21 ديسمبر، 2024 8:08 م

حديث “صدام حسين” مع الشيخ “سعد العبدالله الصباح” قبل (12) عاماً من غزو الكويت
مقدمة
لقد دفعني لخوض هذه المقالة -المستقاة من مذكراتي الشخصية- سوى ما تكرّم به الأستاذ “حسن العلوي” عمّا كان يدور عام (1975) في خاطر “صدام حسين” لإحتلال “الكويت”… وفي الوقت الذي لا أعتبر ذاتي على علم بهذه الأمور بقدر 10% مما في شخص الأستاذ “العلوي”، لكني أسرد ما حضرتُه في لقاء جمع “صدام حسين” مع “الشيخ سعد العبدالله الصباح” بشأن حدود “العراق” مع “دولة الكويت” بحكم منصبي في حينه.
فمنذ (تموز/1977) ولأكثر من عام واحد شاء قَدَري أن أشغل منصب ((ضابط ركن قسم القضايا الحدودية)) لدى “شعبة إعداد الدولة للحرب” وسط إحدى أهمّ دوائر وزارة الدفاع حسّاسية وإطلاعاً على أمور الدولة، والمتمثّلة بمديرية الحركات العسكرية التابعة لدائرة العمليات.
فالعلاقات الحدودية بين “العراق” ودول جوارها الأربع “تركيا، سوريا، المملكة الأردنية، المملكة السعودية” لم تكن تَشُبها شائبة تُذكَر من حيث إستقرارها وخلوّها من أية مشكلات… ولكن معضلات عديدة تواصلت -منذ التأريخ القديم- وظلّت عالقة مع الجارة الشرقية “إيران” جراء عدم الإتفاق النهائي حول (ثلاثة) مواقع بعد إبرام “إتفاقية الجزائر” في (6/3/1975)، وكذلك كان الحال حيال “دولة الكويت” لعدم ترسيم حدودها بشكل واضح متّفقٌ عليه مع “العراق” بواقع (230) كلم، رغم إنقضاء (46) سنة على منح “بريطانيا” إستقلالها عام (1961) وإنبثاق دولتها الفتيّة وقبولها -بضغط بريطاني- عربي وتأييد دولي وعلى وجه السرعة – عضواً لدى الجامعة العربية في تلك السنة، وقبل إنضمامها رسمياً لمنظمة الأمم المتحدة سنة (1963).
الحدود العراقية-الكويتية
كان وجوباً عليّ سبق النظر وإستيعاب هذه المشكلات العالقة مع “إيران والكويت” بإستطلاع ميداني ومفصّل لمواقعها وسيراً على قدَمَيَّ لإستهضام ملفّاتها الخاصة ووثائقها -السرية للغاية- والمكاتبات المتبادلة والتقارير ومحاضر وفود والإجتماعات البينيّة التي أُعِدَّتها مراجع عليا أو وردت من وزارات عديدة ودوائر حسّاسة حتى أمسيتُ بصورة وافية وعلى إستعداد لحضور أي إجتماع طارئ تفرضه الظروف الآنية.
كانت الشوائب مع “إيران” أكثر حساسية من الناحيتين السياسية والتأريخية، لكني وددتُ إرجاء الخوض فيها بمقالة مفصّلة لاحقة، كي أركّز بهذه السطور على ما عشتُه بأحد أيام عام (1978) في ما يخصّ الحدود مع الجارة “الكويت” وقتما كان تسنّم “الشيخ جابر السالم الصباح” قبل أشهر كرسيّ الإمارة عقب وفاة أخيه “الأمير صباح السالم الصباح” أواخر عام (1977).
في تلك الفترة أعلمتنا وزارة الخارجية العراقية أن سمو “الأمير جابر” سيثير ترسيم الحدود في قادم الأيام، لذلك أمسيتُ أستعيد مراجعة الملفات الخاصة مع الخرائط، وعرضتُ آخر المستجدات على الخريطة بإجتماع مصغّر أمام السيد رئيس أركان الجيش “الفريق أوّل الركن عبدالجبار خليل شنشل” ومعاونه للعمليات “الفريق الركن عبدالجبار عبدالرحيم الأسدي”، وبحضور مدير الحركات العسكرية “اللواء الركن سعدالله يونس الطائي” ومدير شعبة إعداد الدولة للحرب “العقيد الركن طارق صادق عبدالحسين”.
في مبنى المجلس الوطني
منتصف نهار (الثلاثاء- 14/3/1978) فتح “العقيد الركن طارق صادق” باب مكتبي طالِباً الإسراع إلى مكتب “اللواء الركن سعدالله” لأجده واقفاً ومرتبكاً في الـمَمَر وهو يأمرني بإصطحاب خرائط الحدود مع “الكويت” والتوجّه فوراً إلى مكتب “الفريق شنشل”… وعلى الرغم من كون خرائطي مؤشرة وجاهزة من جميع الوجوه وإضطراري إلى الركض وسط ممرات الدوائر، فقد وجدتُ “الفريق شنشل” على أعصابه متجهّماً عَبوساً -كعادته- قرب سلالم ديوان الوزارة مشيراً عليّ بالجلوس إلى جنبه في سيارته العسكرية التي أسرَعَتْ بنا في شوارع “بغداد” ومن دون أنْ يوضّح لي وجهتنا، حتى إجتزنا بوّابة “مبنى المجلس الوطني” الذي كنا نعلم أنّ “صدّام حسين” -نائب رئيس مجلس قيادة الثورة- قد إتّخذه مكتباً له منذ (1968).
