23 ديسمبر، 2024 6:49 م

شبكة الإعلام العراقية والحياد المستحيل

شبكة الإعلام العراقية والحياد المستحيل

مبكرا وفي أواسط عام 2003 بدأ التفكير بتأسيس هيئة عليا للإعلام تكون مهمتها تحرير الإعلام العراقي من هيمنة الحكومة، وإيصال الحقيقة إلى المواطنين بحياد واستقلالية، وتنظيم عملية ترخيص الإذاعات والفضائيات والصحف وفق أحدث الأنظمة والقوانين المتبعة في الدول المتقدمة. وقد توليت، بصفتي سكرتير اللجنة الإعلامية لمجلس الحكم، مهمة التنسيق مع خبير الإعلام البريطاني غرين ستوك لصياغة القانون الأساسي للهيئة، بالاستفادة من قوانين هيئات مشابهة في دول أوربية متقدمة، وبالأخص تجربة بي بي ي البريطانية .

وفي أول أيام وزارة الدكتور أياد علاوي التي خلفت مجلس الحكم تم تأسيس هيئة الإعلام العراقية، وكنت أحد أعضائها، وهم السادة إبراهيم الجنابي، جاسم الحلفي، عبد الحليم الرهيمي، سيامند عثمان، كاميران قره داغي، حبيبي الصدر، ولينا عبود. وعين الزميل جلال الماشطة أول مدير عام لشبكة الإعلام التابعة للهيئة.

وقد أكد قانونها على أن ” إنشاء حوار فعال ومفتوح يعتبر ضروريا من أجل تطوير العملية الديمقراطية في العراق، والتأكيد على الدور الحيوي لهيئة الإرسال الاذاعي والتلفزيوني في تسهيل مثل هذا الحوار، والاعتراف بحق حرية التعبير، وبضمنها حرية الصحافة، ونقل وجهات النظر بدون أي تدخل، كما نص عليه الميثاق الدولي للحقوق السياسية والمدنية، لاسيما وأن العراق أحد أعضائه، وقد صودق عليه بالاجماع ومن دون تحفظ من قبل مجلس الحكم العراقي”.

كما نص أيضا على ” الرغبة في أنشاء الية مستقلة وغير متحيزة لخدمة الحوار العام للمساعدة في عملية التنوع والتعددية، وهي أداة بناء هوية وطنية فعالة يمكنها الوصول الى كل افراد الشعب العراقي، وملاحظة القابليات المتميزة لهيئة الإرسال العراقية (IBN) لكي تمارس عملها على أسس ثابتة، وملاحظة الحاجات الظاهرة لجمهور متعدد، ومن ضمنهم الاقليات غير الممثلة، أو قطاعات اخرى في المجتمع” .

ولكن هذه القيم السامية والمعايير المهنية الجيدة لم تجد فرصتها في التطبيق العملي اليومي، حيث بدأت محاولات حرفها عن مهمتها الوطنية من أواخر العام 2004، ثم سقطت بشكل شبه كامل في قبضة نوري المالكي وحزب الدعوة والمليشيات الملحة والمرجعيات والسفارة الإيرانية في بغداد، وتحول أعضاء مجلس أمنائها والمديرون التنفيذيون فيها إلى موظفين تابعين لديوان مجلس الوزراء، مهمتهم تنفيذ رغبات المالكي وأعوانه في محاربة خصومه السياسيين، ونشر الثقافة الطائفية، وترسيخ طقوس اللطم والبكاء في المناسبات الدينية العديدة التي لا تنقطع على مدار العام، مع إهمال تام وتهميش كامل لباقي مكونات الشعب العراقي.

وبسبب تلك المسيرة الفاشلة التي انتهجتها الشبكة فإن نجاح لجنة الثقافة البرلمانية في انتزاعها من هيمنة الحكومة ونقل ارتباطها إلى البرلمان يعد مكسبا بحد ذاته. ولم يكن غريبا ولا مفاجئا

أن يعترض نواب كتلة دولة القانون، وحدهم، على إقرار القانون الجديد، رافضين، بشكل خاص وبإصرار، إناطة صلاحية اختيار أعضاء مجلس الأمناء بالبرلمان.

ومن يقرأ القانون الجديد لشبكة الإعلام العراقية يجد فيه كثيرا جدا من الإيجابيات المرحلة من القانون القديم، خصوصا فيما يتعلق بضمان استقلال الهيئة وحيادها التام.

ولكن هل يمكن أن نتفاءل كثيرا وننتظر ولادة هيئة إعلامية عراقية مستقلة، فعلا، وحيادية، في بلد تحكمه المليشيات والمرجعيات والسفارة الإيرانية القابضة على مفاصل الحياة السياسية والثقافية والإعلامية فيه؟

والحقيقة أن إيران لا تحاربنا بمليشيات أرضية فقط، بل الثابت أن لها مليشيات سياية وثقافية وإعلامية تلاحق المثقفين والإعلاميين وأصحاب الفكر والعلم والخبرة أيضا في الجامعات والمدارس والمساجد والحسينيات والوزارات وأسواق الخضار والصحف والإذاعة والتلفزيون والإنترنيت، وفي البرلمان نفسه، مع الأسف الشديد.

