5 مارس، 2024 9:30 م
Search
Close this search box.

شاهد عيان ما بعد 17/تموز/1968على أوضاع جيشنا المنتشر في الأردن وسوريا

Facebook
Twitter
LinkedIn

مقدمة
بعد إنقضاء ما يزيد على نصف قرن من الزمان، فإن العديد من الأصدقاء والمعارف يدفعونني لسرد أحداث عشتُها وسط تشكيلات جيشنا العراقي التي رابطت في أرض المملكة الأردنية منذ حرب حزيران/1967 ولغاية شباط/1971، بعد تلك النكبة المروِّعة التي قلبت الموازين الستراتيجية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والمعنوية والثقافية لطالح العرب على إثر إنتصار هائل لصالح “إسرائيل”.
ورغم معاناتي من تراجع نظري وبلوغي أواسط السبعين من عمري، فإن إلحاح أولئك الأعزاء بضرورة عرضها أمام أنظار المتابعين لتلك الحقبة المؤلمة من تأريخنا قبل أن يفوتني قطار العمر والذاكرة المتواضعة التي أتمتع بها بفضل العليّ المقتدر، جعلني أرضخ لرجاءاتهم بسرد العديد من الأحداث المتنوعة والمتقلِّبة التي عشتُ أيامها بكل جوارحي ومشاعري، وذلك خدمة للتأريخ الذي قد تمسي وقائعُه طيّ النسيان، كون الذين عاصروا تلك الحقبة إمّا أنهم ودّعونا إلى جوار العليّ المقتدر بمشيئته، ولم يَبقَ ممّن أمَدَّ الله -سبحانه- في أعمارهم سوى أعداد ضئيلة من الذين ينقسمون ما بين غير آبِهٍ ومُكتَرِث بالأحداث، أو لا يعلمون ولم يسمعوا بها، أو أن ذاكرتهم لا تسعفهم على إستذكارها، أو أنهم لا يمتلكون مَلَكَة الكتابة والتعبير عمّا في خلجات أنفسهم.
ولكني لـمّا عزمتُ لخوض هذا المخاض إعتماداً على يوميات ثَبَّتتُها في حينه، إكتشفتُ بأنها واسعة للغاية، وكل حدث فيها يتطلّب لتغطيتها مقالة طويلة أو كُتَيب أو كتاب، فإستشعرتُ ذاتي مُجبَراً على إختصارها.
بُعَيدَ (17/تموز/1968)
خلال النصف الثاني من عام 1967 والنصف الأول من 1968، بلغ واقع التعاون العسكري والعلاقات الودّية بين العراق بقيادة الرئيس “الفريق عبدالرحمن عارف” وبين المملكة الأردنية بعاهلها الملك “الحسين بن طلال” مستويات عالية في كل شيء، حتى فوجئنا صبيحة يوم (17/تموز/1968) بإنقلاب -سُمِّيَ ثورة- سيُغيّر العديد من موازين المنطقة بشكل تراديجي.
ولم تَنقَضِ سوى ساعات حتى علمنا بإلتجاء قائد فرقتنا المدرعة/3 “العميد الركن محمود عريم” -بقرار شخصي- إلى الملك الحسين الذي إحتضنه من دون تردّد… وفَوراً عُيِّنَ محلّه “العقيد الركن (البَعثي) حسن مصطفى النقيب” آمر جحفل لواء المشاة الآلي/8 المرابط في معسكر “الزَرقاء” الأردني بُعَيدَ الحرب، ومُنِحَ رتبة “عميد ركن”، فأُستُعيض عنه بـ”العميد محمود بكر أحمد” آمراً للواء ذاته.
وظهر يوم 17/تموز نفسه، تلاحقت علينا برقيات فورية بنقل عدد من ضباط فوجنا ولوائنا من أصدقائنا البعثيين البارزين إلى وحدات الحرس الجمهوري المشترك بالإنقلاب، وودّعناهم عصراً.
وفي مساء ذلك اليوم تناقلت الأنباء عن مغادرة الرئيس “الفريق عبدالرحمن عارف” مع أولاده إلى “لندن”، حيث كانت قرينته السيدة “أم قيس” تُعالَج في أحد مستشفياتها.
وخلال أيام نُقِلَ آمر لوائنا المدرّع/6 “العميد الركن محمد طيّب كشمولة” إلى منصب مدير التدريب العسكري بوزارة الدفاع، وحلّ “العقيد الركن عبدالمنعم لفتة الريفي” محلّه، قبل أن يُبَدَّل عدد من آمري آمري الأفواج والكتائب تباعاً لدى عموم فرقتنا المدرعة/3.
