23 ديسمبر، 2024 10:28 ص

 شاهد عيان لتأريخ العراق في أواسط الستينيات – ١

 شاهد عيان لتأريخ العراق في أواسط الستينيات – ١

مقــدمـــة
شاء قدري حين تخرجت برتبة “ملازم” (تموز1964) أن أُنتـَخَبَ -من حيث لا أدري- ضابطاً في فوج الحرس الجمهوري/1 المكلـّف بالحفاظ على نظام حكم “عبدالسلام محمد عارف” والوحدة العسكرية الأهم المناطة إليها مسؤولية حماية القصر الجمهوري في “كرادة مريم” ومبنى الإذاعة والتلفزيون في “الصالحية” ومسكن عائلة الرئيس في “الأعظمية”، وأسجّل يومياتي لسنتين متتاليتين في ذلك العهد. واليوم وبعد أن تجاوزت العقد السابع من عمري، فإني أستشعر ضرورة إستذكار ما سطرته في تلكم الأيام أمام أنظار القراء الكرام على شكل دراسات ومقالات طويلة أحاول من خلالها تسليط بعض الضوء على محطات يجدر التوقف عندها ليكون متابعو تأريخ العراق المعاصر وباحثوه من طلبة الدراسات الجامعية العليا بشيء من الصورة عن العديد من المواقف التي فرضت نواعمها وأوزارها السياسية بأشكال أشبه بروايات الدراما والتراجيديا والكوميديا الهادفة لوقائع متسلسلة لم تـُكشَف عن أسرارها -لأسباب أو لأخرى- في غضون (5) عقود مضت وما زالت، كي يتمتع متابعو ما يُنشَر على موقع (كتابات) الأغر بسبق إعلامي في قراءتها. ولما لم يسبقني أحد في هذا الشأن -حسب علمي ومتابعاتي- فقد فضّلتُ أن أصبّ باكورة كتاباتي على وقائع عشتها بشخصي ورأيتها بعيني وأحداث كتبتها بأناملي في الأيام والساعات التي تعايشت معها أو أسرار لهثت وراءها في غضون (المحاولة الإنقلابية الأولى) التي أقدم عليها “عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق” ذو المناصب الخمسة ((رئيس الوزراء، وزير الدفاع، قائد القوة الجوية، عضو المجلس الوطني لقيادة الثورة، وأحد نواب رئيس الجمهورية)) وذلك في منتصف (أيلول1965)، والأسباب الـمُبهمة وراء إخفاقه مع مؤازريه في تحقيقها، وذلك فضلاً عن آراء العديد من كبار صانعي القرار والأحداث ممن كانوا أقرب المقربين إليه.

محاولة “عارف عبدالرزاق” الإنقلابية الأولى (أيلول1965)

في منتصف الستينيات من القرن/20 المشوب بالمفاجآت والصراعات لـ(7) سنوات منصرمات منذ الإطاحة بالعهد الملكي (14تموز/يوليو1958)، كان بادياً على سطح ساحة العراق السياسية المتلاطمة بأمواجها أن العلاقات القائمة بين رئيس الجمهورية “المشير الركن عبدالسلام محمد عارف” وكتلة الضباط القوميين/الناصريين لربّما عادت الى بعض مجاريها بشكل أو بآخر، بعد أن رَجَّـتْها أزمة (تموز1965) الوزارية رجّاً غير مسبوق في العلن.

بل كانت هناك مفاجأة أكبر إنفلقت مساء الاثنين (6أيلول/سبتمبر1965)، عندما كان الألوف من العراقيين جالسين أمام التلفاز وهم يشاهدون الرئيس “عبدالسلام عارف” مستقبلاً رئيس الوزراء المُستقيل “الفريق طاهر يحيى” مع كامل أعضاء وزارته الثالثة، وإلى جانبه رئيس الوزارة الجديدة التي كُلِّفَ بتشكيلها “عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق”ó قائد القوة الجوية وعضو المجلس

الوطني لقيادة الثورة، وبرفقته (15) وزيراً يحملون حقائبهم.. وهم:-

* عارف عبدالرزاق- وزيراً للدفاع وكالة، إضافة إلى منصب رئيس الوزراء.

* عبدالرحمن البزّاز- نائباً لرئيس الوزراء، ووزيراً للخارجية، ووزيراً للنفط وكالة.

* سلمان عبدالرزاق الأسود- وزيراً للمالية.

* عبداللطيف جاسم الدراجي- وزيراً للداخلية.

* حسين محمد السعد- وزيراً للعدل.

* خضر عبدالغفور- وزيراً للتربية.

* جمال عمر نظمي- وزيراً للعمل والشؤون الإجتماعية.

* الدكتور عبداللطيف البَدري- وزيراً للصحة.

* الدكتور محمد ناصر- وزيراً للثقافة والإرشاد.

* إسماعيل مصطفى- وزيراً للمواصلات، وللشؤون البلدية وكالةً.

* أكرم الجاف- وزيراً للزراعة.

* عبدالرحمن القيسي- وزيراً للإصلاح الزراعي، وللأوقاف وكالةً.

* جعفر علاوي- وزيراً للأشغال والإسكان.

* شكري صالح زكي- وزيراً للإقتصاد.

* مصطفى عبدالله- وزيراً للصناعة، وللتخطيط وكالة.

* الدكتور عبدالرزاق محي الدين- وزيراً للوحدة.

* سلمان الصفواني- وزيراً للدولة.

كان التغيير الوزاري أساسياً وجذرياً، وهو يُشير إلى سياسة حكومية خارجية وداخلية جديدة، ما دام قد إشتمل حقائب “الخارجية، الدفاع، النفط، المالية، الثقافة والإرشاد”، إذْ لم يحتفظ بمنصبَيهما

السابقين سوى وزيرا الداخلية “اللواء عبداللطيف الدراجي” والوحدة “الدكتور عبدالرزاق محي الدين”.

فوجئ الشارع العراقي بهذا الخبر، من حيث أن كل تغيير وزاري، أو حتى التعديلات الوزارية التي أُجريت في السنوات الماضيات، كان يسبقه إنتشار شائعات واسعة، حتى أن البعض من الصحف اليومية كانت تُنَوِّه إليه… ولربما يعود سبب ذلك الى إنشغال العراقيين بأخبار القتال الدائر، الذي أمسى على أَوُجِّه في شمال وطنهم الحبيب بين وحدات الجيش والمسلحين من الأكراد الذين يتزعّمهم “ملاّ مصطفى البارزاني” منذ أيام ذلك الصيف المقرف… والحرب الواسعة التي باتت تدور رحاها بين “الهند وباكستان” على طول حدودهما منذ مطلع ذلك الشهر (أيلول/سبتمبر)، حيث يتبادل الطرفان كذلك القصف الجوي على مدنهما الآهلة بالسكان… هذا إضافة الى وفاة زعيمهم الوطني “رشيد عالي الكيلاني” قبل ذلك بأيام معدودات، والذي شارك عشرات الآلاف من محبّيه في تشييع جثمانه يوم الإثنين (30 آب/أغسطس 1965).

وفي كتاب التكليف الذي عَنوَنَه رئيس الجمهورية إلى رئيس الوزراء الجديد، نقرأ نقطتين مهمّتين، هما:-

* العمل على تحقيق الرفاه التام لأبناء الشعب كافة في ظلّ “إشتراكية عربية رشيدة”ó تهدف إلى زيادة الإنتاج وعدالة التوزيع، وترعى “القُطّاعَين العام والخاص” في آن واحد.

* الإسراع في تحقيق الحياة الديمقراطية وتشكيل المجلس الوطني.

ومما جلب الأنظار في هذا التغيير أيضاً، هو إستقبال رئيس الجمهورية لرئيسي الوزارتَين مع كامل أعضاء وزارتيهما، ظهر ذلك اليوم (6أيلول1965)، وتناولهم طعام الغداء معاً على موائد القصر

الجمهوري، والذي أُعتُبر سابقة جديدة لم يشابهه تصرّف مثيل في التغييرات الماضية، ليس في ظروف الإنقلابات والثورات والإنتفاضات، بل حتى في الحالات الإعتيادية أيضاً.

لماذا “عارف عبدالرزاق” بالذات؟؟؟

قد يتساءَل أي متتبّع لأوضاع العراق، وخصوصاً خلال عام (1965)، والخلافات القائمة بين رئيس الجمهورية وكتلة الضباط القوميين بزعيميه “صبحي عبدالحميد وعارف عبدالرزاق”، وبالأخص بعد إحتدامها بسبب “أزمة تموز الوزارية” -والتي لم يَمْضِ عليها شهران- عن الأسباب التي حَدَتْ بـ”عبدالسلام عارف” بأن يكلّف من أمسى خصماً سياسياً قوياً له، بتشكيل وزارة جديدة خلفاً لصديقه “الفريق طاهر يحيى” أو شخصيات أخرى لهم ثقلهم السياسي ومداركهم وخلفيّاتهم الثقافية وشهاداتهم الجامعية التي لا تُضاهى.

للسيد “صبحي عبدالحميد” رأي خاص في أسباب تكليف “عبدالسلام عارف” لـ”عارف عبدالرزاق” لتشكيل الوزارة دون أي شخص آخرó:-

((كان “عبدالسلام عارف” قد إتخذ قرار التخلّص من كتلتنا قبل أن نُقدِّم تلك الإستقالات الجماعية التي تسبّبت في إنبثاق “أزمة تموز” الوزارية، وذلك بتمزيق الكتلة من داخلها، حين بدأ يتقرّب من “عارف عبدالرزاق” -ذي المنصب الخطير (قائد القوة الجوية)- محاولاً كسبه إلى جانبه تمهيداً لإبعاده عن قادة الكتلة… فقد أوعَز إلى “العميد سعيد صليبي” قائد موقع بغداد و”العقيد حميد قادر” مدير الشرطة العام – وهما صديقا “عارف عبدالرزاق” الحميمين- بالتأثير عليه وإستمالته… فَسايَرَهُم “عارف عبدالرزاق” وصمّم أن يكشف جميع خطط “عبدالسلام عارف” ونيّاته ومناوراته، متردّداً عليه دوماً ومُبدياً له الودّ والإخلاص، ومحاولاً -في أول الأمر- نصحه وإعادته إلى النهج القومي السليم، ومؤكّداً أن الجميع يحبّونه ويحترمونه، وأن معارضة قادة “الكتلة

القومية” لبعض قراراته ليس وراءها من دافع سوى الحرص على المصلحة العامة.

وخلال الأيام الأولى من شهر (أيلول/سبتمبر1965) إستدعى الرئيس “عبدالسلام” وزير الدفاع “اللواء الركن محسن حسين الحبيب” ليسلّمه قائمة أسماء تشتمل على (10) ضباط، طالباً نقلهم إلى خارج “بغداد”.. وكان على رأس القائمة عدد من قادة كتلة الضباط القوميين “العميد الركن محمد مَجيد” معاون رئيس أركان الجيش.. والعُقداء الركن “هادي خماس” مدير الإستخبارات العسكرية، و”محمد يوسف طه” مدير الحركات العسكرية، و”عرفان عبدالقادر وجدي” آمر الكلية العسكرية.

لم يقتنع وزير الدفاع -بعد أن تشاور مع زميله وزير الخارجية اللواء الركن ناجي طالب- بتنفيذ الأمر.. ولمّا أيْـقَنا غرض “عبدالسلام عارف” من ذلك، قرّرا تقديم إستقالتَيهما من منصبَيهما المهمّينó.. رافضَين أن يتحوّلا إلى “مِعوَل” بيد “عبدالسلام عارف” لتهديم علاقاتهما الحسنة القائمة مع زملائهما الضباط وأقران أولئك الوزراء الذين إستقالوا من مناصبهم أوائل (تموز/يوليو1965)… وهكذا إنهارت وزارة “الفريق طاهر يحيى” بخروج وزيرَين آخرين منها… أوانئذٍ، وللحيلولة دون السماح بفراغ سياسي في العراق يؤثّر على سمعته الشخصية، فقد عَجَّـل “عبدالسلام عارف” في تكليف “عارف عبدالرزاق” قائد القوة الجوية بتشكيل الوزارة الجديدة)). 
العاشرة والنصف ليلاً (بتوقيت بغداد) بطائرته الخاصة، وحطّ في مطار “الجزائر”، وأقلع منها في الساعة الواحدة والنصف ليلاً بعد منتصف الليل، وهبط في مطار “بنغازي” في “ليبيا” فجر هذا اليوم “السبت” في طريقه إلى “القاهرة”.

ثالثاً: يحتمل أن يتأخر السيد الرئيس في”القاهرة” بعض الوقت، لذلك فإن على حرس الشرف الرجوع إلى ثكنة الفوج وإنتظار أوامر لاحقة للعودة الى المطار… على أن يبقى الجميع بقيافة المراسيم على أهبة الحركة.

طال إنتظارنا في ثكنة الفوج وأصابنا بعض الملل والضجر، لا سيّما وأننا مرتدون ملابس حرس الشرف الرشيقة، والمُزعجة، منذ فجر ذلك اليوم.

ولكن ثمّة معلومة أسَرّها إلينا “النقيب كاظم عزيز” ظهراً، تشير إلى أن السيد رئيس الجمهورية قد يتعرّض إلى محاولة إغتيال أثناء نزوله من الطائرة، أو عند وقوفه لأداء التحية على”منصة الشرف” خلال عزف السلام الجمهوري، أو لدى تفتيشه لحرس الشرف، والذي يطول في مجمله دقائق عديدة.

لذلك فقد طلب “ديوان الرئاسة” تزويد جميع بنادق أفراد حرس الشرف –وعددهم (98) ضابط صف وجندي- بالعتاد، على عكس جميع الحالات السابقة التي كانت البنادق مُجرَّدة من الإطلاقات.

في ساحة المطار مجدّداً

عُدنا إلى مطار بغداد الدولي بالساعة الثالثة عصراً، حيث علمنا أن آمر لواء الحرس الجمهوري “العقيد الركن بشير الطالب” قد إتّفق مع آمر فوجنا، ليطرحا على السيد رئيس أركان الجيش وكالة “اللواء عبدالرحمن عارف” فكرة الصعود معاً إلى الطائرة فور توقّفها، ليبلغوا السيد رئيس الجمهورية، بأن الظرف القائم يُوجِب إلغاء مراسيم حرس الشرف المُتعارَف عليها، وإقناع سيادته بالإسراع في النزول من سلّم الطائرة ليستقلّ سيارة خاصة تقف بمحاذاة السلّم بغية نقله إلى القصر

الجمهوري مباشرةًó.

وما أن حلّت الساعة الخامسة عصراً، وبينما كنا ننتظر هبوط الطائرة الخاصة لرئيس الجمهورية من طراز “توبوليف- 124” على مدرج المطار، فإذا بطائرة مدنية مصرية ضخمة تابعة للخطوط الجوية العربية المتحدة من طراز “كوميت-4 سي” وقد تدحرجت على المدرج، قبل أن تتوقّف في الموقع المخصص على مبعدة بضع عشرات من الأمتارó عن الموقع الذي كـنا متأهبين فيه لأداء السلام الجمهوريóó.

وحال إلصاق أعلى السلم بباب الطائرة، لم ينتظر “اللواء عبدالرحمن عارف” وبصحبته “العميد سعيد صليبي”، و”اللواء عبداللطيف الدراجي”، و”العقيد الركن بشير الطالب”، ومعهم آمر فوجنا، حتى أسرعوا صعوداً إلى الطائرةóóó.

