيته .
ثم بدأ يتعرف على الفاظ سياسية مثل ” شيوعي , قومي ” , فهو ينبثق هذه المرة من كائن الى آخر في بيئة بغداد التي تمثل قبلة ثقافية مليئة بالقيم والتقاليد , لهذا بدأت تنجلي عنده اسرار تلك الحقبة لتصبح مألوفة لديه , فيسترسل مع ديزي بفضح اسرار البعض من سكنة محلته واسرار بعض اعمال السحر السائدة انذاك ص 276 .
ويعلن نعمان وهو يتحدث مع المعلمة ديزي انه ينحدر من سلالة الامام علي الهادي ويتباهى ان منارته بنيت من الذهب والفضة , وقد ذهب مع الجدة الى مرقد عبد القادر الكيلاني , وعند وصولها الى هناك صاحت :
– ابختك .. ياابو قبقاب .. ؟ اريدك ترجّع .. محمد سعيد .. للوظيفة ؟
ثم بدأت بالقاء الفلوس في الحضرة الكريمة وهي تخاطب حفيدها :
– انا لم اتي بك الى هنا إلا ليراك .. الشيخ عبد القادر .. ويحن قلبه ..!!
يكشف الروائي عن موضوعة تقديس الأضرحة كثقافة مترسخة لدى الناس منذ الصغر . فالبعض يلجأ الى الحضرة الكيلانية نسبة الى الأمام عبد القادر الكيلاني لطلب البركة والمراد لكونه من سلالة الامام علي بن ابي طالب ( ع ) فيجعلون منه وسيطآ بينهم وبين الله تعالى لطلب المغفرة وقضاء الحاجة وكان ذلك جزءآ من نمط حياتهم ص281 .
أما رواية الجدة عن الطوب ابو خزامة فهي رواية خيالية , بل مضحكة مقارنة بالرواية الاصلية صاغها الكاتب لسببين الاول لتلائم ذهن الطفل نعمان اما السبب الثاني فهو تأريخي اراد الكاتب عدم الانجرار اليه والخوض فيه مما حدا بنعمان ان يرصدها ولكن بشكل مبالغ فيه . فهل بلغ نعمان القدرة على رصد هذه البدعة وكسر الجمود الفكري للجدة عن طريق الحوار الذي يطرح من خلاله ارائه سيما ان الحقائق لايراها إلا البالغ المتعلم أما البدائي ( = الطفل ) فأنه لايبالغ في انطباعاته بمثل هذه الامور أم ان الروائي هنا استخدم اسلوب التماهي Identification اي تقمص شخصية نعمان ليدلي بآرائه في هذه الموضوعة ؟!
كان طوب ابو خزامة مقدسآ , فالبغداديات يقدمن له نذورا كثيرة لأنه أشفى فلان وفلانه , بينما القوابل في بغداد كن يدخلن بالمواليد الجدد في يومهم السابع في فوهة هذا الطوب ثلاث مرات تبركا وتيمنا به . يرتبط طوب ابو خزامة بمعارك السلطان مراد الاول العثماني ابن السلطان احمد خان سنة 1074, ولتأثيره في الحياة العامة فقد تغنى الملا عبود الكرخي به إذ يقول :
واليطلب مراد يشد خيط اسود ….. بيه احمر واصفر يشبه الزرزور
يشجب نعمان حقيقة القصة التي ترويها الجدة عن طوب ابو خزامة
بروزهذه المسحة من العلاقات الاجتماعية في بغداد التي تحترم وتقدس الرموز الدينية على خلاف المدن السابقة اوحت من ناحية اخرى ببداية متطورة في تذويت المعرفة لدى نعمان , إذ تنطلق من هنا موضوعة ان الانسان يتطور بفعل تطور العلاقات الاجتماعية .