وبعد أسبوعَين، وفي يوم (30/تموز/1968) تحديداً، وبينما كنا مستعدّين لإستقبال وزير دفاع العراق الجديد “الفريق الركن إبراهيم عبدالرحمن الداوود”، فقد أُعلِنَ في “بغداد” عن تنحيته مع رفيقه رئيس الوزراء “الفريق الركن عبدالرزاق سعيد النايف”، قبل أن نعلم بأن ضابطاً بعثيّاً -وهو الرائد الركن (س.و.س)- قد كُلِّفَ بالقبض على الوزير وربط يديه ونقله مخفوراً إلى “بغداد” بسيارة مدنية.
وبإنقضاء الأيام غاب الضباط الفلسطينيون العاملون -على الملاك الدائم- في وحدات جيشنا منذ أواسط الستينيّات، ومنهم (خمسة) في فوجنا… قبل أن نعلم بعدئذ أنهم إلتجأوا لدى دول آوروبا الشرقية، حيث لم يَبقَ لدينا سوى ضابِطَين، هما الملازمان “محمد صالح عمورة ومحمد أبو الهيجاء”.
تصاعد المواقف في الأردن
يوماً بعد يوم تصاعدت الخلافات الإعلامية (الثورية الرخيصة) وتهجّمات وسائل الإعلام العراقية على “الأردن” لحدّ العداء، وباتت أوضاعنا في الأرض الأردنية محرجة، وغدونا مكروهين في الشارع الأردني بعض الشيء.
وفيما ظلّت القيادة الأردنية على إلتزامها بقرار مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار مع “إسرائيل”، فقد كانت على أرض الواقع محاولات خَرقِه من لدن القيادة العراقية، ما تسبّب في مشكلات بَينِيّة عديدة.
وقد جاهَرَت “بغداد” في إحتضان البعض من الفصائل الفلسطينية وتأييد الكفاح المسلّح لـ((تحرير فلسطين))، وشكّلت القيادة القومية لحزب البعث -جناح العراق- فصيلاً فلسطينياً مسلّحاً جديداً تحت مسمّى “الجبهة العربية لتحرير فلسطين”، ودعمتها بالمال والسلاح والمواقف السياسية والإعلام، وسمحت لغير الفلسطينيّين بالإنخراط في صفوفها.
أما “قيادة الجبهة الشرقية” فقد كان مقرها متمركزاً منذ عهد الرئيس “عبدالرحمن عارف” في مدينة “السُوَيداء” السورية، بقائدها العراقي “اللواء الركن عدنان أحمد عبدالجليل” ورئيس أركانه -اللواء الركن عبدالله سيّد أحمد- وضباط أركانهم الأقدَمين -وكلّهم عراقيّون، عدا عدد ضئيل من ضباط الإرتباط السوريين والأردنيين- وكذلك حماياتهم الأرضية وبطرية مقاومات الطائرات، في حين ظلَّ جُلّ تمويلها على نفقة الدولة العراقية.
وبعد أسابيع من (17/تموز) حُرِّكَت “كتيبة دبابات المُعتَصِم” من العراق وإلتحقت بلوائنا ليتكامل ملاكه الأساس ويغدو (3) كتائب دبابات، إضافة لفوج مشاتنا الآلي.
القصف الجوي الإسرائيلي
لم ينقَضِ سوى شهر واحد على ذلك حتى إتّهَمَتنا “إسرائيل” بتفجير عبوة ناسفة في “القدس الغربية” وهددت بالإنتقام من العراق، فباشرت طائراتها الإستطلاعية الإختصاصية من طرازَي (ميراج-3R وسوبر ميستير) بتصوير مواقعنا بمُعدّلات شبه أسبوعية ومن إرتفاعات شاهقة لم تبلغها مديات مقاوماتنا الأرضية.
ظُهر (الأربعاء- 4/12/1968) -الذي صادف يوم 14/رمضان- تعرّض فوجنا وكتائب دبابات لوائنا المدرع/6 المتمركزة حوالَي مدينة “المَفرَق” لأعنف قصف جوي إسرائيلي صادفتُه في كل حياتي العسكرية، بواقع (48) طائرة “ميراج 3-C، وسوبر ميستير، والقاصفة فوتور” ولمدة (55) دقيقة متواصلة من دون إنقطاع، في حين لم تستطع مقاوماتنا الأرضية المتنوعة مع المقاومات الأردنية سوى إصابة طائرة واحدة فقط سقطت في طريق عودتها وقذف طيّارها بالمظلّة في الأرض الأردنية فقَتَلَه راعٍ أردني، قبل أن تنقذ قوة خاصة إسرائيلية جثمانه بطائرة هليكوبتر.
وباليوم التالي زارنا العميد “حماد شهاب” -وكان ما زال برتبة عميد وبمنصب قائد قوات بغداد- وخُضنا معه عتاباً شديداً لعدم تدخّل طائراتنا المقاتلة للدفاع عنّا.