وبينما كـنا نتوقع إلغاء مراسيم حرس الشرف، إستناداً إلى المقترح المعروض على السيد الرئيس، فإذا بـ(عبدالسلام عارف) وقد أطلّ من باب الطائرة المصرية، ووقف في أعلى السلَّم محيّـياً بيده المستقبلين على غير عادته في جميع المرات السابقة، حتى نزل إلى أرض المطار بكل هدوء متوجهاً الى حيث “منصة التحية” يرافقه رئيس أركان الجيش ووزير الداخلية… حينها، عزف “جوق موسيقى الجيش” بقيادة “الملازم أول عبدالسلام جميل” السلام الجمهوري العراقي، ليُجري “عبدالسلام عارف” المراسيم كاملة بجميع خطواتها ومراحلها، وقبل أن يتوجّه لمصافحة مستقبليهó، ثم إلى قاعة الشرف الكبرى للجلوس فيها بعض الوقت.

وبعد حوالي ربع ساعة، وبينما كانت السيارة الرسمية السوداء الرئاسية واقفة قرب باب قاعة الشرف الكبرى ضمن الموكب الرسمي الخاص، فإذا بسيارة صالون كبيرة مكشوفة (دون سقف) حمراء اللون من طراز (لنكولن) وقد حضرت لتحلّ محل تلك السيارة السوداء… إذْ صعد إليها “عبدالسلام عارف” واقفاً على قدميه في حوضها الخلفي وهو يمسك بظهر المقعد الأمامي، محيّياً الجماهير التي إحتشدت على جانبي

الشارع العام المؤدّي من المطار إلى الجسر المُعلَّقóó.

عصر السبت (18أيلول/سبتمبر1965)

الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” لدى هبوطه على أرض مطار بغداد الدولي من الطائرة المدنية المصرية، يتشاور مع أخيه اللواء “عبدالرحمن محمد عارف” وقد ظهر إلى جانبه اللواء “عبداللطيف الدراجي”، والى الخلف منه “الرائد عبدالله مجيد”.

عصر السبت (18أيلول/سبتمبر1965)

الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” يصافح العميد “سعيد صليبي” بين مجموعة مستقبليه من كبار الضباط عند عودته من القاهرة بعد فشل المحاولة الإنقلابية

موقف وسائل الإعلام العراقية

على الرغم من عظم هذا الحدث وخطورته وتسرّب تفاصيله إلى خارج العراق، فإن وسائل الإعلام العراقية -التي كانت تحت السيطرة المباشرة للدولة- ظلّت هادئة ولم تتقرّب إلى ذكر المحاولة الإنقلابية بشكل مطلق طيلة الأيام الأربعة التي أعقبت فشلها… بل أن صحف الأحد (19أيلول) نشرت أخباراً وصوراً عن زيارة الرئيس “جمال عبدالناصر” الرسمية المتواصلة للمغرب، وإلى جانبها تفاصيل عودة الرئيس “عبدالسلام عارف” من “الرباط” إلى “بغداد” جواً،

كان الإهمال المتعمّد من لَدُن وسائل الإعلام العراقية الموجهة واضحاً، ولرّبما إستخفافاً للحركة الإنقلابية والقائمين بها، وكذلك نحو الذين ساندوهم أو آووهم في “القاهرة”… إذْ لم تُشِرْ إلى الموضوع لا من قريب ولا بعيد حتى صباح يوم الإثنين (20أيلول1965)، وذلك في بيان رسمي مقتضب نشرته، ليست في الصفحات الأولى للصحف -كما هي العادة في مثل هذه الأحداث- بل في صفحة “المحلّيات”óó، وفي ما يأتي نصه:-

((بيان رسمي عن إستتباب الأمن بعد فشل المغامرة الرَعناء يوم الأربعاء الماضي))

في الساعة العاشرة من مساء (الأربعاء 15/9/1965)، حاول نفر من المغامرين القيام بحركة تخلّ بالأمن وسلامة الدولة.

ونظراً ليقظة المسؤولين وقواتنا المسلحة، فقد أُحبِطَت المحاولة بعد فترة قصيرة، ومن دون أن تُراقَ قطرة دم… وعلى إثر فشل المحاولة فَـرَّ جُـلّ القائمين بها إلى الخارج، وأُلقي القبض على الباقين.. ويأخذ التحقيق مجراه القانوني الطبيعي.

ونودّ أن نؤكد للمواطنين أن الأمن مُستَتب في أنحاء البلاد كافة، وأنه لم

يحدث منذ قيام تلك المحاولة ما يُكدِّر صفو الأمن والنظام ويقلق راحة المواطنين.

ويسرّنا أن يَطمَئِنّ المواطنون جميعاً إلى أن الحكومة والقوات المسلحة قائمة بواجبها أحسن قيام، وساهرة على المصلحة العامة وراحة المواطنين)).

***********

ويبدو من نصّ البيان ان الحكومة العراقية -وذلك بعد عودة “عبدالسلام عارف” الى بغداد بسلام- لم تشأ أن تعطي للحدث أهمية تذكر، إذ لم تأتِ على الجهة أو الأشخاص الذين شاركوا بالمحاولة الإنقلابية، كما لم تجلب إسم “الجمهورية العربية المتحدة” والرئيس “جمال عبدالناصر” خشية حدوث مشاكل غير محمودة في أعقابها.

تشكيل وزارة جديدة

وفي صباح الثلاثاء (21أيلول/سبتمبر) شَكّلَ الرئيس “عبدالسلام عارف” وزارة جديدة برئاسة “السيد عبدالرحمن البزاز” الذي إحتفظ بحقيبة “الخارجية” أيضاً، إذْ نشرت صحف الاربعاء (22أيلول) مرسومَين جمهوريين:-

الأول مقتضب للغاية نص على:- ((بناءاً على فِرار “عارف عبدالرزاق” رئيس الوزراء السابق خارج العراق، فقد أعفيناه من رئاسة الوزراء)).

أما الثاني فقد أشار إلى تشكيل وزارة برئاسة “السيد عبدالرحمن البزّاز” مُستَوزِراً (4) وزراء جُدد فحسب، بينما أبقى الآخرين في وزارة “عارف عبدالرزاق” بمناصبهم دون أي تغيير.

كان الوزراء الأربعة الجُدد، هم:

* اللواء الركن عبدالعزيز العُقَيْلي- وزيراً للدفاع، ووزيراً للمواصلات وكالة.

* فارس ناصر الحسن- وزيراً للعمل والشؤون الإجتماعية، (بدلاً من جمال عمر نظمي).

* كاظم الرَوّاف- وزيراً للعدل (بدلاً من حسين محمد السعد).

* الدكتور عبدالحميد الهلالي– وزيراً للإقتصاد (بدلاً من شكري صالح زكي).

مؤتمر صحفي لرئيس الوزراء

مساء (الأربعاء22أيلول) عقد السيد “عبدالرحمن البزاز” مؤتمراً صحفياً تطرق خلاله – ضمن أُمور تفصيلية عديدة- إلى المحاولة الإنقلابية، إذْ ذكر أن (16) عسكرياً و(6) مدنين أُعتُقِلوا، وأن (29) عسكرياً و(12) مدنياً فرّوا في أعقاب المحاولة، وأن عدد المعتقلين الذين ما زال التحقيق جارياً معهم لا يتعدّى (20) شخصاً.. وأن العلاقات مع الجمهورية العربية المتحدة سليمة، وأكثر من سليمة وودّيةó
حقائق جديدة عن الحركة وأحداثها وأسباب فشلها
ظلّت تلكم التساؤلات والإستفسارات التي حيرتنا -نحن ضباط الحرس الجمهوري في حينه- كامنة في قلوبنا وعقولنا أسوةً بعموم العراقيين، من دون أن نعثر على حقائق محددة جعلت من تلك الحركة تخفق، ناهيك عن كيفية التخطيط للإنقلاب والشروع بتنفيذه والمُفارقات التي صاحبته طيلة عقود من الزمن.

كان الذي يُحيّرني:- ((ما الذي حدى بـ”عارف عبدالرزاق” وصحبه، ليستحضروا لخطوة تراجعية جعلتهم يتوجهون إلى مطار عسكري قبل أن يستنفدوا كل ما في جعبتهم؟؟؟))… فكان حق التأريخ يفرض على كاهلي أن أجلس طويلاً مع أُناس صنعوا جزءاً أو أجزاء من الحدث، أو شاركوا في بعضه، وآخرين عاشوا في قلبه، أو شاهدوا بأم أعينهم قسماً منه، وذلك بحكم المناصب التي كانت مُناطة إليهم في تلكم الأيام.

لقاء مع المرافق الشخصي لقائد الإنقلاب

شددتُ الرحال أوّل الأمر إلى مدينة “كركوك”-التي ولدتُ فيها ونشأتُ- لألتقي “الرائد المتقاعد إحسان عارف آغا بيراقدار” المُرافق العسكري الشخصي لـ”عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق” منذ تسنّمه منصب قائد القوة الجوية أواخر عام 1963 ولعامَين متتاليَين، حتى رافَقَه أخيراً في الطائرة التي أقلّته إلى “القاهرة” ظهر (الخميس16أيلول 1965).

تبادلتُ معه أطراف الحديث في أُمور عديدة، بدءاً من أسباب إختياره مُرافِقاً شخصياً لـ”عارف عبدالرزاق” من بين المئات من ضباط القوة الجوية العراقية في حينه، وذلك على الرغم من عدم إنتمائه إلى أية كتلة سياسية كانت قائمة في العراق وقواته المسلحة وخصوصاً “كتلة الضباط القوميين”، فضلاً عن كونه من القومية التركمانية، وإنتهاءً إلى

مشاهداته الشخصية ومعايشته لساعات الحركة الإنقلابية، وما تلاها من أحداث، فتحدّث لي مشكوراًó:-

((كان “المقدم الطيار الركن عارف عبدالرزاق” آمراً للسرب/6 المُجهَّز بطائرات “هوكر-هنتر” بريطانية المنشأ في مطار “الحبانية” العسكري، عندما صدر أمر تعيينه آمراً لذلك المطار بُعَيد إنقلاب (14تموز1958) وكنتُ في حينه ضابطاً برتبة “ملازم ثان”… ولمّا علم أنني أحد أولاد أُخت آمره السابق في وحدات القوة الجوية “العقيد الطيار نافع عبدالله الصالحي”، فقد قَرَّبَني إليه كثيراً، وراعاني مراعاة أخ لشقيقه الأصغر.

وعندما أُحيل على التقاعد وأُودع السجن إثْرَ فشل حركة “العقيد الركن عبدالوهاب الشواف” التي إنبثقت في مدينة “الموصل” (8آذار/مارس1959)، وخلال “المدّ الشيوعي” الذي ساد عموم العراق خلال النصف الأول من عام 1959، فقد زُرتُه في السجن رقم (1) في “معسكر الرشيد”، وحضرتُ إلى دار سكناه بمدينة الضباط “زيونة” حال إطلاق سراحه وفرض الإقامة الجبرية عليه في مسكنه، فإنه لم يَنْسَ موقفي وفاءً منه فتواصلت علاقتي معه بعد نجاح حركة (14رمضان/8شباط1963).

وعندما تسنّم منصب قائد القوة الجوية العراقية أواخر (1963) فقد أصدر أمراً بنقلي إلى منصب “المُرافق الشخصي” فبقيتُ مصاحِباً له

منذ تلك الأيام وحتى (16أيلول1965).

كان “عارف عبدالرزاق” عضواً بارزاً في المجلس الوطني لقيادة الثورة، إضافة الى منصبه العسكري الكبير، وهو أحد أهم قادة “كتلة الضباط القوميين” التَوّاقين لتحقيق دولة الوحدة بين “العراق ومصر” بقيادة الرئيس”جمال عبدالناصر”، يؤيده في ذلك قياديّو الكتلة جميعاً، وعدد من كبار ضباط القوات المسلحة وصغارهم، وعدد من الوزراء وكبار الشخصيات والسياسيين وموظفي الدولة… ولما بات الإعتقاد السائد لديهم أن الرئيس “عبدالسلام عارف” يتباطأ في خطوات الوحدة المزمعة، فقد قدّم عدد من الوزراء إستقالاتهم، وكان في مقدمتهم إثنان من أصدق أصدقائه، وهما “العميد الركن عبدالكريم فرحان- وزير الثقافة والإرشاد”، و”العقيد الركن صبحي عبدالحميد”- وزير الداخلية في حينه.

وقد لاحظتُ قبل ذلك بأشهر عديدة، وخلال كل عام (1965) إمتعاض “عارف عبدالرزاق” من إسناد بعض المناصب الوزارية الى أشخاص لم يكونوا على علاقة مع سياسة العراق القومية… وكنتُ أستمع منه، بحكم عدم وجود ما يحجبني عنه سوى باب مكتبه الرسمي، عبارات الغضب مع بعض زائريه أو متحدثيه، وحتى مع شخص “عبدالسلام عارف” خلال مكالماتهما الهاتفية، والتي تجسّمت بشكل ملحوظ بعد إسناد منصب “وزير الدفاع” الى “اللواء الركن محسن حسين الحبيب”، الذي لم يكن له أي دور يذكر -حسب رأي عارف عبدالرزاق- في حركات(14تموز1958) و(14رمضان/8شباط1963) أو (18تشرين الثاني/نوفمبر1963) على التوالي .

لم يكن “عارف عبدالرزاق” أحد دعائم سياسة الرئيس “جمال عبدالناصر” في العراق فحسب، بل كان من أشدّ المُعجبين به، وعلى علاقة شخصية حميمة معه… ففي زيارة رسمية لوفد عسكري الى “القاهرة” أواسط(1965) -على سبيل المثال لا الحصر- بعث الرئيس المصري أحد مرافقيه الشخصيين إلى “ميناء القاهرة الجوي” ليصطحب “عارف عبدالرزاق” -من دون الآخرين- إلى”قصر الضيافة”، حيث لم

أَلْتَقِ به طيلة (3) أيام متتالية، على الرغم من كوني المسؤول الأول عن حمايته وتأمين متطلّباته وتحقيق مواعيده الرسمية والشخصية… وقد ظلّ طيلة فترة بقاء الوفد هناك -والتي مُدّدت إلى (18) يوماً- ضيفاً خاصاً على شخص الرئيس “عبدالناصر”ó.

وعلى أية حال، وعلى الرغم من العلاقات التي شابها الحذر والبرود والوجوم بين “الكتلة القومية” والسيد رئيس الجمهورية بعد “أزمة تموز الوزارية”، فإن “عبدالسلام عارف” فاجأ “عارف عبدالرزاق” بتكليفه لتشكيل وزارة جديدة برئاسته يوم (6أيلول1965)، ومُسنِداً إليه منصب “وزير الدفاع” كذلك، ومن دون أن يعفيه رسمياً من منصب قائد القوة الجوية… ولكني وجدتُه منزعجاً في أحاديثه مع زائريه ومهنّئيه، بعد أن إنتقل إلى مبنى “مجلس الوزراء”، عن قرار إتّخذه رئيس الجمهورية بتعديل “الدستور المؤقت” يقضي بإلغاء “المجلس الوطني لقيادة الثورة” والذي كان عدد من قادة “الكتلة القومية” البارزين أعضاء دائمين فيه.

