23 ديسمبر، 2024 3:08 م

إنْ كنت تريد التيقن من أنّ البناء يشاد ليبقى فماع عليك إلا أن تزور المحطة العالمية في العلاوي. بناء مهيب أقامه “الاستعمار” وقد كنا نرضى منه قطعاً ببناء أقلّ شموخاً ومتانةً وجمالاً منه.
   لست معمارياً، لكنّ “عيني ميزاني” في الكشف عن الجمال المتمثل في حرص المهندس والمنفّذ على احترامي لأنه يحبني في لحظة التخطيط للبناء وتنفيذه.
  داست على بلاط المحطة أقدام ملايين العراقيين فلم “يكفع” ولم يتثلم برغم صلابة بساطيل الجنود الثقيلة طوال ما يقرب العقد من الحرب مع الجيران. وشهد المبنى الزلازل الصغيرة للانفجارات على مدى عقود من الزمن، فلم يتضعضع وكأنّ الذين وضعوا حجره الأساس عام 1947 يعلمون أنّ الحرب في هذا البلد قاعدة شواذها السلم.
   في مبنى المحطة العالمية تناغم مع ما بنا حاجة إليه، وإرضاء لفضولنا بلونه وتوزيعات الكتل البنائية فيه. لا تشعر أمامه أبداً باغتراب بسبب انحيازه للمعمارية الأوربية، برغم أنّ القائمين على التخطيط له وبنائه من البريطانيين.
وبسبب قدمه وصموده أمام أجيال من العراقيين علق المبنى في الذاكرة العراقية واحداً من الشواهد على تحضّرهم النسبي ورغبتهم الجامحة في مواكبة العالم والانفتاح عليه.
    تعرّض المبنى للعبث إبان آذار وما بعده من عام 2003، لكنّه ليس هشّاً للحدّ الذي يحتاج إلى إعادة تأهيل كالعشرات من المباني الأحدث منه بكثير. لقد حمته متانته، فلم يأبه بما جرى فيه، وبقي على شموخه رافضاً الاستسلام للعبث المقصود الذي طال أبنية العراق كلها.
إلاّ أنّه أذعن أخيراً، حين تحوّل العبث المقصود، ولا أجد تسمية أخرى لما جرى في المحطة، إلى مكاتباتٍ رسميّة ومخاطباتٍ واجتماعاتٍ انتهتْ إلى ضرورة اقتلاع شبابيك المحطة واستبدالها بأخرى من الألمنيوم.
بدت الخطوة زائدة تماماً، بل وغريبة، فشبابيك المحطة أكثر من رائعة من الناحية الجمالية، أما متانتها فيكفي أن صانعها هو “أبو ناجي”، الرجل الذي تسالمنا على أنه لا يصنع إلا المتين الجميل. لذا أباحت الخطوة للخيال أن يشطح مسكوناً بهواجس الريبة بها وبدوافعها!
   يبدو أننا خسرنا مرتين في هذا الإجراء الغبي، وهو أقل وصف يمكن أن يناسبه، مرّة حين استبدلنا الشباك المتين الجميل الذي يحاكي في طرازه واتساقه فضاءَ البناء العام وانتمائه الحميم إليه، ومرّة لأننا صرفنا مبلغاً فلكيّاً، كان يمكن أن يُستغلَّ بطريقة أكثر حكمة.
أسئلة تعبث بأعصابي وأعصاب الإخوة في السكك الحديد ممن سألتهم: أين انتهت الشبابيك الإنجليزية التي أُقتلعت؟ وبكم بيعت؟ إلى أن نحصل على إجابات مقنعة على هذه الأسئلة، إن كان ثمة إجابات أصلاً، دعوا لخيالنا أن يستريح عند تفسير جاهز شائع هو أن الأمر كله دُبّر بليل!!
[email protected]