وليس مستغربا، في ظل هذه الهيمنة الإيرانية الطائفية المطبقة على الوطن، أن نجد نائبا من كتلة نوري المالكي، يسمى قاسم الأعرجي، يتمادى في حقده الطائفي وهمجيته وانحرافه فيدعو إلى جعل مدينة الفلوجة “عاليها سافلها للتقرب إلى الله”؟. فقد كتب هذا النائب الذي ائتمنه الناخبون على حياتهم وحرياتهم وكراماماتهم وأرزاقهم على حسابه الشخصي على فيسبوك قائلا “الفلوجة رأس الأفعى، فمن أراد الحل فعليه بالفلوجة، إجعلوا عاليها سافلها، قربةً لله”.

ومن هذا النموذج ألوف الألوف من المتعصبين الطائفيين الإرهاببين المتعطشين لدماء من يخالفهم برأي أو عقيدة.

ليس هذا وحسب. فإرهاب المليشيات الصحفية والإذاعية والتلفزيونية أشد. ومن يقرأ الردود والتعليقات التي تنشر في بعض المواقع على من يمس شعرة من رأس النظام الإيراني يدرك خطورة الإرهاب الذي يمارسه هذا الفريق الإيراني على أصحاب الكلمة والرأي والفكرة المخالفين لما يعتقد به الملالي من خرافات وأساطير، وما جروه على شعوبنا وعلى أتباعهم من قتل وحرق ودمار.

أسماء أكثرها مستعار، تنطق، كلها، بنفس اللغة، وبنفس الطريقة في الشتم المبتكر، ولن تجد واحدا منهم فقط يناقشك بالحجة والبينة والحوار العقلاني الموضوعي، ويتناول مقالك بالتحليل والتفصيل. بل يكتفي بالعنوان، أو بمقدمة المقال، ثم يبدأ بالضرب تحت الحزام، وكأن هناك غرفة عمليات ساهرة تراقب الصحافة والإذاعة والتلفزيون والإنترنيت تعطي إشارة الهجوم لتنطلق الكتائب الجاهزة المدربة المسلحة بالغاز السام لتشوي صاحب المقال، بنفس الطريقة التي أقدم فيها مجاهدو حزب الله العراقي على حرق المواطن البريء في الفلوجة، وهو حي، والعياذ بالله.

وعليه فإن حجم الترحيب الذي أظهرته كتابات الصحفيين والإعلاميين والمثقفين التقدميين العراقيين يعكس مقدار الأمل لديهم بوجود مساحة ولو صغيرة من الحرية والصدقية في الجسد الإعلامي والثقافي العراقي. فمن يقرأ منهم ما ورد في القانون عن الأسباب الموجبة لإصداره يدرك مصدر تفاؤل المتفائلين:

” بغية بناء اعلام حر ومستقل يتسم بالمهنية والنزاهة والحيادية والشفافية يخدم المصالح العامة للشعب العراقي ويعزز وحدة أبنائه، ومن منطلق اهمية ودور الاعلام في بناء مجتمع ديمقراطي، بما يلتزم بمعايير البث العام المتعارف عليها دوليا، وبما يجعله منبراً يعبر عن الرأي والرأي الآخر، ويوفر وسائل التربية والتثقيف والتسلية والترفيه، ومن أجل تأسيس شبكة اعلامية عراقية تتولى انجاز هذه المهام، شرع هذا القانون”

كل هذا كلام جميل وطيب ومبشر بالخير والصلاح. ولكن بوجود نواب من نوع قاسم الأعرجي، ومليشيات من نوع فيلق بدر وعصائب أهل الحق ينخفض مقدار التفاؤل إلى الحضيض، ولن يكون هذا القانون إلا حبرا على ورق، لا يسمن ولا يغني من جوع.

فمن هو الطرزان الحقيقي الذي يستطيع أن يرفض أمرا من هادي العامري، مثلا، أو قيس الخزعلي رئيس عصائب أهل الحق، أو سرايا السلام، أو النجباء، أو “حزب الله”، أو كتائب الإمام علي، وكتائب أسد الله.؟

ومن هو البطل الذي يجرؤ على حجب فضائية أو منع إذاعة تخالف القواعد والأصول التي نص عليها قانون شبكة الإعلام، لأنها تؤجج الأحقاد الطائفية وتهدد الأمن الوطني، أو تنشر خرافات وأساطير مضرة بسلامة عقول المواطنين وأرواحهم؟.

ومن هو الشجاع القادر على حماية الشبكة من أن تصبح حسينية، ومنعها من التفرغ لنقل مسيرات اللطم وإنتاج برامج العزاء لمسايرة المتاجرين بالطائفة الشيعية، والموالين، على الحق وعلى الباطل، لملالي طهران، وبلا حدود؟

ومن يستطيع أن ينشر أخبارا عن تجاوزات الحشد الشعبي، فيعرض جريمة حرق مواطن من أهالي الفلوجة وهو حي مثلا؟.

ومن هو المغامر الذي يفكر في إنتاج سلسلة حلقات وثائقية تحقيقية عن الحشد الشعبي وهيمنة القادة العسكريين الإيرانيين عليه؟. أو عن تحوله إلى قوة تتحدى سلطة رئيس الحكومة حيدر العبادي، مثلما فعل قيس الخزعلي بشأن دخول الحشد الشعبي إلى نينوى والأنبار؟

فيا أيها الحالمون بجعل شبكة الإعلام العراقية (بي بي سي) عراقية إنما تتعلقون بحبال من هواء.

وإذا لم تصدقوا فاسألوا قاسم الأعرجي المنتخب لحماية الوطن والدفاع عن حقوق المواطنين العراقيين، أجمعين، ما عدا أهل الفلوجة والرمادي والموصل وتكريت وسامراء والخالص وبعقوبة وسامراء، فهم إرهابيون وقتلة لا تنفع معهم سوى الفن أو الطرد أو الشواء.