يمتد في هذا الفصل مسلسل إفشاء اسرار الخال سالم الخاصة وقول المحظور عنه وسخرية الجدة من إيمانه المزيف وهو الواقع الذي يصفه نعمان ( = الروائي ) الذي يبدو هنا مدمنآ على هذه العادة – وهي هنا ابراز لشهوة الافشاء التي تنامت لديه – وان الروائي وجد فيها نكهة لشد القارئ نحوها لاسباب تقف ورائها خيبة الامل في ظاهر تلك الشخصيات وحقيقتها المخادعة والتلميح الى شخصيات بل ربما الى دول من هذا النوع تمارس هذه المخادعة رغم المكانة الاجتماعية او الدولية التي تتمتع بها ! ص 287
ان ظهور التيارات الفكرية في الثلاثينيات والاربعينيات كان امرآ حتميآ للرد على سياسة بريطانيا الاستعمارية وهنا نرصد الحس القومي الذي ساد تلك الفترة وهو في الرواية محض اشارة فحسب وليس دعوة اليه لأنه لايمثل همآ روائيآ إذ لم يتخذ ابعادآ درامية واضحة . فمن خلال شخصية فائق إذ يقول لنعمان :
– اتعرف من هذا ؟
– لا ..
– لك هذا الملك فيصل الاول ؟
– والملك غازي ليش ما سووله تمثال ؟
– بابا .. بس اللي يريدوه , والملك غازي متعرف ليش قتلوه ؟ لأنه كان يريد ايسوي العراق وسورية حكومة وحدة وهذا ميصرف للأنكليز .
– ليش ؟
– لأن العرب إذا صاروا وحدة .. بعد مالهم عيشه هنا ؟ ص 289
وبين هذا الحس وتطور الاحداث السياسية , يكشف لنا الروائي عن بروز جيل جديد من السياسين مبينآهنا الرابط بين تطور الافكار والاطار الزمني الذي اهتمت به الرواية مما يمنح للقارئ الاستنتاجات وتسمية تلك الحقب التأريخية لتمنحه جدولآ في تطورها السياسي . فقد اشار الكاتب بشكل إيجابي الى رجل الدين السيد محمد حسن الصدر الذي تم تكليفة بتشكيل الكابينة الوزارية بدلآ عن صالح جبر في 29 كانون الثاني 1948 ولكن بعد فترة قصيرة تخلى عن رئاسة الوزراء بسبب مواقفه الوطنية ضد بريطانيا والغائه معاهدة بورتسموث من ناحية , وضد بعض القوى التي ارادت الفوضى والعبث بالبلاد آنذاك مستغلة الانتخابات النيابية واعلان الاحكام العرفية على اثر ارسال قوات عسكرية الى فلسطين من ناحية اخرى مما اضطره بعد ذلك على الاستقاله في 16 حزيران 1948 . يتبين ذلك من خلال حوار نعمان مع فائق وهم في السوق الجديد وسط اصوات المتظاهرين ضد رجل الدين ” ردناك عون .. طلعتنه فرعون .. ” :
– ومنو .. هو ؟
– هذا الرجل يحبه الناس لأنه حارب الانكليز بثورة العشرين وجابوا هسه حتى يطفي الفتنه .. وبدأ يشتغل .. بس الناس تريد تشتغل بكيفهه .. تريد تفرهد وتقتل .. وتريد حكومة مثلها ( وهي اشارة الى المتظاهرين ) . ص 291
يكشف الكاتب ثانية عن الاساءات ضد اليهود واستغلالهم وزيارة الجدة مع نعمان الى الامام الكاظم تقربآ الى الله والدعاء لعودة محمد سعيد الى الوظيفة ص294 . ولكن الزيارة لم تثمر عن شيء بقولها وهي تخاطب ابنتها سارة :
– يمه سارة .. خليه صنطة .. يبين الأئمة تعبوا منا .. وتعالي اقول لك وهي آخر مرة .. ماكو غير المكينة .
إذ يتم ارتهان ماكنة الخياطة السنكر لدى احد اليهود من اجل ان تعطي ثمنها كرشوة الى مدير الشرطة لإعادة الاب الى الوظيفة . يكشف الكاتب ثانية عن فساد الرؤوس الكبيرة في البلد وعن شهوة الربا التي يتمتع بها اليهود على الرغم من الظروف السيئة التي مرت بهم في البلاد ثم عودة الاب الى الوظيفة واصدار امر تعيينه في السليمانية .