أحداث عام 1969
يوم (6/1/1969) تخرّج عدة مئات من الشباب البعثيين ضمن الدورة الخاصة الأولى، وإلتحق العشرات منهم لوحدات لوائنا… وستقع بيننا مشكلات كثيرة ومتتالية طالت أكثر من سنة.
وخلال شهر (آذار/1969) حُرِّكَ اللواء المدرع/12-وهو من الألوية الأصل لفرقتنا المدرعة/3- من العراق ليستلم مواضع لوائنا الذي حُرِّك إلى الجبهة السورية بإتفاق ثنائي عراقيّ- سوريّ، وغدونا -إلى جانب اللواء المدرع السوري/45 بقيادة العقيد الركن ميشيل- إحتياطاً عاماً و(قوة ضاربة مُحَرَّرة بواقع لواءين مدرّعَين) تحت إمرة قيادة الجبهة الشرقية.
ومع حركتنا إلى محافظة “درعا” السورية، فقد نقِلَ آمر لوائنا “العقيد الركن عبدالمنعم لفتة” إلى منصب آمر كلّية الأركان، وحلَّ “العقيد الركن غانم العَقيدي” محلّه.
وإضافة لفرقتنا فقد جِيءَ بفرقة المشاة/1 من جنوبيّ العراق، وإنتشرت وحداتها على خط المواجهة الواسع في مناطق غور الأردن.
وفي يوم (7/نيسان/1969) زارنا عدد من أعضاء من المكتب العسكري للحزب، وكان من بينهم عدد من أصدقائي الحميمين من أبناء دورتي بالكلية العسكرية، وقد تطرّق أحدهم أمام رفاقه -رغم إرتباطنا سوية بوشائج طيبة للغاية وكوني صاحب أكثر من فضل شخصي عليه قبل (17/تموز/1968)، وهو (الرفيق س.ع.م.ف)- أني كنتُ ضابطاً بالحرس الجمهوري في عهد الرئيس “عبدالسلام عارف”… ولم ينقَضِ سوى أيام حتى أُعفِيتُ من منصب مساعد آمر الفوج وأعيد تعييني بمنصب آمر سرية.
بعد ذلك أناط لي آمر اللواء الجديد واجب “ضابط الإنضباط العسكري” في محافظات “دَرعا والسُوَيداء والرَمثا” لفرض الضبط والربط المُتَدَنّي لدى جنودنا وضباطنا، والحَدّ من تصرفاتهم غير المقبولة وسط تلك المدن بشكل غير مستساغ، حيث صادفتُ الكثير والكثير من المشاهد، وإطلعتُ على العديد من المَكامِن خلال شهر واحد قضيتُه بهذا الواجب الصعب والُمحرِج قبل أن أعود لمنصبي الأساس آمراً للسرية الأولى من فوجنا.
في الجبهة الأردنية، ولـمّا تكرّرت القصفات المدفعية الإسرائيلية على مدينة “إربِد”، فقد أقدمت مدافع الكتيبة/15 العراقية (((ومن دون تنسيق مع القيادة الأردنية))) على قصف مدينة “طبريا” المحتلّة وألحقت خسائر وأوجاعاً بحق مستوطنيها اليهود، فإضطرّت “إسرائيل” إلى إيقاف قصف مدافعها على جميع الأهداف الأردنية المدنية.
وفي هذه الفترة بَرَزَت ظاهرة لم نألَفها من قبلُ ولم يشأ معظم ضباطنا تَقَبُّلَها خروجاً على هَرَميّة التسلسل في الرُتَب والمناصب العسكرية التي ترَبَّينا وتعوّدنا عليها منذ دخولنا الكلية العسكرية، كَمُنَت في مناصب شبه عسكرية أُستُحدِثَت بعد (17-30/تموز/1968)، أمثال (المسؤول الحزبي للسرية، الغوج، الكتيبة، اللواء، الفرقة)، وغدونا نشاهد مناظر مستغرَبة، كَأن يسير شخص برتبة نائب ضابط إلى جانب قائد الفرقة برتبة “عميد ركن” ويجلس معه سوية في الصف الأمامي أُسوةً بآمري الألوية والتشكيلات وضباط أركانه الأقدَمين.
ولذلك تصاعدت خلافاتنا مع (عدد) من ضباط الدورة الخاصة (البعثيين) غير المُنضِبِطين وليس الجميع، والذين كانت مهمّتهم الأساس رفع تقارير شبه يومية عن تصرفاتنا الإعتيادية اليومية، وبالأخص وقتما يستشعر أحدهم من أن حديث أحدنا يمسّ حزب البعث أو النظام أو أحد شخوصه ولو بكلمة أو عبارة.