وقبل أن يرحل الرئيس “عبدالسلام عارف” إلى “المملكة المغربية” لحضور إجتماعات مؤتمر القمة العربي/3 بيوم واحد، فقد أصدر مرسوماً جمهورياً بتشكيل “مجلس جمهوري” ينوب عن رئيس الجمهورية طيلة مدة غيابه عن العراق، وقد ضّم كلاً من ((عارف عبدالرزاق، عبداللطيف الدراجي وزير الداخلية، واللواء عبدالرحمن محمد عارف رئيس أركان الجيش وكالةً)).

لم يَمضِ سوى يوم واحد على مغادرة “عبدالسلام عارف” للعراق، حتى جلبت سمعي ونظري -لكوني مُرافقاً شخصياً له وسكرتيره ومدير مكتبه الخاص بالوكالة- مع ظهيرة الإثنين (13أيلول1965)، إتصالات هاتفية وزيارات شخصية متلاحقة كررها العديد من قادة “الكتلة القومية” البارزين، وأخص منهم بالذكر ((العميد الركن عبدالكريم

فرحان، والعميد الركن محمد مجيد معاون رئيس أركان الجيش، والعقيد الركن هادي خماس، والعقيد الركن عرفان عبدالقادر وجدي، والمقدم الركن رشيد محسن مدير الأمن العام))، وأشخاص آخرون لم أتعرف عليهم… ولكن، من دون أن أعرف ما يجري بينهم من أمور، أو أستمع إلى ما يدور فيما بينهم من أحاديث خاصة.

لم يمضِ يومان على هذا المنوال، حتى فوجئتُ عصر الأربعاء (15أيلول) بمجاميع من الضباط ذوي الرتب الصغيرة (ملازمين أو ملازمين أوّلين) وقد أُوتِيَ بهم تباعاً في سيارات عسكرية ومدنية مختلفة الطُرُز إلى مبنى (المجلس الوطني) الذي تستقر فيه “رئاسة مجلس الوزراء”، حتى بلغ عددهم حوالي (200) ضابط مساءً… وعلمت أن العديد منهم ينتمون لصنف “الصاعقة، المظلّيين، والمغاوير” الذين إشتركوا خلال (1964) بدورات خاصة لدى المؤسسات التدريبية المصرية.

تجمّع الضباط المذكورون في ((قَبـو)) ذلك المبنى الواسع، وباتوا مسلّحين إما بغدارات “ستَرلِنك” أو بمسدسات أو بكليهما معاً… وقد علمتُ بعد ذلك أن الذي أشرف على تجميعهم وتسليحهم هو “العقيد الركن هادي خماس”ó مدير الإستخبارات العسكرية -الذي تواجد في مكتب رئيس الوزراء خلال تلك الساعات- وأنهم سيُستَخدَمون كمجموعات إقتحامية ضمن محاولة إنقلابية لتنفيذ مهمات محددة.

مع مغيب شمس (الأربعاء15أيلول)، إستدعى “عارف عبدالرزاق” صديقه الحميم “العميد سعيد صليبي” قائد موقع بغداد وآمر الإنضباط العسكري العام الى مكتبه… وعلى غير عادته في مرات عديدة

سابقة، فإن “صليبي” لم يحضر إلاّ محاطاً بحماية حضيرتَين من جنود الإنضباط العسكري ذوي القبّعات الحمراء المدجّجين بالسلاح، وبصحبته “العقيد حميد قادر” -مدير الشرطة العام- صديق الاثنين معاً.

لم أعرف إلاّ بعد تطوّر المواقف سراعاً، أن “عارف عبدالرازق” قد فاتَحَ “سعيد صليبي” حول إنقلاب أَزْمَعَ على القيام به دون سفك قطرة دم واحدة، موضّحاً له أن كل شيء جاهز لإقصاء “عبدالسلام عارف” من سُدّة الحكم بسهولة ويُسر… إلاّ أن “صليبي” أبَى أن يشارك فيه بشكل مطلق، معتبراً ذلك ((خيانة)) لشخص زميلهم وصديقهم “عبدالسلام عارف” الذي ترك العراق واثقاً بهم، وواضعاً كل أمور البلاد بين أيديهم، وأن ضميره لا يمكن أن يسمح بإقصاء “عبدالسلام” من الحكم بهذا الأسلوب… وعلى الرغم من محاولات عديدة وتشبّثات جدية لإقناعه طالت حتى بعد منتصف الليل، إلاّ أن “سعيد صليبي” أصرّ على موقفه بشدة، ولم يتراجع.

في خضمّ تلكم الساعات، كان آمر مطار كركوك العسكري “المقدم الطيار نعمة الدليمي” ومثيله في الحبانية “الرائد الطيار الركن ممتاز عبدالعالي السعدون”، وكذلك السفير المصري في بغداد “السيد أمين هويدي/أبو هشام”، يهاتفونني للإستفسار عما آلت إليه المفاوضات الجارية مع “سعيد صليبي”، ويستغربون من إستغراقها كل تلك الساعاتó.

وقد علمتُ أيضاً خلال تلك الليلة، أن مقر الفرقة المدرعة/3 في “معسكر الحبانية” قد تمّت محاصرته بقوة مسلحة تابعة لـ”مطار الحبانية” وذلك نظراً لرفض قيادة تلك الفرقة المشاركة في الإنقلاب

المُزمَعó.

وحينما وصل خبر رفض “سعيد صليبي” المشاركة في هذه الحركة إلى أسماع اولئك الضباط المتجمّعين في “قبو” المبنى، فقد إبتغى العديد منهم الإندفاع نحوه لتصفيته جسدياً قبل أن يغادر المبنى… إلاّ أن “العقيد حميد قادر”، ومعه “العقيد الركن هادي خماس”، إستطاعا تهدئة حماسهم، وخصوصاً بعد أن إضطر “عارف عبدالرزاق” لسحب مسدسه الشخصي مُهدِّداً كل من يتقرَّب من شخص “سعيد صليبي” بالقتل… ولكن ذلك لم يخفّف الغليان الذي إنتاب نفوس أولئك الشباب، حتى عزم البعض منهم الإندفاع لقتل “عارف عبدالرزاق” كذلك… ولولا وقفة “هادي خماس” الحازمة لحصل في مبنى مجلس الوزراء مذبحة كان من نتائجها سفك دماء العشرات من الضباط “القوميين” أنفسهمóó.

ولما هدأ الموقف بعد ذلك التوتر الشديد، قرر “عارف عبدالرزاق” ترك مبنى مجلس الوزراء والإنتقال الى دار سكناه الواقعة على “شارع الربيعي” وسط مدينة الضباط “زَيُّونَة” وبصحبته “سعيد صليبي” لوحدهما… وإستمرت الجلسة والمناقشات الهادئة نسبياً حتى قُبيل الفجر دون جدوى، حيث كنتُ أشرف على تقديم الطعام والشاي والقهوة إليهما… حين قرّر “سعيد صليبي” مغادرة الدار بحماية مراتب الإنضباط العسكري.

مع الصباح، كان “عارف عبدالرزاق” غارقاً في التفكير ومهموماً، وقد أحاطه “هادي خماس” و “رشيد محسن”، عندما أوضح لهما بأن القناعة قد حصلت لديه بأنه وصل الى أبواب مُوصَدة في هذه المحاولة وقرّر العدول عنها، وطلب إبلاغ القائمين بها هاتفياً وتحدّث مع العديد منهم، موضحاً بأنه في حالة تنفيذها بهذا الأسلوب، فإن معارك دامية ستعم

“بغداد” مع أولئك الذين سيُسنِدون “سعيد صليبي” وأقرانه… ولذلك أيضاً عزم على ترك “العراق” مع جميع أفراد عائلته، ودعا كل من يرغب في مصاحبته بالسفر معه الى “القاهرة”، إذْ ردّد لمرات عديدة وبعبارات ندم وأسىً، أنه يخشى كثيراً بل ويشعر بالخجل من أن يتواجه مرة أخرى مع شخص “عبدالسلام عارف” الذي سيعلم بما إقترفه من عمل غير لائق تجاه صديق عمره وزميل كفاحه ونضاله.

لم يتأخّر “عارف عبدالرزاق” كثيراً، فقد أوصى زوجته بحمل ما خفّ حمله وغلا ثمنه، وتوجّه ظهيرة الخميس (16أيلول1965) مع أفراد عائلته إلى “مطار الرشيد العسكري” المتاخم لمدينة “بغداد”، حيث حضر العديد من كبار المشتركين معه في تلك المحاولة التي لم تَرْقَ إلى حَيز التنفيذ، وكان من بينهم “هادي خماس، رشيد محسن، عرفان عبدالقادر وجدي، والمقدم الركن فاروق صبري عبدالقادر معاون مدير الإستخبارات العسكرية، والرائد عبدالأمير الرُبَيْعي”، ولكن بشخوصهم دون أفراد عوائلهم.

وفي المطار العسكري، كان بإستقباله “العقيد عزيز أمين” القائم بمهام آمر المطار وكالةً، حيث شاهدنا طائرة نقل عسكرية من طراز “آنتونوف 12-أوكرايينا” وقد وقف بقربها قائدها “الرائد الطيار طه أحمد”… تلك الطائرة التي كانت مهَيّأة لحمل قناني غاز الأوكسجين كمساعدات من العراق الى دولة “الجزائر” الفتية… وبعد أن إستقر الجميع على مقاعدها المصممة لجنود المظلات، أقلعت الطائرة ظهراً مُتّبِعةً خط الطيران الدولي، وصولاً إلى مطار “القاهرة الدولي”.

ونسيتُ أن أذكر لك -والكلام ما زال للنقيب “إحسان عارف”- أن “عارف عبدالرزاق” طلب مني العودة قُبَيل صعوده الى الطائرة… ولكني أَبَيْتُ ذلك وفاءً مني للقائد الذي راعاني كثيراً وعيّنني مرافقاً شخصياً له منذ ما يقارب سنتين كاملتين.

في “مطار القاهرة الدولي” كان في إستقبال “عارف عبدالرزاق” قرب باب الطائرة ضابط مصري برتبة “مقدم”، كنتُ قد تعرّفتُ عليه سابقاً، إذْ كان أحد مرافقي الرئيس “عبدالناصر”، وقد بدى على وجهه

مشاعر الإستغراب من وصول رئيس وزراء العراق ورفاقه الى “القاهرة” بطائرة نقل عسكرية متواضعة من دون إعلام مسبق… ولكنه، من ناحية أخرى، فقد كان قد أحضر معه (3) سيارات مدنية، أقَلَّتْ “عارف عبدالرزاق” وعائلته وزملاءه إلى حيث لم أعلمó.

أخذنا قسطاً من الراحة في “قاعة الترانسيت” بالمطار نفسه، دامت حوالي (3) ساعات، تمّت خلالها إملاء الطائرة بالوقود قبل أن نقلع عائدين الى “بغداد” مساء اليوم نفسه.

وفي “بغداد” تشكلت هيأة خاصة قد تشكّلت للتحقيق في المحاولة الإنقلابية، حيث تم حجزي لحوالي (3) أشهر على ذمّة التحقيق، ولكن من دون إتخاذ أية إجراءات حيال “آمر مطار الرشيد العسكري” وكالة، أو بحقّ قائد الطائرة.. إذْ، وبعد أن أُطلِقَ سراحي، نُقِلتُ إلى “مطار كركوك العسكري” لأعمل فيه عدة سنوات، ثم إلى صنف “المشاة” حتى تسنّمت منصب “معاون آمر فوج” في شمالي العراق، وأُحِلتُ على التقاعد برتبة “رائد” عام 1971))

***إنتهى حديث السيد “إحسان عارف بيراقدار”***

رواية الأستاذ “صبحي عبدالحميد”

على الرغم من تلك المعلومات الشيّـقة -غير المسبوقة- التي نوّرني بها السيد “إحسان عارف”.. إلاّ أنه، وبحكم منصبه المتواضع من جهة، وكونه على غير ذي علاقة بـ”كتلة الضباط القوميين” ومحاولتهم الإنقلابية من جهة أخرى، فإنه -مع جلّ إحترامي لشخصه- لا يعدو أكثر من شاهد عيان للحدث الجلل خلال ساعاته الأخيرة فحسب، ومن دون أن يكون من صُنّاعِه ومُخطّطيه ومُنفّذيه… لذلك فقد أرغَمَي حديثه -لكوني أبحث ببعض العمق في بعض تأريخ العراق المعاصر- إلى التفكير جدياً لإجراء مقابلات مع عدد من صانعي الحدث، والخلاف الأكبر الذي فرض أوزاره بين

المتصارعين في حينه.. فكان الحديث الأهم مع شخص السيد “صبحي عبدالحميد”، الذي زوّدني مشكوراً بـ(10) صفحات كتَبَها بخطّ يده عن تلك الحركة الإنقلابيةóó.. وفيما يأتي ملخّصها:-

((لم يكن قد مضى أكثر من شهرين على نجاح حركة تشرين ثاني1963 والتي جعلت من “المشير الركن عبدالسلام محمد عارف” رئيساً حقيقياً للجمهورية العراقية، وليس رئيساً صورياً كما كان عليه حال بعد(14رمضان/8شباط1963) ولـ(9) أشهر متعاقبة، حتى إلتأم شمله مع الرئيس “جمال عبدالناصر” في “القاهرة” حيث عَقَدا معاً خلاله جلسات عديدة على هامش إجتماعات “مؤتمر القمّة العربي/1” المنعقد أواسط (كانون ثاني/يناير1964)، والتي حضرتُها جميعاً بصفتي وزيراً للخارجية.

كان الرئيس “عبدالناصر” يتحدث مع الرئيس “عبدالسلام” عن تجربته الرئاسية التي طالت (12) سنة في الحكم، ناصحاً إياه بضرورة التوصّل الى حلّ جميع مشاكل العراق بالطرق السلمية والحكمة، مؤكداً على:-

* المحافظة على وحدة العراق وأرضه وشعبه، بقومياته وطوائفه ومذاهبه المختلفة، ومعاملة الجميع كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.

* حلّ المشكلة الكردية المستعصية سلمياً، وحتى إن أدّى ذلك الى منحهم حكماً ذاتياً.

* تشكيل تنظيم سياسي يستند عليه الحكم ويُسنده.

* تأسيس “تنظيم سري خاص” بمستوى القوات المسلحة يرتبط به ويُعتَمَد عليه، كما هو الحال في “مصر”.

إستمع الرئيس “عبدالسلام” إلى تلكم النصائح بإهتمام، وإقتنع بها…

لذلك، فحال عودتنا الى بغداد كلّفني بتشكيل ذلك “التنظيم السري الخاص” رغم كوني وزيراً للخارجية وعلى غير تماس مباشر مع القوات المسلحة وضباطها، وإضطراري للسفر خارج العراق -بحكم منصبي- ولربّما لعدة مرات خلال الشهر الواحد… وعلى الرغم من تكرار إعتذاري له إلاّ أن إصراره جعلني مضطراً لمفاتحة زملائي السابقين الذين شكلنا معاً -في عهد”عبدالكريم قاسم”- تنظيماً سرياً شارك في القضاء على حكمه خلال ثورة (14رمضان/8شباط 1963)، وقبل أن نقرّر -نحن- على حلّه بُعَيد نجاحها.