رابعآ : الرحلة الى السليمانية
تبدأ الرحلة الى السليمانية مع انطلاق صوت القطار الذي يرمز في كل مرة الى حركة الزمن وما يحمله من تطورات دراماتيكية في جانب السرد . وهذه المرة تاركآ الجدة ورائه . انها نهاية فصل وبدء فصل جديد لايستطيع طفل مثل نعمان ان يفسر مشكلة البعد المكاني إذ ترك ديزي وماري ومارسيل وكل ذكرياته معهم . وهناك جدلية بين البنية الاجتماعية وما تتركه من سلوك على الاشخاص , فالحب اول مابدا على الطفل عند الوداع , انه حب الطفل لمن يحبه ويعلمه وهذا مانجم عن انفتاح نعمان على عائلة ديزي مماجعله يبكي من دون اخوته الفرحين بعودة ابيهم فكانوا كالعصافير . ص317
هكذا صور الكاتب العلاقة بين نعمان والبنات الثلاثة , من دون ان يدفع ذلك الى حالة من الصراع , بل اكتفى بأخفائه في قلب نعمان دون افشائه لأحد وما حزنه الذي اظهره إلا اشارة على بغداد احبائه . ص 321
ويبدأ نعمان بوصف البيئة الكوردية – السليمانية فتختلط المناظر الطبيعية بمناظر قره تو التي يسترجعها من ذاكرته وهو يحدث امه بنبرة الم وحسرة :
هل سنبقى ياأمي مثل اللقالق .. كل يوم ويوم نحن بمكان ؟
ثم تظهر السليمانية ليبدأ الاسترجاع Switchback ثانية مع رؤية الغربان ليتذكرها عندما كان في بعقوبة وهي تنزل على البرتقال المتدلي ص325 . ثم يقحمنا الكاتب ثانية في جدلية الارض والثقافة ( = الأثنية ) Land and culture controversy للتعريف بين البيئة العربية والبيئة الكوردية من خلال الفرق في الملابس واللغة والمدرسة والصف على الرغم من وحدة البلاد والمسافة القريبة بين مدنها مما يثير تساؤل القارئ عما سيؤول اليه نعمان . وهذا مافعله الكاتب وخاصة في فصل قره تو ربما لينوع الوان روايته من ناحية الهوية الأثنية Athnic identity ص 326 . ثم يبدأ نعمان في وصف السليمانيه واعطاء نبذة عن مؤسسها , ثم ينتقل الى قضية وطقوس صلاة الاستسقاء التي يؤديها كبار العلماء والناس بسبب انقطاع المطر عن المدينة ثم يتحقق نزول المطر .
وينبه الكاتب الى مسألة القوة المرتبطة بالبيئة والمناخ ثانية اثناء طلب نعمان من معلمه الشيخ جلال الذهاب الى البيت بسبب دخان المدفأة المتصاعد في الصف مما جعل عينيه تدمع فألتفت الشيخ ليخاطب تلاميذه بغرور وتعصب :
– يخافون من الوفر ولايتحملونه مثلنا نحن الأكراد الاقوياء !! ثم ينتقل الكاتب في أستعراض الاحداث ليصل الى موضوعة التمائم السائدة في المجتمع الكوردي إذ يلجأ الناس في تلك البيئة الكوردية الساخنة الى حمل التمائم لاعتقادهم انهم سيكونون في مأمن امام اطلاق رصاص المتمردين . وعدم ايمان سارة ( ام نعمان ) بها ص 341 .
ثم يكشف الكاتب عن اسم المتمرد خوله بيزه الذي يرى بعض العرب والكورد انه قاطع طريق ارهب الكثير من سكان مناطق شهربازار بسبب قتله افراد من الشرطة الكوردية لتمرده على اداء الخدمة العسكرية . ويرى البعض الآخر من الكورد أنه شخصية وطنية ناضلت ضد الحكومة لنيل الحقوق المدنية لهم .
