22 ديسمبر، 2024 9:30 ص

شاعر الغزل المترف رقيق المشاعر: عمر بن أبي ربيعة

شاعر الغزل المترف رقيق المشاعر: عمر بن أبي ربيعة

يتفاخر الرجال بعلاقاتهم النسائية؛ فذلك مستقر الثقة في أنفسهم، وذاك الصنف من الرجال يطلق عليه اسم “الدنجوان” نسبة إلى الشخصية الخيالية “دون خوان” Don Juan التي ظهرت في شكل اسطورة تصوِّر حياة رجل ينذر نفسه لحياة المجون وتعدد العلاقات النسائية. ولطرافة المغامرات التي يمر بها “دون خوان” والذي حرِّف اسمه في اللغة العربية إلى “دون جوان” تلاقفت الشخصية الأعمال الأدبية من شعر وأوبرا ومسرحيات. وأيضًا، يوجد الشاعر الإنجليزي “جون دون” John Donne (1572- 1631( الذي ولد في القرن السادس عشر وامتد عمره ليشمل القرن السابع عشر. ويذكر أن “جون دون” ولد في عائلة متديِّنة، لكنه هجر وظيفته الكنسية ليحترف لشعر. ولقد اشتهر بالمجون وتعدد العلاقات النسائية. لكن فيما يبدو أن حتى حياة المجون والعبث وتعدد العلاقات النسائية كانت أصلها عربي؛ فمن أشهر الشعراء العرب الذين اشتهروا بالفسق والمجون الشاعر “عمر بن أبي ربيعة”.
” عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ” (664م/23 هـ – 711م/93هـ) شاعر قرشي من بطون بني مخزوم، ويلتقي نسبه مع النبي عليه الصلاة والسلام. ويعد فخر قريش لأنها كانت تتفوَّق في السياسة والدين والتاريخ، لكن لم يكن بها شاعرًا تتفاخر به. وعلى هذا كان ميلاد “عمر بن أبي ربيعة” وتفوُّقه في الشعر سبيلًا لتفوُّق قبيلة قريش في جميع المناحي؛ حيث أنه من شعراء الطبقات في العصر الأموي، والذي ترقى طبقته لجرير والفرزدق والأخطل، وهم من أشعر شعراء ذاك الزمان. بيد أن الفرق بينه وبينهم أنه لم يحترف المدح والهجاء، لكنه احترف شعر الغزل وطوَّره وجدد فيه؛ فلقد أدخل عليها القص والحوار، وقام بترقيق الأوزان مما جعل الأشعار قابلة للغناء. ولمَّا سُئِل عن سبب عدم احترافه الغزل كأقرانه، كان يجيبهم أنه لا حاجة به إلى ذلك؛ فهو شديد الثراء.
ولقد نشأ “عمر بن أي ربيعة” في كنف أسرة ثرية ذات أصل عريق، متمتعًا بالبهاء والوسامة وحسن الطلعة مما جعل النساء تتهافت عليه. وشبابه الذي قضاه مع أمُّه بينما كان يساعدها على إدارة أملاك أبيه الواسعة أتاح له الاختلاط بالنساء والجواري دون تحرُّج. فمنحه ذلك خبرة التعامل مع النساء وكيفية إغواءهن. ومثل أي مترف، انصرف إلى حياة اللهو والمجون وتعدد العلاقات النسائية. وفي مجالس الطرب والغناء، كان الفارس الذي يقول قصائد الغزل الصريح والفاحش دون أي تحرُّج في نساء مكَّة. وكان الشاعر الذي تطلبه المجالس في المدينة والطائف وغيرها من مدن الشعر واللهو.
ويمكن القول أن “عمر ابن أبي ربيعة” هو شاعر دحر التوقُّعات، وبدأ ذلك منذ لحظة ميلاده. فمن الطريف أنه ولد عام 23هـ في نفس العام الذي توفى فيه الفاروق “عمر بن الخطَّاب”، فأسماه والده “عمر” لعل ولده يماثل الفاروق في رجاحة العقل والعفَّة والتديُّن. ولكن حياة اللهو والمجون التي كرَّس لها نفسه جعل الناس ينعتونه “زهق الحق، وظهر الباطل” ويشيرون بذلك إلى تقوى عمر بن الخطَّاب وحياة وشعر بن أبي ربيعة اللذان وسمهما التحرر والفسق.