لم يمضِ سوى شهر واحد، حتى إكتشفتُ أن أنباء هذا التنظيم العسكري السري الخاص -المُعاد تشكيله- قد تسرّبت إلى كبار ضباط القوات المسلحة… فتطوّع المشاغبون -وما أكثرهم- بالدَسّ ضدّنا لدى رئيس الجمهورية، مصوّرين له أننا نُعيد تنظيماً من الضباط للإطاحة به.

والغريب في الأمر أن “الرئيس” قد إستمع لهذا الشغب، بل وصَدَّقَه، من دون أن يواجه المشاغبين ويُدافع عنا، ويُسكتهم كونه هو الذي أمرني بإعادة تأسيسه، وأنه يفترض أن يعتبر نفسه شخصياً على رأس هرمه وعلى إتصال مباشر به.

كان في مقدمة أولئك أخوه “اللواء عبدالرحمن عارف” وقد نَصَّبَه رئيساً لأركان الجيش بالوكالة، والذي كان يردّد دوماً أننا جميعاً أعضاء في حزب يسمى “حركة القوميين العرب”.. وذلك إفْكٌ وإفتراء وبُطلان لا صحّة له مطلقاً… وبدلاً من أن يلتزم الرئيس بتنظيمنا ويدعمه، فقد أهمله وتجاهله، وأوعز سراً إلى “العميد سعيد صليبي” -قائد موقع بغداد- بتشكيل منظّمة تضم ضباطاً من أقرانه… كما طلب لاحقاً من “العقيد الركن بشير عبدالرزاق الطالب”-آمر لواء الحرس الجمهوري- بإقامة تنظيم مشابه آخر من الضباط الموصليين… وإلى أخيه” اللواء عبدالرحمن عارف” بتهيئة تنظيم ثالث.

وهكذا تكوّنت في القوات المسلحة العراقية (4) كتل من كبار الضباط المتنفذين في أمور الدولة، إضافة إلى كتلة خامسة يقودها “العميد عبدالهادي الراوي”، وأمست جميعاً تتنافس في إستمالة الضباط

إلى صفوفها بطريقة أو بأخرى.

وليتَه طلب إليّ الكفّ عن الإستمرار في تنظيم كتلتنا وصرف النظر عنها ليتولّى هو قيادتها بشخصه بدلاً من تلك الفوضى التي باتت تعّم وحدات الجيش ومؤسساته…. ولما إضطررتُ إلى مصارحته بذلك، أنكر علمه بوجود مثل هذه التنظيمات.

وفي شهر (آذار/مارس1964) وبعد أن إكتشفنا شكوك “عبدالسلام عارف” حيال كتلتنا، فقد قرّرنا على العمل بصورة مستقلة عنه، ولكن من دون أن تكون لدينا أية نيّة للعمل ضده أو الإنقلاب عليه أو الإستحواذ على السلطة، بل كانت غايتنا تحصين القوات المسلحة وصَون البلد من إحتمالات أن يجازف بعض المغامرين ويقفزوا إلى السلطة بغتة من خلال إستثمار واحد أو أكثر من تلك التنظيمات .

ولما كنتُ -ومعي العميد الركن عبدالكريم فرحان- معارضاً لفكرة أن يقود شخص واحد تنظيمنا، لإيماني بـ((القيادة الجماعية))، فقد قرّرتْ قيادة التنظيم عكس ذلك خلال الشهر الاخير (1964) وإجتمعت دون إستدعائي، وأقدَمَ أعضاؤها على إنتخاب “عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق” رئيساً لقيادة الكتلة.

خطّط الرئيس “عبدالسلام عارف” للتخلّص من كتلتنا، وذلك قبل مدة من الخلاف الذي أدّى الى تقديم السيد “عبدالكريم فرحان” لإستقالته أواخر(حزيران/يونيو1965) والتي تفاقم إلى مستوى “أزمة تموز الوزارية”، وذلك بتمزيقنا من الداخل، متقرِّباً إلى شخص “عارف عبدالرزاق” رئيس الكتلة وذي المنصب الخطير (قائد القوة الجوية)، محاولاً بشتى الطرق والأساليب كسبه الى جانبه وإبعاده عن صفوفنا… موعِزاً إلى صديقَي “عارف عبدالرزاق” الحميمَين “سعيد صليبي وحميد قادر” للتأثير عليه.

ولمّا إستنتج “عارف عبدالرزاق” ذلك فقد صمّم من جانبه أن يكشف خطة “عبدالسلام عارف” ونواياه ومناوراته، وأخذ يتردّد عليه دوماً، مُبدِياً له الودّ والإخلاص، محاولاً نصحه وإعادته إلى النهج السليم في بادئ الأمر، ومؤكداً له أن الجميع يحبّونه ويقدّرونه ويحترمونه، وأن معارضتهم لبعض قراراته ليست إلاّ من قبيل دافع الحرص على المصلحة العامة.

في أول يوم من (ايلول1965)، إستدعى “عبدالسلام عارف” وزير الدفاع “اللواء الركن محسن حسين الحبيب”، مُسَلِّماً إياه ورقة تحتوي أسماء (10) ضباط، طالباً نقلهم الى خارج “بغداد”، وكان على رأس القائمة “العميد الركن محمد مجيد- معاون رئيس أركان الجيش”.. والعقداء الركن “عرفان عبدالقادر وجدي- آمر الكلية العسكرية، هادي خماس- مدير الإستخبارات العسكرية، محمد يوسف طه- مدير الحركات العسكرية”، وجميعهم من قياديّي الكتلة.

لم يقتنع وزير الدفاع بتنفيذ الأمر، وبعد أن إستشار زميله “اللواء الركن ناجي طالب” وزير الخارجية بالأمر، قرّر كلاهما تقديم إستقالتَيهما من منصبَيهما، رافضَين أن يتحوّلا الى ((مِعوَل)) بيد “عبدالسلام عارف” للتخلص من ضباط زملاء للوزراء الذين إستقالوا من مناصبهم أوائل شهر تموز من العام نفسهó.

بخروج وزيرَين مهمّين من وزارة “الفريق طاهر يحيى” الثالثة، وبدلاً من إجراء تعديل ثانٍ عليها، فقد قرّر “عبدالسلام عارف” تكليف “عارف عبدالرزاق”-قائد القوة الجوية- بتشكيل وزارة جديدة بعد إقالته لتلك الوزارة دون إعلان مسبق.

ولكن، قبل ذلك بأشهر، ومنذ إنتخاب الكتلة لـ”عارف عبدالرزاق” رئيساً لها، فقد عقد قادتها إجتماعات عديدة خلال النصف الاول من (1965)، عارضين خلالها مواقف “عبدالسلام عارف” من كتلتهم، ودارسين مضامينَها دراسة مستفيضة، إذ كانوا قد توصّلوا إلى الآراء الآتية حولها:-

* أن “عبدالسلام عارف” أخذ يتّجه للإنفراد بالسلطة، وقد جَمَّدَ

بشكل شبه نهائي أعمال “المجلس الوطني لقيادة الثورة”.

* أنه عاد يعتمد على القوى الرجعية ويُغازلها، ويتهكّم أمامها على الوحدة والإشتراكية، وكذلك على “الإتحاد الإشتراكي” الذي لم يتسنّ له أن يخلق منه تنظيماً يتبع شخصه، وأن ليس من واجبه سوى الهتاف والتصفيق له.

* إن كرسي الحكم قد أغراه، وأمسى عنصراً لتعويق الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة.

* أنه بات يشجّع تأسيس تنظيمات سياسية متعددة داخل الجيش، مُحرِّضاً الواحد ضد الآخر، ومستهدفاً في المقام الأول تحريض الضباط من ذوي الرتب الكبيرة ضد كتلتنا التي تُعتَبَر أول كتلة مُسانِدة له.

* أن عنصر الإنسجام لدى السلطة العليا للدولة إنفرطت أواصره، وأن الثقة بين قادتها وبينه إهتزّت، وأن الواحد أضحى يتربّص بالآخر.

* لا بدّ من بذل كل الطرق والوسائل لإعادة الثقة بين رئيس الجمهورية وقادة كتلتنا، والضغط عليه لتغيير نهجه الفردي، وإعادة إيمانه بالوحدة والإشتراكية، والإعتماد عليهم سنداً قوياً ليحموه من المؤامرات والإنقلابات.. وأن لا هدف لـ”الكتلة” سوى حماية النظام وترصينه والمحافظة عليهó.

* إذا لم تَفِدْ كل تلك المحاولات مع “عبدالسلام عارف”، وأصرَّ على الإستمرار في نهجه، فلابد من التفكير بتبديلهóó.

وهكذا.. فعندما رفض “عبدالسلام عارف” حلّ الكتل السياسية

المتنوعة في عموم القوات المسلحةó، وإكتشف “عارف عبدالرزاق” نواياه في التخلّص من قادة “الكتلة القومية” بالتدريج، فقد تبلورت فكرة تنحيته عن الحكم بشكل جدي منذ مطلع (حزيران/يونيو1965).

وجاء تشكيل “عارف عبدالرزاق” لوزارته أوائل (أيلول1965) ليطرح أسماء وزراء إنتخبهم هو، فرفضها “عبدالسلام” عليه.. فتشكّلت الوزارة من عناصر غير معروفة، وبدت ضعيفة، وهاجمتها القوى القومية بشدة… ولم يسلم “عارف عبدالرزاق” نفسه -وهو المعروف بتوجهاته القومية والوحدودية- من النقد اللاذع، وأُتُّهِمَ بقبول ترؤّسه للوزارة طمعاً في إشغال هذا المنصب الأرفع.

ونظراً للصداقة الحميمة التي كانت تربط “عارف عبدالرزاق” بـ”العميد سعيد صليبي”، فإنه كان يشكو له -في جلساتهما الشخصية- من فردية “عبدالسلام” وإبتعاده عن الخط الوحدوي، وميله للإعتماد على القوى الرجعية… ولكن “سعيد صليبي” -الذي كان يحاول المناورة بين (3) إتجاهات- أولها “عبدالسلام عارف”، وثانيها “أحمد حسن البكر” وعناصر من حزب البعث، الذي كان يتقرّب إليهم ويغازلهم، ناهيك عن صداقته الشخصية والحميمة مع “عارف عبدالرزاق” ومحاولاته الهميمة لإبعاده عن كتلتنا.

وعندما شكّل “عارف” وزارته، كان رأي “سعيد صليبي” أنه ما دام قد بات قريباً من “عبدالسلام” أكثر من أي وقت مضى، فإن عليهما أن يمنحاه فرصة (3) أشهر يحاولان خلالها إقناعه بمبدأ الحكم الجماعي وتحقيق الوحدة المنشودة، فإن لم يقتنع ولم يعمل بهذا المنحى، فإن “سعيد” مستعد للمشاركة في إزاحته.

ومن ناحية أخرى، إعتقد “عبدالسلام عارف” أنه إستطاع كسب “عارف عبدالرزاق” إلى جانبه تماماً حين جعله رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع في وقت واحد، وأن الأخير غدا مستعداً لتنفيذ جميع رغباته، وأنه إبتعد عن كتلته القومية… ولغرض جعله أكثر بُعداً، فلا بدّ أن يطلب منه نقل أولئك الضباط الذين رفض وزير الدفاع السابق “محسن حسين

الحبيب” نقلهم قبل أن يقدّم إستقالته بسبب ذلك.

ولكن “عارف عبدالرزاق” نفّذ أمراً واحداً ضمن باكورة أعماله، حين أصدر أمر نقل “العميد الركن محمد مجيد” -وكان يومها في “لندن” لغرض المعالجة- من منصب “معاون رئيس أركان الجيش” إلى منصب “آمر كلية الأركان”، تحت ذريعة أنه ينبغي أن يحوز على ثقة “عبدالسلام عارف” تمهيداً لتنفيذ ما إتّفقت عليه “الكتلة” حالما يحين الوقت المناسب.

ولدى سفر “عبدالسلام” إلى “المغرب (12أيلول1965)، لم يَنْسَ أن يسلّم “عارف” في المطار الدولي، ورقة تحتوي إسمي “العقيد الركن عرفان عبدالقادر وجدي، والعقيد الركن محمد يوسف طه” طالباً ضرورة نقلهما من منصبَيهما الحسّاسَينó إلى منصب “آمر لواء” ضمن تشكيلات الجيش خارج “بغداد”… وبذلك يمكن فصل “عارف عبدالرزاق” عن كتلته بشكل نهائي وخصوصاً إذا ما صدر أمر النقل وهو في “المَغرِب”، إذْ يمكنه أن يزعم مستقبلاً أنه لا علم له بذلك، لأن مثل هذه الصلاحية مخوّلة لوزير الدفاع.

إتصل “عارف عبدالرزاق” بي هاتفياً -والكلام لازال للسيد صبحي عبدالحميد- وأخبرني بالأمر، وسألني الرأي، فقلت له:-

(لا تُنفّذ، بل صارِحْهُ عند عودته بأنك لست على إستعداد لأن تنفّذ أمراً رفض وزير الدفاع السابق إصداره، وأن لا داعي لإجراء مثل هذه التنقّلات، بل الأفضل العمل على حلّ جميع الكُتَل تمهيداً لإبعاد الجيش عن السياسة).

ولتلافي الإحراج الذي وقع فيه “عارف”، فقد إستدعى في تلك الليلة الضابطَين المذكورَين، بغية إقناعهما بالموافقة على النقل قبل إصدار أمره… ولكنهما أوضحا له:-

(ليكن في علمك، إننا سنكون أوّل الغيث، لأن رئيس الجمهورية عندما يعود فإنه سيطلب منك المزيد… ولكن، على أية حال، إن أصدرت الأمر فكلانا مضطرّان لتنفيذه وفق التقاليد العسكرية، وعليك موازنة النتائج المترتّبة على ذلك، لكوننا نشغل منصبَين مهمّين ستخسرهما إذا ما قرّرت القيام بحركة في المستقبل).

وعندما خرج العقيدان من مكتبه، ظلّ “عارف عبدالرزاق” في حيرة من أمره، على الرغم من صلابته وشجاعته وقدرته المشهودة على تحمّل المسؤوليات مهما كانت خطورتها، وبالأخص عندما واجهه ضباط آخرون بإعتراضاتهم، مُذكِّرين إياه بأن الدَور سيأتي على الباقين، وأن “عبدالسلام” لا يستهدف سوى تشتيت جميع “الكتلة القومية” ليستفرد بـ”عارف عبدالرزاق” تمهيداً لإقالته من جميع مناصبه في المستقبل القريب، حينئذ يخسر سمعته السياسية، لأن وزارته -التي شكّلها قبل أيام- غير مقبولة من حيث الأساس في الشارع العراقي، إضافة إلى فقده المؤكد لسمعته العسكرية والمعنوية، كونَه نَقَلَ أعواناً وأصدقاءَ حميمين طالما إعتمد عليهم، وقد كانوا سرّ قوّته أمام “عبدالسلام عارف”… لذلك فإن الوقت قد حان فعلاً للتخلّص من نظام حكمه، وأن وجوده في “الدار البيضاء” لهو فرصة ذهبية للإطاحة به.