تستمر سلسلة تصوير الاحداث ليأتي الكاتب الى معطيات مقتل خوله بيزة الذي ينحدر من مجتمع كوردي طبقي فقير يخضع اساسآ الى مجتمع عربي لم يظهر له الاحترام والتقدير , مما جعل الشيوعيين الاكراد ان يصنعوا منه صورة للثائر والمناضل ربما لتنفيذ اهدافهم السياسية . وفي اعقاب مقتل خوله بيزة , تمر العائلة بظروف عصيبة حيث اتهمت اطراف كوردية مدير الشرطة محمد سعيد ( الأب ) انه هو من دبّر مقتله وعزم العائلة على الرحيل الى بغداد ثانية في هجرة اخيرة يبلغ نعمان ( = الروائي ) فيها قمة مشاعره العاطفيه في وصفه للمشاهد الطبيعية – بدءآ من ص 422 وحتى النهاية – وتذكره لكولدران بأجمل الكلمات حتى ليكاد القاريء ان يرى في هذا الوصف الحسي والتصويري ان نعمان قد تعرّض الى انتهاك في حرياته وحرماته وامانيه وهاهو يدفن جل ذكرياته هامدة ووحيدة تحت ثلج جبال السليمانية ويضع شذرات منها فوق اجنحة اللقالق وهي تؤوب عند الغروب وفوق ا جنحة النسور والعصافير وهي تطير مع تعاسته وآلامه .
المحور الثاني
التطور الفكري والأختلاف في ثقافة الأنسان والرابطة الأثنية Ethnicity تشكل المحور الثاني في الرواية . ففي التطور الفكري , اعتمد الروائي احسان وفيق السامرائي على جدوله سردية Narrative schema خاصة بذاكرته التي تنتقل من حادثة الى اخرى بشكل عشوائي غير متوقع وهي بمثابة سرد لسلسلة الاحداث التي شكلت البنية الفكرية لنعمان وتطور مهارات الفهم والادراك Cognitive Skills . هذا التكوين في شخصية نعمان بدأ في السطور الاولى من الرواية على انه طفل خارج سلطة الاب الذي اوعز بسفره الى قره تو للترفيه عن حالته النفسيه اثر انتحار اخيه “يونس ” الذي اخفق في امتحان البكالوريا ثم تعلقه بالجدة ذات النزعة الثقافية التراثية التي تلعب دورآ كبيرآ في صياغة تفكيره وتذويته بالمعرفة في ارتباط حميمي بالغ .
لم تظهر على نعمان ملامح خوف او رهبة من ابيه إلا في العودة الى بغداد حينما يجد نفسه ضعيفآ لا يقوى على مصارحة عن سوء احواله في المدرسة بسبب تهديده له . ص 252 . كان تفكير نعمان ينطلق من نقطة واحدة هي خياله الحر الذي تتطابق معه حكايات الجدة الخرافية , وفيما بعد اثار صدمة ” منعم ” للطريقة المعرفية التي تجسدت فيه بقوله : لا حصلنا , وهي كلمة تفيد عدم توقع مايحصل , و تعني ايضا ان نعمان وهو في منظومة البيئة الكورديه و تدهور الاحوال السياسية في تلك الفترة استطاع التلائم معها دون اغفال ماأكتسبه من ثقافة الجدة .ص 349
وفي رحلة الجدة الى بيجي وهي بيئة بدوية , جسد السامرائي فيها موضوعة الزيف لفحوى المكان الذي ولدت مع ابن عمها “مولان ” فيه وممارسه الاجداد لهذا الزيف في العلاقة بين الانسان والبيئة وفقدان منهجية العقل . فكانوا يقبلون بحكايات الخرافات Fabula والاساطير Myths التي يرويها ” القصخون ” ( = الراوية ) على قارعة الطريق ايام العثمانيون عن السعلوات وشكاك البطون والجن والعفاريت . أزال ” مولان ” حقيقة هذه الخرافات عن ذهن ابنة عمه ” ليلى ” وهي جالسة مع نعمان يصغيان بلهفة الى مايقوله من كشف لها . هنا يعمد الروائي الى الاشارة الى موضوعة إحالة العقل وكشف وبعث وجود آخر من تحت تراب النسيان الى الواقع ومقارنته به لتتم دورة الحياة . لم يجعل الروائي العودة الى المنبع بمثابة اجتماع للصلح والوئام بل الى تطور الأنسان الذي وجد ان ماقيل في الماضي لايمكن ان يصلح للمستقبل واعادة النظر في الحقيقة التي تم تداولها ووضعها في السياق الجديد . هذا ما اراده النص الروائي في الكشف عن تطور الفكر منهيآ فيه وقوف نعمان على عتبة الماضي .
