لأنها شاعرة فأن عليها أن تشتاق وان يملئ هذا الاشتياق قلبها الأعزل كي تشعل عامها الجديد الآتي.
تبدأ قصيدة(بين كفي رأس وحيد) لحميده العسكري بفعل حركي قائم على انعكاس الحالة النفسية للذات الشاعرة التي تدلل على التفاعلية بين(النص/ الذات) ويبدو إن الشاعرة اعتمدت على فعل داخلي متصل بالذات وهو الشوق والشوق مستفز بطبعه للذات الإنسانية.
بين كفي يسقط رأسي
وحيدا مترنحا
تتصفحه الكفان
وفيض عزاء
رأس من نوع اخر
يهدي اعين الناظرين..دموعا
تبكي اساه
هذه الصورة تضعنا أمام تخيلات متعددة في وقت واحد، فبين الفعل الذاتي(الاشتياق) وفعل هذا الاشتياق في ذات المرأة العاشقة(الوهن) تعبير عن الحالة النفسية للشاعرة بدقة متعالية تعكس التعثرات الداخلية للذات لتشحذ الروح بتلك المعادلة(شوق المرأة العاشقة = وهن الجسد)
ويبدو إن حميده العسكري أرادتنا أن نعيش حالتها كما تريد هي محملة بوجع ذاتي على حالة مدوية ونداء خفي للآخر بأن يعيش ما تعيشه الذات الشاعرة.
سادتي حين تصنفون الحزانى
فمهلا
يأبى قلبي المرتبة الثانية في التصنيف
ودوما
له صدر النزيف من الدموع
فلا تؤخروا دموعكم..فأنه لكم
سيضمن البكاء
من فيض شلالات حزنه
فاتركوا له تواقيع عيونكم
ملائكة تأسو له فوج العذاب
والعناء
يمتاح منها هدأة المنام
وازرعوا بين الحنايا برعمة لفرحه
نهالها الدموع
ثم عودوا،لتقطفوا الثمار
سلالا من شجاه
وعنقودا من البكاء
على حافة بئر للاسى تفقدت دموعهم
نثار وجدي
في هذا المقطع نجد سيطرة واضحة لوجدان يحاول أن يلهب مشاعر المتلقي إنها(تنهيدة) مستعرة لامرأة عاشقة تكابد لوعة الشوق، وكأنها ترسم بريشتها الحزينة لوحة العشاق الذين يشبهونها في وجعها وألمها وبكاءها بصمت ، فتغسل جسدها الذي أنهكه الشوق بسيل دموعها،إلا إنها تقاوم هذا الحرمان بالذوبان بين يدي المعشوق عندما يمد يده إلى روحها ليخطف تعبها ويملؤها حنينا.إن(حميده العسكري)في استخدامها للفعل الماضي(اتركوا،ازرعوا،اغترفت،انسربت) تريد أن تؤكد إن الماضي وان كان جزءا من حياتها إلا انه لم يشغلها أو يثنها عن معايشة حاضرها وواقعها رغم قسوته لأنها اقوي من الحزن. وهذا ما يجسد لديها الحالة المتوهجة في الكلمة لتداعيات الشعور فهي تلتقط الجمال حيثما التمع في الأشياء، وهي تهتم بالكلمات الشعرية الشفيفة التي تجسد شعورها ببلاغة أدبية تصوغ الكلمة الشعرية في معامل الشعور العميقة.
حميده تجسد ذاتها(رأس) وهذا منتهى الرهافة والرقة والعطاء،وكأنها هنا ترمز إلى عطاء الرأس ووداعته.وهي بذاك تهوي هذه الافكار بكل أبعادها وجمال ألوانها.
فلما انحنى في الوجد قلب
تجلبب الاهات
وطأطأ الكون له من كل آنية تعج بالجراح
واغترفت اطرافه الشاسعة تستجدي من
اهوال حزني الثقال
كفا من الشقاء
لتنتقل الكفة العليا فماجت،كل دموع الثكالى
وانسربت كل اهات الجزع
لان محتلا جديدا، حاز اوسمة من البلاء
مكتسحا كل عنوان قديم ينتمي في علة
او نسب ما بينه وبين اعمدة العزاء
تفرد القلب بهمي ثم شاكس
الالم،
حتى توارى من تقزم خلف اناتي
الضياء
وانا هنا تستاقني الريح ولا تبقى علي
من ثيابي، غير ما ابقت لي الدنيا
من الهم ومن عاصفات النوء ومن
ذاكرة بيضاء
كل هذه المشاعر التي تطفق داخلها تنأ عن التفاصيل الكثيرة في تلك اللحظة الجنونية،فهي اغتسلت بدموع اعتراف مباشر، لتنهي المقطع بقفلة تحوي دهش المقطع النهائي وكأنه وحدة مستقلة بذاتها(وانا هنا تستاقني الريح ولا تبقى علي/من ثيابي،/غير ما ابقت لي الدنيا/من الهم ومن عاصفات النوء/ ومن ذاكرة بيضاء)
) النص جسد إيقاع موسيقي داخلي ينبض بالحياة والتجدد، فهي ليست مجرد كلمات متراصفة بل نغمات تشكل الإيقاع الداخلي للقصيدة، وهذا الإيقاع الداخلي الذي يشكل الحركة الموسيقية في داخل القصيدة ليرتدي في النهاية الموسيقى الخارجية للنص.وفي هذا المقطع تحديدا نلاحظ صورة رائعة صهرت الكلمات في معنى جميل بتلقائية بعيدا عن التصنع.
وتتابع الإيقاع الموسيقي للقصيدة بجمال سردها ووهج لغتها،بوح لذات متألمة وأسئلة لتكهنات المستقبل وهنا نلاحظ إن النص حافظ على نسق واحد من جمالية الشعر من حيث التركيب اللغوي والتكثيف الدلالي والإيقاع الداخلي.
وهنا يتضح ان نصوص (حميده العسكري) تضعنا أمام حقيقة النظر إلى الشاعر ككيان إنساني له مشاعره وأحاسيسه وشاعريته التي يحاول التعبير عنها ليعكس القيمة الحقيقية لهذه الروح التي نحاول أن نفهمها من خلال أنتاجه الشعري الذي يعكس صورة الحوار الداخلي بين الإنسان وذاته ليفهم ما الذي يريده من هذا العالم،وهو يسعى جاهدا للبحث عن نفسه من خلال الآخرين وتجاربهم.
وبمعنى آخر إن الشاعر عندما ينتج نصا جديدا فأنه ومن خلال تحليلنا لصوره الشعرية يتبين لنا تعاطيه مع الحياة، فعندما يكتب الشاعر قصيدة لا يعني إنها مجرد كلمات مرصوفة، بل انه يعكس رؤيته للعالم.فالقصيدة كما يقول اودونيس(هي حدث والشعر تأسيس باللغة والرؤيا : تأسيس عالم واتجاه لا عهد لنا بهم . من قبل . فهو تخطي يدفع إلى التخطي)