بات “عارف عبدالرزاق” ليلته تلك في دوّامة لا يستقر على قرار.. فمن جهة فقد وعد “سعيد صليبي” بمنح “عبدالسلام عارف” فرصة (3) أشهر لتصحيح أخطائه، فليس من المعقول القيام بإنقلاب في حين لم يَمضِ على ذلك الوعد وعلى تشكيل وزارته سوى أيام معدودات، إذْ أن الرأي العام لا يمكن أن يستوعب ذلك، وأنه سوف لن يجد مبرّراً واحداً يمكن أن يقنع الشعب به… فهل من المعقول أن يوضّح للعامة من الناس أنه أطاح بـ((رئيس جمهورية)) لأنه طلب نقل عدد من الضباط من مواقعهم؟؟ ولذلك أمسى في موقف حرج للغاية، ويا ليته أخذ بنصيحتي.

زرتُه صباح (13أيلول)، فَرَوَى لي ما عاناه في الليلة الماضية، وقصّ عليّ الضغط الكبير الذي يمارسه ضباط “الكتلة” للإطاحة بـ”عبدالسلام عارف”، فأعدتُ عليه ما إقترحتُه في الليلة السابقة:-

((موقفك في الشارع وفي أوساط الجيش أصبح سيّئاً، إذاً فلا بدّ من الإقدام على خطوة تسترجع بها شعبيّتك… لذلك فإن أمامك حلاّن لا ثالث لهما:-

الأول: أن تستثمر فرصة غياب “عبدالسلام” وتُنَحّيه عن السلطة نزولاً عند رغبة ضباط “الكتلة”.

والثاني: أن ترفض تنفيذ طلب النقل، وتنتظر عودة “عبدالسلام” لتواجهه بصراحة تامة، مُلوِّحاً بقوة الجيش والقوة الجوية التي أنتَ مُستَند عليهما، وتطلب منه الكفّ عن إتباع سياسة “فرّق.. تَسُد”، وتفرض عليه ضرورة إجراء تعديل وزاري لتدخل في وزارتك عناصر قومية بارزة تختارهم أنت… وبذلك تنال رضا الشارع العراقي الذي خاب ظنّه في وزارتك الحالية… وإني على يقين أن “عبدالسلام” سيرضخ لكل مطاليبك، لأنه غير قادر -في هذه المرحلة- على إقالتك ما دامت وزارتك جديدة، وأن الجيش يقف وراء ظهرك، والشارع يشدّ أزرك”… وتركتُه متصوّراً إنه قد إقتنع بالحل الثاني.

ولكن.. في مساء اليوم نفسه حضر إلى مسكني “المقدم الركن رشيد محسن” مدير الأمن العام، موضّحاً أن ضغوط الضباط على “عارف عبدالرزاق” قد زيدت هذا اليوم، وأنه إقتنع بضرورة إجراء حركة ينحي بها “عبدالسلام”، وأنه بعثني إليك لبيان تصوراتك عن خطة يمكن أن تُنفَّذó.

أوضحتُ للأخ “رشيد” أنه على الرغم من تفضيلي الحل المقترح الثاني، فإنني -نزولاً لمشيئة الأخ “عارف عبدالرزاق” وضباط “الكتلة القومية”- أقترح تنفيذ الحركة وفقاً لما يأتي:-

أولاً: أن يستدعي كلاً من “العميد سعيد صليبي” و”العقيد الركن بشير الطالب”- و”المقدم الركن ابراهيم الداود-آمر فوج الحرس

الجمهوري الثاني”- إلى مكتبه في رئاسة مجلس الوزراء تحت ذريعة مناقشة خطة أمن بغداد، وذلك عند إنتصاف نهار(15أيلول1965).. وحال حضورهم يتمّ حجزهم في مبنى المجلس، حيث يوضعون تحت حراسة ضباط يُهيّأون لهذا الغرض.

ثانياً: يُنذَر جميع القطعات العسكرية المتواجدة في “بغداد” تحسّباً لأي طارئ.

ثالثاً: وبكل هدوء، يذهب “عارف عبدالرزاق” إلى دار الإذاعة والتلفزيون ليذيع بياناً بتنحية “عبدالسلام عارف” من جميع مناصبه، وتشكيل “مجلس قيادة الثورة” مجدّداً إلى جانب تأليف وزارة جديدة.

كان “رشيد محسن” على قناعة تامة بهذه الخطة البسيطة وغير المعقّدة، ومتّفقاً على إمكانية تنفيذها بكل سهولة… ولكن يبدو أن آخرينóó أقنعوا “عارف عبدالرزاق” بوضع خطّة بديلة تحدّد موعد تنفيذها الفعلي مع منتصف ليلة (14/15أيلول).

إعتمدت الخطة الجديدة على:-

أولاً: نزول مجاميع من الدبابات المتواجدة في معسكر “أبي غريب” بقيادة “الرائد عبدالامير الرُبَيْعي” بعد منتصف تلك الليلة لتتمركز في مواقع محددة وساحات معينة من “بغداد”، وخصوصاً أمام دار الإذاعة والتلفزيون في “الصالحية”وحواليها.

ثانياً: يتواجد البعض من قادة “الكتلة القومية” مع الدباباتóعند وصولها الى منطقة الإذاعة، ويبقون هناك حتى الصباح إستحضاراً لإستقبال “عارف عبدالرزاق” لدى حضوره لقراءة “البيان الأول” للحركة.

ثالثاً: توضع الكلية العسكرية بالإنذار تحت قيادة “العقيد الركن عرفان عبدالقادر وجدي” للتحرّك عند حدوث أي طارئ.

رابعاً: تحلّق طائرات من القوة الجوية بتشكيلات إستعراضية فوق “بغداد” مع الصباح الباكر ليوم (15أيلول).

مع حلول مساء (14أيلول)óó إستدعى “عارف عبدالرزاق” صديقه “العقيد حميد قادر” مدير الشرطة العام، وصارحه بعزمه على تنحية “عبدالسلام عارف” من سدّة الحكم، طالباً منه تحقيق لقاء مع “العميد سعيد صليبي” وضرورة إقناعه بأحد أمرين:- إمّا المشاركة الفعلية في هذه الحركة… أو الإنتظار في دار سكناه دون إبداء أية معارضة.

ولكن، ما أن أباح “حميد” هذا الأمر لـ”سعيد صليبي” حتى ثارت ثائرته، فأنذَرَ جميع القطعات العسكرية المرتبطة به ((قيادة قوات بغداد، وبضمنها وحدات الحرس الجهوري)) وأبدى تصميمه على المقاومة… فإضطر “عارف عبدالرزاق” لإستدعائه إلى مجلس الوزراء محاولاً إقناعه… ولكنه فور ما علم أن من أقطاب الحركة كل من “العقيد الركن عرفان عبدالقادر، والمقدم الركن فاروق صبري، والرائد عبدالأمير الربيعي” -الذين كان يكرههم ويخشاهمó- فقد رفض المشاركة بأي شكل كان.

غدا الموقف حرجاً للغاية، فإستدعى “عارف” “سعيد صليبي” للمرة الثانية، وأصدر أوامره لكل من “العقيد الركن هادي خماس” و”المقدم الركن رشيد محسن” المرابطَين في مبنى مجلس الوزراء،

وبإمرتهما أكثر من (30) ضابطاًóó بإعتقال “سعيد” إذا فشل في إقناعهóóó.

في خضمّ مناقشة عقيمة بين “سعيد” و”عارف” تلقّى “هادي خماس” مكالمة هاتفية من شخص مجهول – قيلَ بعدئذٍ أنّه الملازم أول عامر الحَمدان، أحد ضباط الدبابات المشتركين بتنفيذ الحركة- أخبره من خلالها بفشل “الرائد عبدالأمير الرُبَيْعي” في الإستيلاء على معسكر “أبي غريب”، وأن آمر مدرسة الدروع هناك “العقيد صبري خلف” قد أعاد سيطرته الكاملة على المعسكر وإعتقل “عبدالأمير”…….. بينما كانت الحقيقة غير ذلك تماماً.

حاول “هادي خماس” الإتصال بمعسكر “أبي غريب”، فوجد الخطّ الهاتفي مقطوعاً…. في حين لم يحاول، وكذلك “رشيد محسن”، إيفاد أحد الضباط إلى ذلك المعسكر لمجرّد التأكّد من صحة الخبرó… فلو بعث أي شخص إلى هناك لوجد النقيض، فقد كان “عبدالأمير” مسيطراً على المعسكر، ومُعتَقِلاً لـ”صبري خلف”، وأن الدبابات قد أُخرِجَت إلى الشارع العام المؤدّي إلى قلب “بغداد”، وأنها مستعدة للتوجّه نحو أهدافها… ولَسَمعَ من “عبدالأمير” أنه قطع خط الهاتف السلكي –فقط- لمّا إستشعر أن “صبري خلف” يحاول إستخدامه… علماً أن ذلك التصرّف كان خطأً قاتلاً من “عبدالأمير” لما قطع كل إتصال بينه وبين أي شخص آخر، بمن فيهم “عارف عبدالرزاق” أو أولئك

الذين يقودون هذه الحركة على جانبيه.

ومن المستغرب أن يعتبر “هادي خمّاس” و “رشيد محسن” معاً إعتقال “عبدالأمير الربيعي” على يد “صبري خلف” أمراً مُسَلَّماً به… إذْ دخل “رشيد” على “عارف عبدالرزاق” في مكتبه، وتحدّث همساً على مسامعه، مُخبِراً إياه بالموقف الطارئ الذي حصل، وطالباً منه ضرورة التفاهم مع “سعيد” بأي ثمن… أوانئذ إضطر “عارف” لإخبار “سعيد” بأنه قرر تأجيل الحركة… فعاد “سعيد” إلى مكتبه في “قيادة قوات بغداد”، فيما ذهب “عارف” الى مسكنهóó.

لم يعلم “رشيد محسن” بالموقف الميداني للرائد “عبدالأمير الرُبَيعي” إلاّ بعد أن إنتصف الليل… ومن دون أن يستشير “عارف عبدالرزاق” هرع إلى “سعيد صليبي” في مكتبه مُحاولاً إغراءه بمناصب عليا إذا ما شارك في هذه العمليةó… لكن “سعيد” -الذي بات في موقف قويّ- رفض ذلك، وطلب من “رشيد” التوجّه إلى معسكر “أبي غريب” ليُقنع “عبدالأمير” بإعادة الدبابات إلى ثكناتها، وإطلاق سراح “العقيد صبري خلف”.

وعلى مضض، أعاد “عبدالأمير” الدبابات، بعد أن جاهد “رشيد” في إقناعه بأن إصراره على النزول إلى “بغداد” يعني أن قطعات الجيش ستتقاتل فيما بينها بسبب تصميم “سعيد صليبي” على المقاومة.

هرع “عبدالامير” ممتعضاً الى مسكن “عارف عبدالرزاق” في “زيونة”، شارحاً الموقف أمامه وعارضاً عليه الحضور معه إلى حيث “معسكر أبي غريب” ليشرف بشخصه على أرتال الدبابات المُصطفّة على الشارع العام ويقود الحركة بذاته óó… ولكن “عارف” كان قد أيقَنَ أن الحركة إنكشفت، وأن “سعيد” إتصل بالبعض من قادة فرق الجيش أيضاً، وأن جميع القوات العسكرية الموالية للرئيس “عبدالسلام عارف” ستقف ضد الحركة، لذلك فإنه لا ينبغي أن يكون سبباً في كارثة دموية قد تحصل نتيجة تصادم وحدات الجيش العراقي بعضها مع بعض.

وفي الصباح الباكر ليوم (15أيلول)، إتّصل بي “رشيد محسن” هاتفياً ليعرض فكرة قيام “نقابات العمال” -التي كانت تحت سيطرة “الحركة الإشتراكية”- بإضراب، إذْ ينزلون إلى الشارع بغية إجراء مظاهرات تعطي مبرّراً لتدخّل وحدات الجيش لغرض السيطرة على الوضع العام، حينئذ يتم تنفيذ خطة الإنقلاب وفق ذريعة معقولة.

إلاّ أني رفضت ذلك لكونه مقترحاً سَقيماً، وأن الأمر بات خارج سيطرتنا، وأمسى مفتاح كل شيء بيد “سعيد صليبي” ووحدات الحرس الجمهوري… ناهيك عن أن إستحضارات إخراج العمال للتظاهر تحتاج إلى إستعدادات قد تستغرق يومين كي تكون التظاهرات مُسَيطَراً عليها… ولكن “رشيد محسن” أوضح لي أن هذا هو رأي “عارف عبدالرزاق”، ورَجا مني أن أذهب اليه بغية التوصّل إلى حل ناجع ينقذ الموقف القائم.

توجّهتُ إلى دار “عارف” لأجد هناك “العقيد الركن محمد يوسف طه” مدير الحركات العسكرية، وأوضحتُ له الرأي نفسه…. فقال:- “وما الحلّ في نظرك”؟؟

قلت لصديقي “عارف”:-

“إذهب إلى مكتبك وكأن شيئاً لم يحصل، وكرّر العملية الإنقلابية هذه الليلة، ولكن وفق إجراءات حاسمة وإستحضارات جيدة”… وقد أيّدني “محمد يوسف” في هذا الطرح.

ولكن “عارف” عارض ذلك رافضاً أن يتحمل مسؤولية أي تصادم بين القوات المسلحة في شوارع العاصمة.. فقلت له:-

“حسناً… لا بأس أن تنتظر عودة “عبدالسلام” لتواجهه بقوة، وتُخَيِّرَه بين أن يكفّ عن مناوراته، وبين أن يُعَرِّض البلد إلى كارثة”.

ولكني علمتُ بعد ذلك أن “سعيد صليبي وحميد قادر” قد زارا

“عارف” في مسكنه، متوسِّــلَين اليه أن يغادر “العراق” حقناً للدماء، لأن القوات المسلحة قد تنقسم على نفسها.

ونزولاً من “عارف” لذلك الرجاء، فقد ضَحّى بسمعته، على الرغم من أنه الشجاع الذي لا يهاب الموت… فقرّر فعلاً السفر إنقاذاً للبلاد، فغادر وطنه وبصحبته كل من “هادي خمّاس، عرفان عبدالقادر وجدي، رشيد محسن، فاروق صبري، وعبدالأمير الربيعي”.

موقف القاهرة

كان وصول “عارف عبدالرزاق” -والحديث مازال للسيد “صبحي عبدالحميد”- بصحبة أقرانه إلى “القاهرة” إحراجاً للحكومة المصرية، التي لم تكن على علم مسبق بالحركة، وما كانت توافق أو تؤيد أي إنقلاب حيال “عبدالسلام عارف” في ذلك الوقت، بل كانت تكتفي بعلاقات قوية ومتينة بين البلدين وفق سياسة عربية ودولية متناسقة بينهما… وكانت تلك قائمة ومُحققة مع “العراق” في حينه.

وبينما تلقّى الرئيس “عبدالناصر” -وهو في “الدار البيضاء”- برقية من “القاهرة” تعلمه بتلك المحاولة، فقد أخبر الرئيس “عبدالسلام” بها.

وفي “بغداد” إجتمع مجلس الوزراء برئاسة “اللواء عبدالرحمن عارف” عضو “مجلس الرئاسة” الذي ينوب عن الرئيس “عبدالسلام” في تلك الأيام، فقرّر إيفاد “الدكتور عبداللطيف البدري- وزير الصحة” بطائرة خاصة إلى “المغرب” لإبلاغ رئيس الجمهورية بالحدث.