ثم كشف السامرائي عن صور التمرد لفئة من المجتمع الكوردي على السلوك الحكومي , فعمد الى ابراز الجانب الفكري الشيوعي والعلاقة الوثيقة بين الشيوعيين والمتمردين الذين يرى انهم كانوا اكثر صلة بالاحداث الجارية : ما ان يسيطر الشيوعيون على الشارع الكوردي حتى يبدأوا بالتصفية لكل من يعارضهم ( عبد المنعم ص 358 ) . وهنا تلميح الى هوية القرار الشيوعي الكوردي الذي يتناسب مع مصالح الاكراد , وهي حقيقة يراها الكاتب خافية على الكثير في تلك الحقبة اي توغل الفكر الشيوعي في صفوف قادة الكورد . هذه الصراحة والجرأة في الكشف والتصريح يقصد بها اظهار الحقيقة التي تعتبر أهم ركائز روايته . اما ايمان ” نعمان ” باللغة العربية ازاء اللغة الكوردية وابراز مستوى التلقي الثقافي لديه كمقياس للأنتماء الواعي لأبراز نبرة عدم الألتزام بواقع التعليم والتحيزالى القومية العربية انما هي سمة جديدة اراد الكاتب كشفها من الداخل وهذا ما انصرف اليه في هذا الفصل وسابقه .
يعود الكاتب ثانية لأكمال روايته عن الاكراد وقرائته للواقع السياسي الكوردي في المحادثة التي جرت بين عبد المنعم وعبد الرحمن :
– اتعرف ان وزرائهم .. كانو بزّازين وباعة فحم وتتن ولنكات .. وفوق ذلك عملوا .. وزارة للبحرية لأرضاء احد شيوخهم وليس لهم بحر .. ص 362
وفي رؤية مستقبليه وتنبؤ , رأى الكاتب ان الكورد اضافة الى كونهم غير موالين للحكومة آنئذ فهم لايحبون العرب ايضا :
– صحيح .. ولكنهم لايحبوننا !!
ويوم يقدرون على محاربتنا سيلقون بنا خارجآ . !! ص 363
في الفصل الاخير من الرواية يتأجج الحب بين نعمان وكولدران , ص 411, وقبله مع ديزي واسمهان وأخيرآ مارسيل . نشأ الحب في قلبه أثر ملاحظته لأنماط سلوك الاشخاص المحيطين به بدءآ بالجدة التي تحرص عليه بشكل كبير من كافة النواحي الانسانية , في عملية تكوين ذات Beingله مما يتحقق لديه وعيآ عقليآ يتطور الى توضيح تلك الذات من خلال تعامله مع تلك الشخصيات الانثوية . كما وان ظروف واوضاع عائلته طبعت بآثارها في تكوين شخصيته ونمو ذاته وهذا ماحصل معهنّ , إلا ان الكاتب لم يجعل من هذا الحب ليكون هدفآ يسعى نعمان اليه , بل جاء بشكل عارض ومن دون أي فعل عاطفي او فكري , بل اعطى اهتمامه الكبير بالاحداث السياسية لآنها ذات بعد فكري اكبر حينما ينقلنا الى احداث السليمانية ومقتل احد الاكراد بسبب انفجارات ضربت بيت المتصرف ( = المحافظ ) . هذه الانفجارات جرت من قبل الشيوعيين على حد زعم الحكومة ثم اعقبتها زيارة نوري السعيد للمدينة . ص 414 .
