4 نوفمبر، 2024 9:36 م
Search
Close this search box.

شبح المجاعة النفطية

شبح المجاعة النفطية

بداية، لا بد من ان تشير الى قناعة فكرية ثابتة سواء عندنا او عند غيرنا، حول موضوع النفط في العالم، ان هناك شبح يخيم على هذا العالم، انه شبح المجاعة النفطية. لقد دخلت القوى الكبرى في تحالف مقدس من اجل التخلص من هذا الشبح ولكن بلا جدوى.

اشارتنا هذه تعتبر بصدق حقيقة مشاعر الخوف الكامنة عند مجتمعات الاسواق الصناعية الرئيسية في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ذلك ان احداث السبعينات عملت على اهتزاز القواعد الاساسية التي تقوم عليها هذه المجتمعات. ففي تلك السنوات المعنية شهد العالم مرحلة الانتقال من حالة الوفرة النفطية والاسعار المتدنية الى حالة الندرة النفطية والاسعار المرتفعة، ونتيجة لذلك، اضطرت هذه المجتمعات الى ادخال تعديلات عديدة صارمة لها طبيعة مادية واجتماعية معاً، وبينما تضمنت التعديلات المادية الاستخدام الامثل للنفط وتطوير بدائله، اشتملت التعديلات الاجتماعية على احداث تغييرات جوهرية في معادلة توزيع الدخول العالمية وفي علاقات القوى الكبرى.

ولا شك في ان التعديلات الاجتماعية اكثر تعقيداً من نظريتها المادية. ولو عقدنا مقارنة بين الاثنين لأمكننا القول، ان التعديلات المادية هي الاسهل قولاً وفعلاً. فالعلم والتكنولوجيا يمكنها تذليل فكرة الاستخدام الامثل للنفط واكتشاف مصادر بديلة، ولكنها لا ينفعان في معالجة الانتفاضات الاجتماعية التي ستصاحب نهاية الحقبة النفطية لا محالة.

فيما يتعلق الامر بامريكا، فانها منذ ظهورها في عام 1776، انتهجت سياسات توسعية وليس هذا بالامر المثير للدهشة على الاطلاق، فالثورة الامريكية اندلعت متزامنة مع حقبة من التاريخ الاوربي نشأ فيها نظام اقتصادي لاحق على تفسخ الاقطاعية من اجل تعزيز ثروة الدولة عن طريق التنظيم الحكومي الصارم لكامل الاقتصاد الوطني، وانتهاج سياسات تهدف الى تطوير الزراعة وانشاء الاحتكارات التجارية الخارجية، وبينما جرى تفسير هذه الثورة على انها انتفاضة ضد تطبيق سياسات الاستعمار البريطاني في المستعمرات الامريكية الشمالية، ومن بين هذه السياسات، محاولات البريطانيين تخصيص مناطق الحدود الغربية لتجارة الفراء، ولكن هذه المحاولات اصطدمت مع رغبة المستوطنين والمستغلين في المضاربات التجارية في اخضاع هذه المناطق لسيطرتهم، ولذلك كان من الطبيعي ان تدخل الدولة الامريكية الجديدة بعد رحيل البريطانيين في منافسة الاوربيين في سياساتهم التوسعية.

ويمكن التأكد من الطبيعة العدوانية للامريكان من خلال التوسع الاقليمي السريع نسبياً. ففي عام 1783، وهو العام الذي وقعت فيه بريطانيا معاهدة سلام مع امريكا، كانت مساحة الاراضي الخاضعة للدولة الجديدة في حدود 500,000 ميل مربع. وفي عام 1853، اي بعد 70 عاماً، اصبحت مساحة اراضي هذه الدولة تزيد عن

ثلاثة ملايين ميل مربع، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط، وانما تعداه الى ما هو ابعد منه بكثير، فبعد الاستيلاء على المناطق الوسطى في امريكا الشمالية اتجه الامريكان بعيونهم التوسعية نحو العالم الخارجي.

ان امريكا بعد انتهاء الحرب الاهلية في عام 1865، بدأت تفكر بصورة جادة في التوسع الى مناطق خارجة عن نطاق وسط القارة.

ففي عام 1867، استولت على جزر ميداوي في المحيط الهادي، واشترت الاسكا من السوفيات، ثم نشبت الحرب الاسبانية – الامريكية عام 1898، وبنتيجتها استولت امريكا على المناطق التالية (بورتوريكو، الفلبين، غوام، هاواي، سامواه) وفي الاعوام التالية سيطرت على منطقة قناة بنما من خلال معاهدة مفروضة على بنما، كما اشترت جزر فيرجن من الدنمارك في عام 1917، واستأجرت جزر كورن من نيكاراغوا لمدة 99 عاماً في عام 1914.