وعندما عاد الرئيس “عبدالسلام” الى “بغداد” بسلام، كانت باكورة أعماله أن وَضَعَني و”العميد الركن عبدالكريم فرحان -وزير الإرشاد والثقافة السابق”- تحت الإقامة الإجبارية في مَسكـنَينا، وأصدر أمراً بتوقيف باقي الضباط من قادة الكتلة القومية، وفي مقدّمتهم “العقيد الركن محمد يوسف طه” -مدير الحركات العسكرية، والعقيد الركن عدنان أيوب صبري- سكرتير رئيس أركان الجيش”.

أما “العميد الركن محمد مجيد” الذي تسنّم منصب “آمر كلية الاركان” مؤخراً، وكذلك “العميد نهاد فخري- مدير مخابرة الجيش” فقد

إختفيا في “بغداد” قبل أن يصلهما أفراد من مفارز الإنضباط العسكريó وأوقفوهما.

وربما أستطيع أن أُعزي أسباب الإخفاق التي صاحبت هذه الحركة الإنقلابية إلى ما يأتي:-

أولاً- تبديل الخطة المقترحة:- وقد إستفسرتُ بعمق من الإخوة “عارف عبدالرزاق، هادي خماس ورشيد محسن” عن الذي تسبَّبَ في تغيير أساس الخطّة المنطقية المقترحة؟؟؟ فظلّ كل منهم يتّهم الآخر…. فلم أتوصل إلى نتيجة مقنعة، لذا بقيت الحقيقة مجهولة لدي.

ثانياً- المُفاتحة المبكرة:- إذْ فاتح “عارف” كلاً من “سعيد صليبي وحميد قادر” بالحركة قبل البدء بتنفيذها، وذلك ما ساعد “سعيد” أن يُنذِر القطعات العسكرية التي تحت إمرته، ويتهيّأ لإحباطها.

ثالثاً- غموض الموقف في “أبي غريب” :- ظلّ الموقف الذي كان سائداً في معسكر “أبي غريب” غامضاً لسبيين:-

1. قطع “عبدالأمير الربيعي” للخط الهاتفي الوحيد بين معسكر “أبي غريب”، مـا تسبّب في عدم معرفة حقيقة الموقف هناك.

2. عدم إقدام أي من “هادي خمّاس ورشيد محسن” على إتخاذ خطوة للتأكد من الموقف القائم في المعسكر بعد تلك المكالمة الهاتفية الغامضة التي وردت من ((مجهول)) زعم من خلالها إخفاق “عبدالأمير” بالإستيلاء على المعسكر.

رابعاً: عدم التجّرؤ في الإستمرار على تنفيذ الخطة بعد أن علم “رشيد محسن” حقيقة سيطرة “عبدالأمير” على “أبي غريب”.

خامساً: القرار الذي إتخذه “عارف عبدالرزاق” بمغادرة “بغداد” إلى “القاهرة” قبل أن يستنفد جميع السُبُل المتاحة لإعادة الكَرّة.

وبعد تكليف الرئيس “عبدالسلام عارف” للأستاذ “عبدالرحمن البزاز” -نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية في حينه- بتشكيل وزارة عراقية جديدة، وهو الرجل الكُفء المشهود له بالحزم، والذي تمكّن فعلاً من الحدّ من إندفاعات “عبدالسلام” بإتهام “القاهرة” بالمشاركة في تلكم الحركة الإنقلابية، أو علمها بها، ناهيك عن الحدّ من تماديه في توقيف الضباط إلاّ إذا ثبت إشتراكهم في الحركة بشكل عملي…. وبعد ضغط من “الأستاذ البزّاز” طال حوالي (3) أشهر، رفع “عبدالسلام” الإقامة الجبرية عني وعن “عبدالكريم فرحان”.

رأي حيال عبدالسلام عارف

بعد حوالي (7) أشهر على تلكم الحركة، ولما لقي الرئيس”عبدالسلام عارف” حتفه في حادث الطائرة السَمتية، فقد أسفتُ لوفاته، بل حزنتُ عليه كثيراً، وإستعرضتُ في ذاكرتي تلك العلاقات الطيبة التي ربطتني معه منذ (14تموز1958) والخلافات غير الشخصية التي حدثت بيننا… لذلك فإن شعوري لم يكن قد تبدّل نحوه، بل بقيتُ أحفظ له الودّ دوماً وأترحّم على روحه.

فرحمة الله على”عبدالسلام محمد عارف”، إذْ لم أكن أتمنى له تلك النهاية المحزنة.

((إنتهى حديث السيد “صبحي عبدالحميد”)) لقاء مع السيد “هادي خماس”

كان لا بدّ لي -وأنا الذي أبحث عن هذا الموضوع الذي غدا شائكاً ومعقداً- من التوجّه إلى السيد “العقيد الركن المتقاعد هادي خَمّاس” -مدير الإستخبارات العسكرية منذ مطلع عام 1964 ولغاية يوم المحاولة الإنقلابية الذي صادف منتصف شهر أيلول/سبتمبر 1965- وأحد قادة “الكتلة القومية” وعضو المجلس الوطني لقيادة الثورة في حينه، وأحد أبرز صُنّاع ذلك الحدث، إضافة إلى كونه أحد المسؤولين الرئيسين عن التخطيط لتلك المحاولة والإشراف على تنفيذها.

وقد زودني –مشكوراً- بـ(22) صفحة مكتوبة بخط يده الكريمة على شكل إجابات على (32) إستفساراً وجّهتُها إلى سيادته حول العلاقات التي سادت بين الرئيس “عبدالسلام عارف” والكتلة القومية، وعن كيفية التفكير للإنقلاب والتخطيط له وأسباب فشله.

وفيما يأتي ملخّص لما أوضحه:-

((كان التفكير قائماً نحو ضرورة تغيير نظام حكم الرئيس “عبدالسلام عارف” قبل أن يتسنّم “عارف عبدالرزاق” رئاسة الوزراء أوائل (أيلول1965)، ولكنا قرّرنا إستغلال سفر رئيس الجمهورية إلى المغرب يوم (12أيلول1965) للتعجيل بالعملية.

أما “عارف عبدالرزاق” نفسه، فلم يكن على عجالة للتغيير المرغوب قبل سفر “عبدالسلام” أو أثناءَه قبل أن يُسلِّمَ لــ”عارف” قائمة بعدد من ضباط “الكتلة القومية” طالباً منه إصدار أمر نقلهم إلى تشكيلات عسكرية خارج “بغداد” أثناء سفره… ولمّا إستشار “عارف” قادة الكتلة، فإنهم ضغطوا عليه بضرورة عدم نقلهم، مُبيّنين له أن هذا لا يعدو كونه ((سوء نيّة)) من لدن “عبدالسلام”، وأشاروا عليه بالحركة الإنقلابية…. فإضطرّ للإستجابة لرأيهم.

كنتُ شخصياً مُؤمِناً بضرورة إقصاء “عبدالسلام” من رئاسة الجمهورية لأكثر من عامل، قد يكون أهمها:-

أولاً- إتجاهه نحو الفردية، وإبتعاده عن الحكم الجماعي.

ثانياً- كونه وحدوياً بالكلام وليس بالأفعال.

ثالثاً- إتّباعه سياسة ((فَرِّقْ… تَسُدْ)) بين الضباط، إضافة إلى تشكيله كتلاً سياسية داخل القوات المسلحة.

إلاّ أن تلك الأمور لم تجعلنا في موقف نبتغي معه مَسّ شخص “عبدالسلام” بأي سوء، وذلك وفاءً منا لعلاقات الأخوّة التي كانت قائمة بيننا منذ سنوات.

وفي يوم سفر “الرئيس” إلى “المغرب”، ولمّا علمنا بالطلب الذي أراد فرضه على “عارف عبدالرزاق” بشأن نقل بعض الضباط القوميّين إلى خارج بغداد، من أولئك الذين كانوا في الحقيقة دعامة للنظام القائم ولشخص الرئيس نفسه، فقد توافد معظم قادة “الكتلة القومية” على دار”عارف عبدالرزاق” بحي الضباط “زَيّونَة” لغرض التداول في موضوع تغيير الحكم.

تم الإتفاق على الخطة، وبدأنا بالإستحضار لتنفيذها، فإستدعى “عارف عبدالرزاق” العميد “سعيد صليبي” إلى مكتبه في مبنى مجلس الوزراء مع مغيب شمس (14أيلول1965)ó ليبلغه عزمه على البدء بعملية إنقلابية، طالباً منه التعاون معه في هذا المجال… فوافق “سعيد” على ذلك من حيث المبدأ، ولكنه لمّــــا علم بمشاركة كل من “العقيد الركن عرفان عبدالقادر وجدي، والمقدم الركن فاروق صبري، والرائد عبدالأمير الرُبَيْعي” ضمن مجموعة الضباط القائمين بها، فقد عدل عن رأيه لخشيته منهم، وإعتقاده بأنهم سيقضون عليه إذا نجحت الحركة… فما كان منه إلاّ أن ترك مبنى مجلس الوزراء متّجهاً إلى مكتبه في آمرية الإنضباط العسكري في ثكنة وزارة الدفاع، بغية التنسيق مع الوحدات العسكرية المُوالية له، وكذلك مع وحدات الحرس الجمهوري في عموم “بغداد” لمقاومة الحركة إذا ما إندلعت.

كانت الخطة التي إقترحها “العقيد الركن صبحي عبدالحميد” كما كتبها لك… وقد إرتأى “عارف عبدالرزاق” إضافة لذلك، أن يكون هناك تحليق إستعراضي لطائرات مقاتلة وقاصفات نفاثة في سماء “بغداد” صباح اليوم المذكور.

إلاّ أن الخطة أُبدِلَتْ، إذْ تمَّ تقديم موعد البدء بالحركة إلى منتصف ليلة (14/15أيلول) من جهة، وأن تتمركز الدبابات التي تأتي من معسكر “أبي غريب” في مواقع محددة، وفي مقدمتها المنطقة المحيطة بمبنى الإذاعة والتلفزيون في “الصالحية”، وذلك قبل أن يذهب “عارف” لإلقاء البيان المُعَدّ صباح (15أيلول).. ولم يُعلَم لحد الآن من الذي كان في حقيقة أمر صاحب التبديل.

ووقتما كنّا متواجدين في مبنى مجلس الوزراء، وبعد بضع ساعات من المباشرة بالتنفيذ مساء (14أيلول)، إتصل بي هاتفياً (ضابط برتبة ملازم أول) ليقول لي:- أن “الرائد عبدالأمير الرُبَيْعي” قد فشل في السيطرة على معسكر “أبي غريب”.

ومن دون أن أخوض في التفاصيل، فقد توالت الأحداث في تلك الليلة وتسارعت، مؤدّية إلى فشل المحاولة، ممّا قادنا إلى التفكير بمغادرة العراق، حيث لم يكن أمامنا إلاّ السفر إلى “مصر”.

وما يجدر ذكره في هذا الشأن أن “عارف عبدالرزاق” لم يكن قد قرّر ترك العراق بالنصيحة التي قدّمها “سعيد صليبي” فحسب، بل أن السيد “عبدالستار علي الحسين” -وزير العدل الذي إستقال من منصبه إثر الأزمة الوزارية التي وقعت خلال (تموز1965)- قد أشار على “عارف” بإتباع هذا المسلك.

ولمّا علمتُ بالقرار، حضرتُ في مسكن “عارف” بحي الضباط “زَيُّونَة”، حيث كان هناك كل من “العقيد الركن عرفان عبدالقادر، المقدم الركن رشيد محسن، والمقدم الركن فاروق صبري، والرائد عبدالأمير الرُبَيْعي”، فتحرّكنا معاً إلى “مطار الرشيد العسكري”، قبل أن تقلّـــنا طائرة نقل عسكرية إلى “القاهرة” مباشرة.

وفي الجو، وعندما أَخبَرَ قائد الطائرة “مطار القاهرة الدولي” أن طائرته تحمل رئيس وزراء العراق مصحوباً بعدد من الضباط، فقد سُمِحَ بهبوطها رسميّاً، حيث إستَقبَلَنا مسؤول من “مكتب اللاجئين” وآخر من “المخابرات المصرية”، قبل أن يرافقانا إلى أحد فنادق “القاهرة” بشكل مؤقّت، إذْ تقرّر بعد أيام أن تُستَؤْجَر لنا شقق نسكن فيها، بعد أن خصّصت الحكومة المصرية رواتب محدودة لكل منا.

كان إرتباطنا طيلة إقامتنا في العاصمة المصرية بالعقيد “حسن رأفت” المشرف على “مكتب اللاجئين” في رئاسة الجمهورية، وهو الذي زوّدنا ببطاقات اللاجئين السياسيين، وراتب شهري لا يتجاوز (110) جنيهات مصرية، والتي لا تُسمِن ولا تُغني من جوع.

وهنا ينبغي أن أذكر، أن وصولنا المفاجئ إلى “القاهرة” كان أمراً مُحرجاً للحكومة المصرية التي كانت تلتزم بعلاقات أخوية مع العراق وأواصر حميمة بين الرئيسَين “جمال عبدالناصر وعبدالسلام عارف”.

((إنتهى حديث السيد “هادي خماس”))

*********

حديث المقدم الطيار عدنان أمين خاكي

ولغرض التعمّق في أمور هذه الحركة وأحداثها عن كثب، كان لا بدّ أن أزور الرائد الطيار، في حينه، والمقدم بعدئذ “عدنان أمين خاكي”، الطيار الخاص الذي صاحب الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” بطائرة “الرف الجمهوري” أثناء سفره من “بغداد” إلى “الرباط” لحضور إجتماعات “مؤتمر القمة العربي/3″، وكذلك خلال عودته منها إلى “القاهرة”… فكان معه هذا الحديث الشَيِّق مساء الأربعاء (14/5/1997).

وأدناه (ملخص) عما تكرَّم به مشكوراً:-

((أُنتُقِيتُ ضمن مجموعة ضباط طيارين وفنيين، كنتُ أقدمَهم رتبةً عام (1964)، عندما تقرر -بعد تسنّم “عميد الجو الركن عارف

عبدالرزاق” منصب قائد القوة الجوية- شراء طائرتَي نقل سوفييتيّتين من طراز (TU-124) ذات محركين نفاثين، لتحقيق طيران من دون توقّف في أي مطار وَسَطي بين “بغداد” و”القاهرة” مباشرة، إذْ أُوفِدنا إلى “الإتحاد السوفييتي” وتدرّبنا هناك على قيادتهما وإدارتهما، وقبل أن نُحلّق بهما إلى “بغداد” أوائل عام (1965)، حيث تم تشكيل “الرفّ الجمهوري” من:-

1- الرائد الطيار عدنان أمين خاكي – آمراً للرفّ.

2- النقيب الطيار مصطفى أحمد سعدالله.

3- الملازم أول الطيار طاهر صالح التِكْريتي.

4- الملازم أول الطيار فؤاد علي القَزّاز.

5- الملازم أول المَلاّح جعفر صادق الشكرجي.

6- الملازم المهندس حسين خيرالله.

كنّا مسؤولين حصراً عن نقل الرئيس “عبدالسلام عارف” خلال سفراته إلى خارج العراق، وكذلك خلال بعض زياراته إلى مدن داخل البلاد عندما تتوفر فيها، أو قريبة منها، مطارات صالحة لهبوط هذا الطراز من الطائرات.