وكانت المفاجأة أكبر حين دخلتُ برفقة السيد رئيس الأركان قاعة إجتماع متوسطة المساحة وقد جلس في جانب منضدة طويلة وعريضة وفدٌ يرتدي -بمعظم شخوصه- زيّاً خليجيّاً والبعض منهم عسكريّون، والذين لولاهم لما إنتبهتُ أنهم كويتيّون، وبالمقابل وفد عراقيّ رفيع المستوى يماثلهم بالعدد ويمثّلون وزارات “الخارجيّة، الداخليّة، الماليّة”، وأوانَئِذٍ أيقنتُ سبب حضوري هذا الإجتماع، في حين لم أستطع -بطبيعة الحال- معاتبة السيّد رئيس أركان الجيش لعدم بَوْحِهِ لي بهذا السرّ لأتَهَيّأ نفسيّاً.
لم ننتظر طويلاً حتى أطلّ علينا “الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح” وليّ العهد -والذي يتولّى مناصب رئيس الوزراء ووزير الداخلية والخارجية في حينه- إلى جانب النائب “صدّام حسين” يصاحبهما وزير خارجيتنا “الدكتور سعدون حمّادي” حيث نهضنا جميعاً إحتراماً لهم.
وبعد الترحيبات والإطراءات والمجاملات -المُعتادة- بشأن الصداقة بين الدولتين العربيّـتَين الجارتَين الشقيقتين واللّتان تربطهما علاقات حسن الجوار والتأريخ المشترك، فقد عَرَضَ “د.سعدون حمّادي” -برصانته ولباقته المعهودة- عدداً من المشكلات القائمة -من وجهة النظر العراقيّة- وأسباب عدم التوصّل إلى إتّفاق نهائيّ لتخطيط حدودهما وفقاً للمواثيق الدوليّة المُتَعارَف عليها، فقد تحدث “الشيخ سعد” عن المعضلات ذاتها -حسب الرؤية الكويتيّة- مُبْدِياً رجاءَه بأنّ هذا الوفد الكبير لم يأتِ لزيارة العراق الشقيق لأنْ يُرَدّ على يد كُرَماء معروفين بمواقفهم العروبيّة والفروسيّة، بل أتى لينهي أو يضع حدّاً لهذه المُتعلّقات ويمهّد لإبرام إتّفاق يُرضي الطرفَين ويريح بالهم.
طُلِبَ منّي سرد تفاصيل مواقع المراكز الحدوديّة المُحَدّدة المُخْتَلَف عليها، فقد أوضحتُ على خريطة ذات مقياس كبير (1/25,000) أنّ القوات الحدودية التابعة لدولة الكويت قد تجاوزت على الأراضي العراقيّة -حسب رؤيتنا المُسْـتَنِدة على مستمسكات رسميّة للحدود الإداريّة لبقعة الكويت التي كانت تابعة لـ”ولاية البصرة” في عهد الدولة العثمانيّة، قبل تحوّلها إلى “محميّة بريطانيّة” وفقاً لمعاهدة ثنائية معروفة -لم تُبرَم بين دولتين- وبعمق يتراوح بين (13-20) كلم في أقصى البقاع الجنوبيّة لـ”محافظة البصرة” حيث أنشَأت “الكويت” في ربوعها (8) مخافر حدوديّة تحيطها أعداد من المدرعات الخفيفة والرشاشات الثقيلة، البعض منها وقتيّة وغالبيّتها مخافر كونكريتيّة محصّنة… وذلك قبل أنْ ينهض “عقيد ركن كويتي” ليُدافِع -بوجهة نظر مُغايِرة- عن صحّة المواقع الكويتيّة تلك وعدم تجاوزها أرض العراق.
المفاجأة
وفجأة قاطع “صدام حسين” ضابط الركن الكويتيّ، على الرغم من لباقته المعهودة بالإعتذار، فساد الوجوم وجوه الشيوخ والآخرين ونحن معهم، قبل أنْ ينتبهوا بعدئذٍ لعباراته باللهجة العراقية المطعّمة مع مفردات بدوية:-
((يا إخوان… لقد أطِلنا الحديث بشأن موضوع تافه أثّر سَلباً حتى على أعصابنا التي نتمنّاها “رائقة” ونحن نستقبل إخوةً أعزّاء على قلوبنا ونفوسنا، هم ليسوا ببلدهم الثاني بل في بلدهم الأوّل.