وبهذا التوسع اصبحت امريكا دولة كبرى في فترة زمنية قياسية، ولكن هذه الدولة لم تشأ ممارسة الهيمنة المباشرة في مناطق غرب الامريكيتين، كما فعلت البلدان الامبريالية السابقة عليها. فهي لجأت الى تطبيق سياسة الهيمنة دون الرغبة في ضم المناطق الجديدة الى الدولة الاتحادية نفسها، وهذه السياسة يمكن التأكد منها من خلال كيفية معاملة امريكا للدولة الكوبية المجاورة، فبدلاً من ضم كوبا، منحت امريكا ذلك البلد استقلالاً رسمياً، ولكن مع الاحتفاظ بحق التدخل للمحافظة على الاستغلال الكوبي والابقاء على حكومة قادرة على حماية الارواح والممتلكات والحريات الفردية. وفي عام 1903، استخدمت امريكا نفوذها في احتلال قاعدة بحرية كوبية في غواتانامو، وما زالت تحتلها لحد الآن.

هذه السياسة القائمة على استخدام القوة العسكرية الامريكية ليست نابعة من فراغ، فهي تستهدف فتح اسواق جديدة والحصول على مكاسب تجارية، ولكن بدلاً من بناء امبراطورية امبريالية بمعناه التقليدي المتعارف عليه لجأت الى تبني سياسة (الباب المفتوح)، وبعد ذلك رأت التحول عن هذه السياسة الى سياسة دبلوماسية الدولارات، وهذه الاخيرة تستند الى مبدأ احلال الدولارات محل القوة المسلحة التي بدأت باستخدامها بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة بعد ان رأت ان دبلوماسية الدولار عادت لا تجدي نفعاً امام ارادة الشعوب المناهضة لسياساتها ولا سيما بعد اكتشاف النفط.

ونظراً لطبيعة هذه المادة كسلعة متناهية الامدادات وغير خاضعة في توزيعها الجغرافي لمبادئ العدالة الاجتماعية في شيء، عملاً على ظهور مجموعة من شركات النفط العالمية الاحتكارية، وهذه الشركات سعت الى ابسط نفوذها في بلدان اخرى من خلال البحث عن النفط.

ولكن هذا السعي ما كان له ان ينجح لولا حرص الادارات الامريكية المتعاقبة على تقديم مساعدات فاعلة لها من اجل توسيع نطاق نفوذها والهيمنة على النفط تبعاً لذلك.

ومن هنا يمكن القول، ان اكتشاف النفط جاء متزامناً مع ظهور الامبريالية الامريكية وايضاً مع محاولات امريكا فرض هيمنتها على بقية دول العالم. وهذا ما دفعها للصدام مع بريطانيا للهيمنة على مصادر النفط.

ان هذا الصراع بدأ حينما استخدمت امريكا سياسة الباب المفتوح في اجبار بريطانيا على اعطاء شركات النفط الامريكية الحق في المشاركة في استغلال المصادر النفطية الموجودة في اراضي الغير.

وعلى الرغم من ادراك بريطانية قبل غيرها من القوى الكبرى، اهمية سياسة الامبريالية النفطية التي تبناها تشرشل من اجل الحصول على الاحتياجات النفطية، فلا يعني ان التنافس بين القوى الكبرى للحصول على النفط وقف عند حد السماح لبريطانيا بالانفراد في التجارة النفطية والاعتماد عليها في التوزيع المعادل لهذه السلعة الاستراتيجية. وكان من الطبيعي ان تحذو هذه البلدان حذو بريطانيا في هذا المجال وتنافسها فيه.

لقد برهنت الحرب العالمية الاولى على اهمية النفط كسلعة غير قابلة للانفراد بها دون الآخرين، واعترف الرئيس الفرنسي كليمانصو آنذاك بذلك، وكتب رسالة الى الرئيس الامريكي ويلسون، قال فيها (ان النفط ضروري للحياة قبل الدم تماماً). ولم تتجاهل امريكا هذه الحقيقة، فمنذ ذاك الوقت اصبح النفط مسألة تحظى باهتمام خاص عند صناع السياسة في امريكا. ومن خلال التستر وراء مبدأ الدفاع عن العالم الحر، استطاعت امريكا ممارسة نفوذ عسكري واقتصادي واسع النطاق في معظم دول العالم، بدلالة انه مع حلول عام 1968، اصبح لامريكا قواعد عسكرية وتسهيلات بحرية في اكثر من 64 بلدا. وهذا الحضور اتاح لها فرصاً ملائمة للتجارة والاستثمار.

لكن هذا النجاح الفعلي للسياسة الامريكية حمل في طياته عوامل الفشل ايضاً. وما يثير الدهشة، ان صناع السياسة الامريكان لم يدركوا هذه الحقيقة الا في العشرين عاماً الاخيرة.

انه- حسب رأينا- ليس من السهل ان يتوقع المرء ان تؤدي المصالح الاقتصادية الى نزاعات عسكرية، غير ان ما يمكن توقعه في الاجل القصير هو ان زوال الحقبة النفطية قد يفضي الى نهاية عصر الهيمنة الامريكية، وربما لن تستطيع امريكا استعادة قوتها المفقودة عندئذ.

ويؤكد لنا تاريخ الامبراطوريات السابقة، ان الامبراطورية الامريكية سينساها الزمن، مع ذلك، يبقى لنرى ما اذا كان هذا النسيان يستدعي حدوث ضجة داوية او انين هادئ.

[email protected]

أحدث المقالات