كنتُ قائد الطائرة التي أقلعنا بها من “بغداد” صباح (12أيلول1965) قبل أن نهبط في “ميناء القاهرة الجوي”، ثم في “طرابلس” للتزوّد بالوقود، ونصل إلى مطار “الرباط” عصر اليوم نفسه… وبينما إنشغل “رئيس الجمهورية” بمهماته الرسمية ولقاءاته الهامشية وجلسات مؤتمر القمة العربي/3 الرسمية في “الدار البيضاء”، فقد كنا -نحن الطيارون والطائفة- ضيوفاً بفندق فخم في العاصمة “الرباط”.

بعد إنقضاء (4) أيام بسلام، فوجئتُ في حوالي الساعة السادسة من صبيحة يوم 17/9 بالملحق العسكري العراقي في “الرباط” وهو يهاتفني ويأمرني بالحضور في مكتبه فوراً، حيث أخبرني بأن رئيس الوزراء “عارف عبدالرزاق” حاول القيام بحركة إنقلابية، وحينما فشل غادر “بغداد” يوم أمس (16/9) إلى “مصر” مع بعض مؤيّديه؟؟!! وطلب مني تهيئة الطائرة الخاصة لإحتمال عودة “السيد رئيس الجمهورية” إلى “بغداد” في اليوم نفسه.

وحال عودتي إلى الفندق، أنذرتُ الطائفة، وتوجّهنا إلى مطار “الرباط” الدولي، وهيّأنا الطائرة بشكل متكامل… ولكن رئيس الجمهورية قرّر تأجيل مغادرة “الرباط” حتى مساء ذلك اليوم، ريثما تنتهي الجلسة الختامية لمؤتمر القمةó.

حضر الرئيس “عبدالسلام” إلى المطار مع الوفد الكبير المرافق له في الساعة التاسعة ليلاً، حيث لم يتم الإنتهاء من مراسيم التوديع إلاّ في الساعة العاشرة والنصف لنقلع من هناك ونهبط في مطار “الجزائر” العاصمة بعد منتصف الليل بقليل، ثم في مطار “بنغازي” الليبي فجر (السبت 18/9) حيث إنزعج “عبدالسلام عارف” كثيراً حين لم يستقبله مسؤول ليبي رفيع المستوى، بل صعد إلى الطائرة شخص إعتيادي -لم نعرف منصبه- ليستفسر منه إذا ما كان بحاجة إلى أي شيء؟! لذلك فإنه لم يتحرّك من مقعده ولم ينظر إلى وجه ذلك الرجل طيلة فترة التزوّد بالوقود التي تستغرق حوالي ساعة واحدة.

لمّا هبطنا في “ميناء القاهرة الجوي” في حوالي الساعة التاسعة من صبيحة (18/9) كان في إستقبال السيد الرئيس عدد كبير من المسؤولين يتقدّمهم “المشير عبدالحكيم عامر”.. وحال الإنتهاء من مراسيم الإستقبال الرسمية دخل “عبدالسلام” معه إلى “قاعة الشرف الكبرى”، قبل أن يغادروها جميعاً إلى جهة لم أعرفها… إذْ بقينا في موقعنا قريبين من طائرتنا الجاثمة على أرض المطار.

طال إنتظارنا طويلاً حتى حلّ الليل دون أن يكترث بنا أحد، أو يبلّغنا بشيء، حتى سمعتُ من “إذاعة بغداد” أن السيد الرئيس قد هبط في “مطار بغداد الدولي” بالساعة الخامسة من عصر ذلك اليوم.

وقد علمنا بعدئذ أن الرئيس”عبدالسلام” قد أقلع من “مطار

آلمـــاظة العسكري” القريب من “القاهرة” بطائرة ركاب (مدنية) مصرية بعد ظهر ذلك اليوم… وآنذاك أقلعنا نحو “بغداد” وهبطنا في مطارها الدولي في حدود منتصف الليل.

لم أشأ السؤال عن أسباب عدم عودة رئيس الجمهورية بطائرته الخاصة، ولم أتعرّف على أي من المفارقات التي حدثت… ولكن من المُسَلَّم به أن ذلك الإجراء حصل لتأمين سلامة وصوله إلى “بغداد” بأسلوب أفضل، لا سيّما وأنه لم يَنقَضِ إلاّ يومان على فشل محاولة إنقلاب إشترك فيها مسؤولون كبار في الدولة.

وقد علمتُ في “بغداد” أن “عارف عبدالرزاق” قد إستقلّ مع عدد من زملائه الذين شاركوه في محاولته الإنقلابية الفاشلة، طائرة نقل عسكرية أقلعت من “مطار الرشيد العسكري”، وكانت من طراز “آنتونوف-12/أوكرايينا” عند هروبهم من “بغداد” الى “القاهرة”، وقد قادَها الرائد الطيار “طــــــه أحمد” يعاونه النقيب الملاح “طارق موسى حسين”)).

((انتهى حديث السيد “عدنان أمين خاكي”))

*********

لقائي مع اللواء الطيار الركن ممتاز السعدون

ولغرض إستكمال الصورة عن مجريات الأمور، كان الحديث التالي مع الرائد الطيار الركن في حينه -اللواء الركن بعدئذ- “ممتاز عبدالعالي السَعدون” آمر مطار الحبانية العسكري (وكالة) في (أيلول1965) بعد أن ذَكَره “النقيب إحسان عارف”-المرافق الشخصي لـ”عارف عبدالرزاق” في حينه- بأنه كان يهاتفه بمكتب رئيس الوزراء ليلة تنفيذ الإنقلاب، والذي ذاع صيتُه لمّــــا لجأ إلى “مصر” بطائرة قاصفة كبيرة، فوجّهتُ اليه (12) سؤالاً، أجاب عليها -مشكوراً- بالتفصيل في (16) صفحة.

وفيما يأتي ((ملخص)) ما أورده:-

((كنتُ على علاقة شخصية مع “المقدم الطيار الركن عارف

عبدالرزاق” منذ عملتُ بمعيّـته ضابطاً طياراً صغير الرتبة، بعد تعيينه بمنصب آمر السرب/6 الذي زُوِّدَ بطائرات “هوكر-هنتر” بريطانية المنشأ قبل حركة (14تموز1958)، وتعلّمتُ من شخصه وكفاءته ونمط تفكيره وقوة شخصيته وإرادته وأسلوب إدارته لمرؤوسيه الكثير الكثير… وبقيتُ مُحِبّاً له ومُعجباً بجدّيته أثناء الواجب، وإنفتاحه على ضباطه المرؤوسين حال إنتهاء ساعات الدوام الرسمي… فظلّت علاقتي قائمة معه، وتواصلت زياراتي له في جميع المناصب التي شغلها، وفي ظروف مختلفة أخرى مرّ بها، سواءً في عهد “عبدالكريم قاسم” أو بُعَيدَ حركة (14رمضان/8شباط1963)

وعلى الرغم من تلك العلاقة الوطيدة، فإنني لم أَنْتَمِ بشكل مُطلق لأية كتلة سياسية للضباط في القوات المسلحة أو خارجها… ولكن، لكوني ذا توجّه قومي ومُؤيّد لقيام الوحدة بين عموم العرب، وخصوصاً مع “مصر” أوانئذ، فقد حُسِبتُ -من حيث لا أدري- على “كتلة الضباط القوميين” التي كان “عارف عبدالرزاق” من أبرز قادتها.

خلال (أيلول1965) قادَني القَدَر أن أكون قائماً بواجبات آمر “مطار الحَبّانية العسكري” وكالةً، على الرغم من عدم تناسب ذلك مع رتبتي المتوسطة (رائد طيار ركن)… فخلال عام (1964) تعيّنت بمنصب آمر السرب/6 بعد تَسَنَّم “عارف عبدالرزاق” منصب قائد القوة الجوية… ولمّا كان منصب “آمر جناح الطيران” في ذلك المطار شاغراً، فقد غدوتُ -بحكم القدم العسكري- آمراً لذلك الجناح بالوكالة… ولدى سفر آمر المطار “المقدم الطيار نعمة الدُلَيْمي”ó منذ أوائل (أيلول1965) إلى “بريطانيا” بمهمة رسمية، فقد أمسيتُ آمراً لذلك المطار (وكالة).

لم أكنْ على علم مسبق بالحركة الإنقلابية مطلقاً… ولكن الذي حدث بالضبط هو كما يأتي:-

كنتُ قد حضرت إلى “بغداد” لقضاء بعض المهام الرسمية خلال

ساعات الدوام الرسمي ليوم الثلاثاء (14أيلول1965)، قبل أن أعود إلى مسكني ظهراً لتناول طعام الغداء مع العائلة، حين هاتفني “العميد المهندس منير حسين حلمي” -الذي كان قائماً بواجبات قائد القوة الجوية (وكالة)-، بعد أن بات “عارف عبدالرزاق” رئيساً للوزراء منذ (6أيلول)- وأبلغني أن السيد رئيس الوزراء يطلب حضوري شخصياً في مكتبه بمبنى مجلس الوزراء.

توجهتُ اليه فوراً وهنّأتُه بمنصبه الأرفع، متبادلاً مع سيادته عبارات المجاملة الإعتيادية، إلى أن طلب مني أن أُهيّئ (25-30) طائرة مختلفة الطُرُز، بغية التحليق في أجواء “بغداد” باُسلوب “طيران تشكيل”ó في موعد يحدّده لاحقاً وبأمر شخصي منه، مُرَكِّزاً أنه لا داعي لتسليح أي من الطائرات.

حسبتُ الأمر إعتيادياً، ولم يخطر ببالي أي شيء آخر… وتوجّهتُ الى “الحَبّانية” بعد الظهر، وجمعتُ الطيارين وأبلغتُهُم بأمر السيد رئيس الوزراء، وطلبتُ تهيئة طائراتهم وضرورة التأكّد من عدم تسلُّحها، ومنعتُهم من ترك المطار مساء، وذلك قبل أن أُناقش مع ضباط الركن وآمري الأسراب منهج الطيران المطلوب بأدق التفاصيل والتوقيتات.

إنتظرتُ حتى حلّ الليل دون أن أتلقّى أمراً بتحديد موعد تنفيذ “طيران التشكيل”…. ولكني فوجئتُ بحضور “العقيد شهاب أحمد” آمر أحد ألوية الجيش المُرابطة في “معسكر الحبانية”، حيث ذكر أنه تلقّى أمراً بتهيئة لوائه للحركة نحو “بغداد”.

وبينما كان “العقيد شهاب” جالساً في مكتبي، هاتفني “العميد سعيد صليبي” -قائد موقع بغداد- ليأمرني:- (أن الواجب الذي بَلَّغَكَ به الأخ “عارف عبدالرزاق” قد أُلْغيَ).

ولمّا لم يكن -حسب إعتقادي- أحد يعلم بما دار بيني وبين السيد

رئيس الوزراء ظهر ذلك اليوم، فقد إستفسرتُ منه:- (أيّ عمل يا سيدي؟؟).. فأجاب ((تَكَلَّم مع الأخ “هادي خَمّاس))… قال لي “العقيد الركن هادي خمّاس” -مدير الإستخبارات العسكرية:- (يا ممتاز.. أن العمل الذي كلّفك به السيد رئيس الوزراء قد أُلغِيَ)ó.

إلتفتتُّ نحو “العقيد شهاب أحمد” موضّحاً ما دار بيني وبين اللَذَين تحدّثتُ معهما.. ولمـا لم أكن ممتلكاً أية صورة عن الموقف ولم يكن هدف توجّهه إلى “بغداد” واضحاً، فقد أنتابتنا الحيرة.. في حين راودني شعور بأن ثمّة أمراً خطيراً يفرض أوزاره في “بغداد”، وأن تكليفي بـ”طيران تشكيل” ليس بالأمر البريء.

مرّت تلك الليلة، بعد أن غادرني “العقيد شهاب”، وكذلك نهار (الأربعاء15أيلول) دون طارئ يذكرóó.. ولكن ما أن حلّ ظهر اليوم التالي (الخميس16أيلول) حتى كان “المقدم عزيز أمين “آمر مطار الرشيد العسكري (وكالة) على الهاتف ليقول لي أنه سيحضر لزيارتي!!!

وبعد حوالي نصف ساعة حطّ بطائرة صغيرة في “الحبانية”، ليُفاجئني بأن حركة إنقلابية حاول “عارف عبدالرزاق” القيام بها قد فشلت، وأنه أقلع مع بعض أقرانه بطائرة نقل عسكرية متوجّهاً إلى “مصر”… وكان مهموماً كثيراً عن مدى الإحراج الذي وقع فيه جراء هذا التصرف الذي جاء به قَدَره لأن يقع في قلب مطاره، وما قد تؤول إليه نتائج التحقيقات التي لا ناقة له فيها ولا جمل.

إن أسباب فشل تلكم المحاولة قد يمكنني إيعازها إلى أحد أو جملة الأمور الآتية، وبعد أن إطّلعتُ بعدئذ على تفاصيل وقائعها:-

أولاً- القرار الذي أُتُّخِذَ حول ضرورة تجنّب المُجابهة بين الوحدات

العسكرية المؤيدة للحركة وبين تلك التي تناوئها، تحسّباً من مذابح في شوارع “بغداد”.

ثانياً- تعدّد الخطط والآراء والمقترحات في تنفيذها.

ثالثاً- تردّد بعض القادة القائمين بها.

رابعاً- إتخاذ “عارف عبدالرزاق” لقرارات غير صائبة بشأن تنفيذ الحركة.

ومثلما شاء القَدَر أن يبلِّغني “عارف عبدالرزاق” بتهيئة طائرات تقلع من المطار الذي أقوده، لتُحلِّقَ في سماء “بغداد”، فقد فرض قَدَري وزره في أعماقي حين فكرتُ بضرورة مغادرة وطني متوجِّهاً إلى “مصر”.. وفق حوادث تسلسلت كما يأتي:-

* حالما علمتُ بمغادرة “عارف عبدالرزاق” ولجوئه إلى “مصر” يوم (16أيلول)، أصابني بعض القلق لإحتمالات محاسَبَتي، وقادَني تفكيري نحو ضابط طيار في المطار نفسه كان أخوه الأكبر “النقيب زهير عبدالله” ضابطاً في الحرس الجمهوريó… ولمــــا إبتغيتُ الإطلاع على مُجريات الأمور في قلب الحدث، بادرتُ بإرساله لزيارة أخيه صبيحة الجمعة (17أيلول)، فعاد إليّ مساءً بخبر مشؤوم مفاده:- (أن أخاه قد سمع من آمر فوجه “المقدم إبراهيم الدواد” أن “اللواء عبدالرحمن محمد عارف”-رئيس أركان الجيش وكالة، والأخ الشقيق لرئيس الجمهورية”- قد ذكر أثناء مناقشته تطورات الحركة الإنقلابية الفاشلة، بأن “عارف عبدالرزاق” لم يكن لَيَقدِم على هذه الحركة لو لم يكن قد أَمَّنَ تماماً جانب مطار الحَبّانية العسكري).