يا إخوان إسمعوني جيداً، نحن عرب أشقّاء أوّلاً وأخيراً، لا حدود بيننا من حيث الأساس كي نختلف عليها، فأرض العرب واحدة يجمعهم وطن عربي واحد نحن أوّل الداعين لوحدته، وما هذه الحدود الشكلية سوى صنيعة المستعمرين وتقسيمهم، بينما نتصرّف -في الواقع- وكأننا مُتَنازعون على إرث؟؟ لذلك إنْ كنتم قد إنتهيتم من شروحاتكم وخطاباتكم، فإني أُخَوّل نفسي بالقول لكم أنْ تعودوا إلى بلدكم وقتما تشاؤون براحة بال وطمأنينة، وسنزوّدكم نحن بخريطة فارغة أُوَقِّعُ شخصيّاً على بياضها، لتُخطّطوا عليها حدود “دولة الكويت” الشقيقة مثلما يروق لكم من دون تحفّظ ولو بلغتم حدود “بغداد” العزيزة، وأعِدكم بموافقتنا على كلّ تأشيراتكم مُسبَقاً من دون أن نتدارس تفاصيلها.
والآن فلنترحّم على روح فقيدنا الغالي “الشيخ صباح السالم” الطاهرة مع تمياتنا بالموفقية لخلفه “الشيخ جابر” الشقيق، ولنتوكّل على الله ونتناول طعام الغداء قبل أن نزور السيد الرئيس “أحمد البكر” للسلام عليه، فهو بإنتظارنا)).
وَعَمَّ الفرح
صَفَّقَ الوفد الكويتيّ فرِحاً، وتَحاضَنَ الشيوخ مع “صدام حسين” مُغتَبِطين بالنتيجة التي آلت إليها زيارتهم -غير المعلنة- وهذه الجلسة التأريخيّة، وأمرَني “الفريق شنشل” أنْ أُسلّم للعقيد الركن الكويتيّ خريطتي الخاصة على أن تكون فارغة من أية تأشيرات، فأخرجتُها من المحفظة وأودعتُها بين يديه بعد أن وقّعتُ في زاويتها العليا وجعلتُه يوقّع كذلك كي تعتبر الخريطة ذِمّةً تُعاد إلينا بذاتها لاحقاً.
بعده توجّهنا لنتناول طعاماً لم أشهد له مثيلاً في صنوفه وأسلوب عرضه وفواكهه ولذائذ مرطّباته وحلويّاته منذ إنطلقتُ من رَحِم أمّي إلى هذه الحياة وإنقضاء (33) سنة حتى ذلك اليوم.
مصير الخريطة
إستلمتُ الخريطة ذاتها بعد إنقضاء (3) أشهر من وزارة خارجيّتنا وقد خطّطَ عليها الكويتيّون الحدود الشمالية لدولتهم مع العراق -حسب رؤاهم وطموحاتهم- فصَوَّرتُ منها نُسَخاً إحتفظنا بها بمثابة وثيقة شبه رسميّة لدى شعبتنا، فتدارسناها مُبدين ملحوظاتنا الإيجابية وتحفّظاتنا السلبية لتُرفَعَ إلى وزارة الخارجية بتوقيع السيد وزير الدفاع “الفريق أول الركن عدنان خيرالله”.
مساء (الأحد 25/6/1978) رأس الدكتور “سعدون حمادي” إجتماعاً إستغرقت (4) ساعات بديوان وزارته:-
رئيس الدائرة العربية بوزارة الخارجية.
مدير عام المساحة- ممثلاً عن وزارة المالية.
العقيد الركن “ثامر حمد الحمود”- مدير شعبة الحركات في قيادة قوات الحدود- ممثلاً عن وزارة الداخلية.
العقيد البحري الركن “عبد محمد الكعبي”- مدير شعبة العمليات لدى قيادة القوة البحرية- ممثلاً عن القيادة.
المقدم الركن صبحي ناظم توفيق- ضابط قسم القضايا الحدودية لدى مديرية الحركات العسكرية- ممثلاً عن وزارة الدفاع.
آخر المطاف
وبعد تكامل آراء الجميع وملحوظاتهم وتحفّظاتهم فقد رفعها السيد وزير الخارجية -مرفقة بتلك الخريطة وخرائط أخرى أكثر تفصيلاً- إلى مكتب “السيّد النائب” الذي لم يبتّ فيها أو يُعَلّق عليها، ولم تُعَد إلينا لـِما يربو على (6) أشهر، حيث إنشغلت المنطقة في تلك الأشهر بتصاعد المظاهرات في الشارع الإيراني والتي مهّدت لإنهيار نظام “الشاهنشاه محمد رضا بهلوي” أوائل (شباط/1979)، فأُقْحِمَ الشرق الأوسط برُمّـته في خضمّ مواقف أنست “العراق والكويت” خلافاتهما الحدودية، وتورّط “العراق وإيران” في حرب ضروس كانت أعظم معاركها على مقربة من سواحل “الكويت” وأرضها، ولذلك لَم تُثِرها الدولتان لغاية قرار النظام العراقيّ بغزوها يوم (2/8/1990) والذي لم يخطر على بال أحد وقوعه، وما زلنا نعاني من تبعاته وذيوله وإرهاصاته لحد يومنا الراهن.