وأشعار “عمر بن أبي ربيعة” هي مذكِّراته التي يدوِّن فيها فسقه وخلاعته ومغامراته مع النساء. ولقد بلغ به الفسق أنه كان ينتظر كل عام موسم الحج حتى يتحرَّش بالجميلات من النساء. وفي كل عام، كان يعتمر ويلبس أفخر الثياب ويمتطي أفضل أنواع الفرس وقد خضَّبها بالحناء وألبسها أفخر القطوع الموشاة. وهناك، يلتقي مع الحاجَّات من الشام والعراق والمدينة، فيتحرش بهن بإلقاء الأشعار، وتغزُّله فيهن. ومن يتجاوبن معه يتعرَّف عليهن، ويرافقهن طوال فترة الحج، ويعتني بهن، ويروي لهن بعضٍ من مواقفه وطرائفه مع النساء. وبعد كل موسم يدوِّن ذلك في أشعاره ولقد بلغ الانتشاء منه مبلغه، لدرجة أنه صار يتمنى لو أن موسم الحج يستمر طوال أيام السنة.
وكثيرًا ما كان يوقعه التحرَّش بالنساء في مشكلات جمَّة، مثل ما حدث عندما تحرِّش بزوجة “أبي الأسود الدؤلي” وهو أوَّل من وضع علم النحو وشكل القرآن. فلقد حدث أنه بينما كانت تطوف إمرأته بصرها “عمر”، فأعجبته، فأخذ يتحرَّش بها. لكنها كانت تنهيه وتصرخ: “إليك عني، فإني في حرم الله وفي موضع عظيم الحرمة!” لكن لم يزجره ذلك. ولما شغلها عن الطواف بإلحاحه عليها، ذهبت لزوجها وأخبرته، فأتاه “أبو الأسود” وعاتبه، لكن أنكر “عمر”. وفي اليوم التالي، أخذ يتحرش بها مرة أخرى، فشكت مرة أخرى لزوجها، والذي في ذاك المرة أخذ يعاتبه وهو في المسجد جالس مع جماعة من الناس. فما كان من “عمر” إلا أن تعهَّد ألا يكلِّمها مرَّة أخرى، لكنه تعرَّض لها أيضًا في اليوم التالي. وأثار ذلك حنق “أبي الأسود” الذي توعَّد بعمر إذا تحرَّش بإمرأته مرَّة أخرى. ولقطع السبيل عليه، رافق زوجته في اليوم التالي مدججًا بسيفه. وبلمحهما، أعرض “عمر” عنهما وفر موليًا الأدبار.
ومجون “عمر” جعل النساء تحيك له المكائد؛ مثل النساء المتخفِّيات اللائي أوعذن لصديق لعمر بأنه يأتي به على هيئة رجل عجوز ليلقي عليهن الشعر تحت ذريعة وجود نساء ترغبن في سماع الشعر. وبعد قضاء يومين معهن، أفصح “عمر” عن شخصه وعن خدعته لهن، لكنهن صارحنه أنهن ابتكرن الحيلة حتى يبصرونه رث أشعث الثياب وهو المتفاخر بجماله وحسن ملبسه. وهناك أخرى أغوته وجعلته يلحقها للعراق حتى يتزوَّجها. ولما وصل، أخبرته أنها متزوجة ولديها أطفال، ومكيدتها الغرض منها إعطاءها درسًا لن ينساه حينما تفضح أمره بين الجميع.
وأما التناقض الرهيب هو حياة “عمر بن أبي ربيعة” بعد الزواج؛ فلقد قضى نحو أربعين عامًا من عمره لاهيًا ماجنًا، وبعد الزواج اهتدى تمامًا وما عاد لتلك الأفعال الصبيانية بتاتًا. بل ذكر أن قبيل انتهاء أجله أنه هجر الشعر.
“عمر بن أبي ربيعة” فتى قريش المدلل والشاعر الذي نذر نفسه للحب والغزل، يعد حلقة الوصل بين القديم والحديث؛ فهو امتداد ل”أمرؤ القيس” قديمًا وتمهيدًا ل”نزار قبَّاني” في العصر الحديث. كان معجبًا بنفسه لدرجة أنه وصف ذاته في شعره على لسان إمرأه بقوله “وهل يخفى القمر؟” قاصدًا نفسه بذلك. لكنه عندما عشق أخلص، ولربما كان السبب في ذلك ضياع حبيته “الثريا” منه مرَّة، فلم يرغب في تكرار مأساته مرة أخرى.