* كان من المنطقي أن يزيد هذا الرأي الصادر من “شقيق رئيس الجمهورية” ذلك القلق الذي راودني.. ولمّا كنتُ على يقين تام بأن “عبدالسلام عارف” يتّبع أسلوب “العقاب الجماعي” في مثل هذه المواقف، لذلك قرّرتُ ترك الوطن خشية الحساب العسير… ولمّا كانت

تتوفّر في المطار طائرات قاصفة سوفييتية المنشأ ذات مدى بعيد نسبياً من طراز (TU-16 /BADGER) يمكنها الوصول إلى “القاهرة” دون توقّف، فقد خطّطتُ للتوجّه إلى “مصر” بإستثمار إحداها.

* عرضتُ الموضوع منفرداً على “الملازم أول الطيار فاروق الطائي” -أحد أقرب الطيارين علاقة بي- فلم يتردّد مطلقاً بالمجازفة بحياته ومستقبله… لذلك، وفي صباح السبت (18أيلول) أقلعنا بقاصفته نحو الأجواء الجنوبية-الغربية من “العراق” محلّقَين مع الحافة الشمالية-الغربية للأجواء السعودية، حتى عبرنا “خليج العقبة” نحو “صحراء سيناء” المصرية، وقبل أن نُشاهد طائرتين مقاتلتَين مصريتين من طراز (ميك-19) وقد تقرّبَتا من طائرتنا… ولمّا لم نكن على معرفة بالترددات اللاسلكية للقواعد الجوية المصرية، فلم نستطع تحقيق إتصال معهما… وبعد تحلقيهما بالقرب منّا لحوالي (15دقيقة)، يبدو أن طيارَيهما قد تأكّدا من هوية طائرتنا، لذلك فقد تَرَكانا.

* واصلنا الطيران ضمن خط الطيران الدولي نحو “القاهرة”، وإستطعنا تنظيم جهازنا اللاسلكي على تردد “ميناء القاهرة الجوي” -المعروفة لدى جميع طياري العالم- في حين لم نفكّر في غير التوجّه نحو “قاعدة بَلْبيس الجوية” الواقعة الى الشمال من “القاهرة”، حيث تستقرّ في أرضها مباني “كلية الطيران المصرية” -التي كنتُ قد زرتُها سابقاً ضمن وفد عسكري عراقي… ولما لم نكن على إتصال مع برج سيطرتها بالطبع، فقد حلّقنا فوقها، وأجرَينا حركات مُتعارَف عليها دولياً بتحريك جناحي الطائرة، لندور حوالي المطار قبل أن نهبط على مدرجه بسلام.

* حقّقت السلطات المصرية معنا لساعات عديدة، وإستنطقتنا بتساؤلات وإستفسارات مُحرِجة، إلاّ أننا طلبنا من مسؤوليها منحَنا حقّ اللجوء، فتم ذلك بعد أيام قليلة، إذْ أسكنونا في قصر يعود الى “الملك فاروق الأول”، قبل أن يتم نقلنا الى شقق إستأجرناها من الرواتب التي كنا نتقاضاها من الحكومة المصرية بصفتنا لاجئين سياسيّين.

هناك مفارقة حدثت دون أن يكون لي دور مباشر فيها، ولربما هَوَّلَتْها وسائل الإعلام بعدئذ، أو أولئك الذين يَهوون “نظرية

المؤامرات”.. وهي، أنّ طيراننا من “العراق” وصولاً الى الأجواء المصرية -صادف بحكم القدر- مع تحليق طائرة الرئيس “عبدالسلام عارف” الخاصة أثناء عودته من “المغرب” الى “القاهرة”، حيث إعتقد البعض ممن يُهوّلُون الأمور أن طائرتنا القاصفة قد أقلعت من “الحبانية” لتتواجه/تتقاطع مع طائرة “عبدالسلام عارف” بغية إسقاطهاó.

* وفي الوقت الذي لم نكن أساساً قد فكّرنا في مثل هذا الأمر بشكل مطلق، ولم نكن على دراية بتوجّه رئيس الجمهورية الى “القاهرة” أو غيرها، ناهيك عن أن طائرتنا القاصفة “بادجر” غير مصمّمة، ولا هي مجهزة برادار يكشف طائرات أخرى كي تتقاطع معها أو تعترضها، ولم نكن على إتصال لاسلكي بأية قاعدة جوية أو قاطع دفاع جوي مصري كي يتم توجيهنا نحو طائرة محدّدة نروم إسقاطها… يُضافُ الى ذلك عامل أهم، وهو: كيف يمكننا التعرّف على طائرة تنقل “عبدالسلام عارف” أو سواه في تلكم الأجواء الشاسعة التي تحلّق فيها عشرات الطائرات المدنية التابعة لشركات خطوط جوية عربية وعالمية متنوعة بوقت واحد، سواء أكان ذلك في أجواء مصر أو سيناء أو شمالي السعودية أو العراق؟؟!!.

* وقد علمتُ بعدئذ، أن تحليق طائرتنا -مصادفة- في تلك الساعات من صباح السبت (18أيلول1965)، هو الذي حدى بالسلطات المصرية من تدبّر طائرة نقل مدنيّة خاصة تابعة للخطوط الجوية العربية المتحدة من طراز (كوميت C-4)، لنقل “عبدالسلام عارف” والوفد المرافق له من “مصر” الى “بغداد”.

* بعد أيام من وصولنا الى “القاهرة”، إلتقيتُ بالسيد “عارف عبدالرزاق” لأُعاتبه كثيراً عن سبب (توريطي) في أمر “طيران التشكيل” فوق “بغداد” من دون أن يوضح لي الغاية الكامنة وراءه… فأوضح أنه لم يكن هناك داعٍ لزَجّي في حركة إنقلابية يقودها هو، ما دام

الأمر الذي أصدره مقتصراً على تحليق “طائرات غير مسلحة” وبأسلوب “طيران تشكيل”.

* وبحكم مغادرتي الوطن، ومنحي صفة “لاجئ سياسي” لدى “مصر” فضلاً عن علاقاتي الشخصية السابقة مع “عارف عبدالرزاق”، فقد غدوتُ -بالضرورة- أحد الضباط المنتمين إلى كتلته القومية… ولذلك أيضاً وجدت نفسي -بعدئذ- مُنقاداً إلى الإشتراك معه في محاولته الإنقلابية الثانية ضد الرئيس اللاحق “عبدالرحمن محمد عارف”، والتي قادها فعلاً يوم (30حزيران/يونيو1966)، وذلك بعد حوالي شهرين ونصف على تسّنمه مقاليد الحكم في “العراق”.

* أما تقويمي الشخصي عن شخص “عبدالسلام عارف”، فإنني أراه قومياً دون أدنى شك، وممتلكاً لشجاعة فردية متناهية، وملتزماً باُّصول الدين الإسلامي الحنيف… ولكنه كان يميل للإنفراد بالسلطة ويتّخذ قرارات غير مدروسة، ويطلق ألفاظاً وعبارات غير موزونة في خطاباته وتصريحاته وأحاديثه… وأنه على الرغم من تواضعه في ظاهره، فإن “داء العظمة” قد تملّكَ منه وخصوصاً بعد “حركة18تشرين ثاني/نوفمبر1963″… وأن الذي إقتنعت به -بعد إطلاعي على مجريات الامور عن كثب- أن ظاهره تجاه موضوع الوحدة مع “مصر” كان على عكس ما يضمره في باطنه.

((انتهى حديث السيد ممتاز السعدون))

*********

حديثي الخاص مع السيد “ناجي طالب”

لم يكن حديث السيد “ناجي طالب” عن المحاولة الإنقلابية نفسها، ولم يطّلع على تفاصيلها، ولم يكن طرفاً فيها أو قد تعايش مع أحداثها… وأنه بعد أن تقدّم بإستقالته من منصب “وزير الخارجية” مطلع (أيلول1965) مع زميله “اللواء الركن محسن حسين الحبيب” وزير

الدفاع من وزارة “طاهر يحيى” الثالثةó، وذلك بسبب فشل تلك الوزارة في تنفيذ مهمة “الإنتخابات العامة” المُوكَلة إليهاóó فقد حمل جواز سفره مغادراً “بغداد” إلى “إنكلترا” لغرض الراحة والإستجمام بعد طول عناء ومهمات وواجبات طالت حوالي (10) أشهر، ولزيارة نجله البكر “طالب” المُقيم بمدرسة داخلية في جزيرة “آيل أوف وايت” جنوبي ميناء “بورتسماوت”، حيث جلب أنظاره عنوان رئيس في أعلى الصفحة الأولى لصحيفة “تايمس” اللندنية، وهو يقول:-

“The Oddest Coup in History”

أي: “أغرب إنقلاب في التأريخ”.

أو: “الإنقلاب الأغرب في التأريخ”.

**********

تباين في التأريخ الدقيق للحركة الإنقلابيةó

بعد هذا العرض المُسهَب لهذه الآراء المعمّقة للسادة الذين تكرّموا عليّ بذكرياتهم التي سجّلوها بعناية عن هذا الحدث الخطير، وسطّروها في متون عشرات الصفحات -وهم جميعاً صُنّاعه، أو معايشوه عن قرب- فقد لاحظنا أن هناك تبايناً في التأريخ الدقيق لليلة تنفيذ خطة هذه الحركة الإنقلابية.

وبغية وضع النقاط على الحروف، وخدمةً للتأريخ، بعد إنقضاء عقود على هذا الحدث، فقد رأيت من الأنسب مناقشة (الموعد الأكثر إحتمالاً)، وكما يأتي:-

أولاً: حدّد السيد “صبحي عبدالحميد”-واضع الخطّة المقترحة المبدئية للحركة، وأحد أهم قادة الكتلة القومية- ضمن الصفحات التي كتبها بخط يده، أن ليلة (14/15أيلول/سبتمبر 1965) باتت موعداً للتنفيذ، بعد أن تم تقديمه يوماً واحداً عن الموعد المقترح… وأن السيد “عارف عبدالرزاق” قد غادر “بغداد” مع صحبه الى “القاهرة” ظهر (15أيلول)… ولكن من دون أن يحدد أسماء الأيامó.

ثانياً: نحى السيد “هادي خماس” -مدير الإستخبارات العسكرية، والعضو المهم في قيادة الكتلة القومية، والشخصية الأهم الذي كان برفقة “عارف عبدالرزاق” ليلة تنفيذ الحركة- المنحى نفسه، مُثبِّـتاً ليلة (14/15أيلول) موعداًóó.

ثالثاً: ذهب السيد “أمين هويدي” -سفير “مصر” في “بغداد”- إلى تحديد الخميس (15أيلول/سبتمبر1965) موعداً لإنذار الوحدات العسكرية المؤيّدة للحركة المزمعة في “بغداد”… فيما يذكر أن إجتماعاً عُقِدَ في منزل “عارف عبدالرزاق” صباح (15أيلول1965) -دون تسمية يومهóóó لتدارس الموقف، إذْ غادره -ومعه عائلته- إلى مطار “بغداد” ثم إلى “القاهرة” على متن إحدى الطائرات الحربية.

رابعاً: يذكر السيد “اللواء الطيار الركن ممتاز السعدون” أنه علم ظهر الخميس (16أيلول1965) بقيام السيد “عارف عبدالرزاق” بحركته، وأنه أقلع من مطار الحبانية العسكري بطائرة قاصفة متوجّهاً الى “مصر” صبيحة السبت (18أيلول1965)óóóó.

خامساً: حدّد قائد طائرة “الرف الجمهوري” الخاصة (المقدم الطيار عدنان أمين خاكي)، أن الملحق العسكري العراقي في “الرباط” قد أيقظه هاتفياً في الصباح الباكر ليوم الجمعة (17أيلول) ليبلغه بالذي وقع في

“بغداد”… وأن “عبدالسلام عارف” قرّر مواصلة حضور الجلسة النهائية لمؤتمر القمة العربي الثالث حتى مساء ذلك اليوم في “الدار البيضاء”… وأن الطائرة الخاصة التي أقلع بها “المقدم عدنان” من “الرباط” ليلة الجمعة/السبت (17/18أيلول) قبل أن يهبط بها في “القاهرة” ظهيرة السبت (18أيلول).

سادساً: أما “أنا” وقد عشت الأحداث في فوج الحرس الجمهوري المسؤول الأوّل والأهمّ عن حماية القصر الجمهوري فقد سجّلتُ في مفكرتي الشخصية لعام (1965) ما يأتي:-

* أن الفوج الذي كنت أحد ضباطه، قد أُدخِلَ الإنذار مساء الأربعاء (15أيلول)… وأن الأحداث الخطيرة تتابعت طيلة ليلة الأربعاء/الخميس (15/16أيلول).

* لم يهدأ الموقف في فوجنا ولم نـُخرَج من حالة الإنذار، بل رابِطنا حوالي القصر الجمهوري طيلة نهار الخميس (16أيلول).

* أن ضباط فوجنا أُبلِغوا مساء الخميس (16أيلول) بأن السيد “عارف عبدالرزاق” قد غادر “بغداد” بطائرة نقل عسكرية ظهر ذلك اليوم الى “القاهرة”.

* أُوفِد “الدكتور عبداللطيف البدري” -وزير الصحة والصديق الشخصي لـ”عبدالسلام عارف”- إلى “المغرب”، ووصل “الرباط” صباح الجمعة (17أيلول) لتوضيح الموقف -الذي هدأ نسبياً في “بغداد”- أمام السيد رئيس الجمهورية.

* أقلع “عبدالسلام عارف” بطائرته الخاصة من “الرباط” ليلة الجمعة/السبت (17/18أيلول1965)، ووصل “بغداد” بطائرة ركاب (مدنية) مصرية عصر السبت (18أيلول1965).

سابعاً: تأكّدتُ -بغية قطع الشك باليقين- من تلكم التواريخ بمُطابقتها مع صفحات الصحف اليومية الصادرة في “بغداد”، والتي كانت محفوظة ضمن مجلّدات لدى “المكتبة الوطنية” قرب “الباب

المُعظَّم” وسط “بغداد”ó.

ثامناً: أن الصحف البغدادية الصادرة صباح الأحد (19أيلول) نشرت تفاصيل عودة الرئيس “عبدالسلام عارف” من “الرباط” الى “بغداد”، فكانت مطابقة لما سجّلها “الباحث” ضمن مفكرته الشخصية.

تاسعاً: أشار البيان الرسمي المقتضب، المنشور في جميع الصحف العراقية الصادرة بعدئذ، أن يوم الأربعاء (15أيلول1965) كان موعداً لتنفيذ الحركة الإنقلابية.

لما أوردناه من تفاصيل دقيقة، ومع جُلّ إحترامي وتقديري لآراء وشخوص أساتذتي السادة “صبحي عبدالحميد، أمين هويدي، وهادي خمّاس” والتي تسّببت في مفارقة (24) ساعة عن الطروحات الأخرى… فإن أكبر الظن أن التأريخ الأدقّ للحركة التي قادها السيد “عارف عبدالرزاق” قد بُوشِر بتنفيذها مع مساء الأربعاء (15أيلول1965)، وأن إخفاقها قد توضّح مع فجر الخميس (16أيلول)، وأن السيد “عارف عبدالرزاق” قد غادر مطار الرشيد العسكري مع عائلته وصحبه بطائرة نقل عسكرية ظهر يوم الخميس (16أيلول1965).

وقد يعود السبب في هذه المفارقة -التي كان وُجوباً عليّ إيضاحها هو تقادم الأيام والذكريات، وعقود من الزمن مضت على ذلك الحدث.
 د.  عميد ركــن متقاعد.. دكتوراه في التأريخ