وفي ثقافة الانسان والرابطة الاثنية Ethnicity . يقف الكورد في تلك الفترة في مرحلة المواطنة الثانية Second rate citizen والأحباط والتجميد من الناحية السياسية Politically frozen حيث لم تكن اللغة الكوردية مفعلة بشكل رسمي ازاء اللغة العربية ولم تكن الحكومة الملكية مسرورة آنذاك لما يقوم به الكورد وخاصة في مجال مطالبتهم بالمساواة في الحقوق المدنية Civil equal rights . ولكن الاثنية كانت قوية لدى الكورد وبدا ذلك واضحآ لدى زعمائهم القبليين والطبقة المثقفة والطلاب , فهم وإن كانوا يخفون مقاومتهم للحكومة في الداخل إلا انهم أظهروا هذه المقاومة ( = العصيان ) بشكل معلن وبدا واضحآ في اعقاب مقتل خوله بيزة .
في مشهد استعداد نعمان للرحيل الى بغداد , يبلغ هذا الصبي اعلى درجات الوعي بالذات وهو يصف بمشاعر حزينة بيئة السليمانية الساحرة وصفآ دقيقآ كأنه عين كاميرا سينمائية مما توقظ في القاريء الرغبة في رؤية تلك البيئة المترابطة بأراضيها وكائناتها الحية . في الصفحات الاخيرة من الرواية , اضاف السامرائي موضوعة جديدة هي ” الوجود والهجرة ” . Being and migrationفالوجود بزواياه العديدة الذي تطور في فكر ومخيلة نعمان اثناء بلوغه مرحلة المتوسطة والهجرة التي ترجمها بحركة الطيور المختلفه جعل من هذه الصفحات بمثابة النشيد الاخير Last cantoاختصّت به الذات البشرية وتصوراتها وتشابهها مع الطبيعة .
الخاتمة
لم تكن قرائتنا لمحتوى الرواية في ضوء اي من المدارس النقدية , وأنما في إطار الرؤية الواقعية وتركيب الخطاب الروائي والبنى العميقة التي ارتكزت به وعلاقة الروائي بهذا الخطاب . ان آلية القراءة اعتمدت على اختيار السياق التأريخي للأحداث والأفكار الادبية . إن أبراز هذا الجانب هو لبيان الرؤية الجمالية في رواية السيّر الذاتية . كان الهدف من اقتفاء جذور الاحداث والاسراف – بعض الشيء – في عملية التحليل والانتقال من فكرة الى اخرى انما هو لأزالة الغموض والكشف عن التسويغ الذي يتصل بها . ولأن النص الروائي – كما يبدو للبعض – بسيط في لغته إلا انه يختزن افكارآ ادبية بالغة الحس تستحق الأثارة لكونها ترتبط بسيرة حياة عائلة عراقية عاشت في بيئة كوردية ( اثنية ) تختلف عنها .
إن شأن الرواية – كما يبدو – هو الكشف عن الاحداث التأريخية وحياة الاشخاص والحكمة المستنبطة منها . فالكاتب عرض احداثآ لم يبدو فيها قلقآ لكي يجري عليها بعض التعديل , ولم يضع هوامشآ لتفسير مايقول , بل سعى الى ان تكون مواد روايته خالية من المصطلحات الزئبقية سواء في اللغة اوالمنهج او المبالغة في التصوير او التنظير ولم يتدخل في النص الروائي ليسوق افكاره الشخصية فيه .
على الرغم من ان الرواية عملآ خياليآ في معيارها الادبي العام , إلا انها هنا تأخذ شكلآ ملموسآ وهو ” نعمان ” في تواصله مع مجموعة من البشر وقد استحقت ان نقف عند احداثها وتحليلها وكشف المكتوم والمضمون فيها . فقد وضع الكاتب احسان وفيق السامرائي أسسآ جديدة في فن كتابة رواية السيّر الذاتية بتلقائية طفل بريء لم يبلغ الحلم ولم يبلغ الصدام مع أحد . وعلى الرغم من كونها خالية من الحبكة او الصراع إلا انها في تسلسل احداثها وتطور احداثها ودرجة ارتباطها ببعضها البعض في علاقة تماثلية شكلت مسارآ دراماتيكيآ قائمآ بحد ذاته .