وخلال إستطلاعنا لجبهة “القُنَيطرة” ظهيرة يوم (21/مايس/1969) -وبرفقتنا عدد من الضباط السوريين- تابعنا إشتباكاً جوياُ سوريا-إسرائيلياً، وشاهدنا (4) مقاتلات إسرائيلية “ميراج-3” وقد أسقطت (7) مقاتلات سورية “ميك-17” خلال دقائق… ولكن البيان الرسمي السوري زعم غير ذلك.
وفي أول إنشقاق خطير بين البعثيين، فقد هرب قائد فرقتنا المدرعة/3 “العميد الركن حسن النقيب” –وأعتقد في (حزيران/1969)– مع عدد من الضباط (البعثيين/جناح سوريا) وإلتجأوا إلى “دمشق”، فَحَلّ “العميد الركن إسماعيل تايه النعيمي” محلّه سِراعاً.
وفي الذكرى السنوية الأولى لـ(17/تموز) تكالَبَ عليّ عدد من ضباط دورة البعثيين الخاصة، وأوقعوني تحت طائلة معضلة كادت تودي بيَّ إلى كارثة، وأُعفيتُ ليلاً من منصب آمر سرية كذلك.. ولولا تدخّل آمر لوائنا اللاحق “العقيد الركن دخيل علي الهلالي” لحمايتي من شرورهم لأُعتُقِلتُ ولربما سُجِنت وطُرِدتُ من الخدمة… فقد إستطاع إعادتي إلى منصبي ذاته، وعاقب الذين أقسَموا -بُهتاناً وكَذِباً- أمام مسؤول تنظيمات الفرقة “نائب الضابط الحربي الرفيق إبراهيم التميمي” بأني شتمتُ مؤسس الحزب “ميشيل عفلق” والرئيس “المَهيب أحمد حسن البكر” ومزّقتُ قصائد تُمَجِّد البعث ودستُ عليها تحت حذائي!!!!.
وللمرة الأولى في حياتي شاهدنا ليلاً بأم أعيننا قصفاُ جوياً ليلياً، حيث أبادت الطائرات الإسرائيلية بطرية مدفعية سورية ضمّت (ستة) مدافع عيار (130) ملم بعيدة المدى مع عدد مماثل من مدافع مقاوماتها الأرضية، والتي كانت في طريقها إلى “غور الأردن” مساء يوم (18/تموز/1969).
وفي “المفرق” تشكّل مقر قيادة ميدانية -بمستوى فيلق- سُمِّيَت “قيادة قوات صلاح الدين”، وعُيِّنَ “اللواء الركن عبدالله سيّد أحمد” قائداً لها.
وقائع عام 1970
في أوائل (1970) أُستٌبدِلَت دباباتنا القديمة (تي-54) بدبابات جديدة أفضل (تي-55)، وكذلك ناقلات الجنود المدرعة لفوجنا بأُخرَيات برمائية سوفييتية أحدث طراز (BTR-50)، وتم تسليم ناقلاتنا الأمريكية الرائعة (M-113) إلى أحد أفواج لواء المشاة الآلي/8 في “الزرقاء”.
وفي تلك الفترة زارنا رئيس أركان الجيش الجديد “الفريق حماد شهاب” وأجرينا أمامه تمرين عبور بحيرة ماء واسعة، ورغم إبداء رضاه عن التمرين فقد إنزعج لعدم إعدادنا وليمة طعام دسم تكريماً له ومرافقيه.
وفي تلك الأشهر كنتُ أستأذِن من آمر فوجنا مِراراً لأبيت ليلة واحدة في كل مرة لدى أصدقاء لي من ضباط عراقيين في “غور الأردن”، ومن بينهم الملازمان الأولان “صائب عليوي الحسن، وموفق محمد حسن”، حيث كنت أتلمَّس مُبالغات البعض من فصائل الفدائيين في بياناتهم الرسمية.
وفي تلك الزيارات كنتُ أشاهد -في طريقي- كتيبة مدفعية ميدان سعودية بواقع (18) مدفع (155 ملم) مفتوحة في غور الأردن، وكذلك كتيبة مدافع باكستانية لمقاومة الطائرات بواقع (54) مدفع م/ط مُنتشرة في بقاع واسعة بالمناطق ذاتها.
الخاتمة
أكتفي بهذا السَرد المختصر لوقائع غطّت عامَين من أعمارنا (تموز/1968- أواسط 1970)، وللحديث تكملة في مقالة قادمة -بعون الله- أتحدّث للقراء الأعزاء مواضيع شائكة فرضت أوجاعها على الأردن والفلسطينيين والسوريين وعلينا نحن العراقيين، والتي سُمِّيَت بـ”أحداث أيلول/1970)، فإلى لقاء قريب بمشيئته سبحانه.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب