شاعرات وشعراء الفيسبوك أكثر من أن نحصيهم . فقد تفتق هذا المكان عن قرائح شعرية بدأت ولن تنتهي على ما يبدو ، وفي مجمل هذه الظاهرة لا بد من قراءتها ضمن حقول متعددة ، ليس أولها الحقل الاجتماعي واستنباتاته المختلفة ، والتي نختلف على تقييمها في العادة ، وليس آخرها الحقل الشعري بتجلياته المختلفة وما يفرزه من أنماط كتابية في هذا المكان على وجه الحصر والذي نختلف عليه في كل مرة.
(1)
في حالٍ مثل الفيسبوك كجريدة إلكترونية مفتوحة تجدد نفسها بنفسها مع الثواني السريعة ، فإن الأمر يدعو الى المراقبة والفحص الجديين في كيفية نشوء “القصيدة” السريعة المولودة بين الاصابع لحظة الكتابة ، وكيفية الاستعداد لها ، وما هي دوافع الكتابة الآنية ؟ وكيف تتلبس اللحظة الشعرية الشاعرة والشاعر ومن يكتب الى غيره على طرف آخر مجهول للتعبير عن لحظة “شعرية” عاطفية في لقطة مبتكرة وعاجلة تخرج في العادة عن قواعد الضمان الفني لتصل الى الآخر بطراوتها!
أسئلة مثل هذه لا نسأل بها من يريد أن يتعلم الشعر ، فالشعر معرفة واستعداد يسند الفطرة والموهبة ، ولا نسألها لمن هو حصيف في تفسير الظواهر الأدبية الجديدة على وفق مستجدات العلوم الإلكترونية ، فهذا يزيد الأمر تعقيداً . لأن العالم أصبح في متناول اليد ، والعلوم مجتمعة لم تعد حاجزاً بين الناس ، بل بات العكس هو الصحيح ، فاقترنت المعرفة بالأدب والثقافة عموما ، واضحى العلم حافزاً لديمومة الكثير من الأجناس الأدبية في الرواية والقصة والشعر وغيرها وتغذيتها بالجديد من الأفكار وتحفيز خلايا الموهبة للنمو في بيئة جديدة كلياً.
(2)
شاعرات الفيس بوك وشواعرها وشعراؤها ظاهرة لافتة للأنظار، أفرزت قصائد وخواطر وقصاصات ومقصوصات تدخل في الجنس الشعري لاغيره من الأجناس ، فالشعر يتحمل هذا الفيض العاطفي وانفجاراته الوجدانية ، وهو الأقدر على أن يكون ماصّة لفيضان الحروف والكلمات والسطور ، بل والصور الشعرية المنضغطة الى أقصى حدود الانضغاط مثل شرائح الموبايل التي تضغط مئات الأرقام في أضيق المساحات ، ومثل بقية الشرائح الإلكترونية التي تستوعب ملايين الكلمات في السنتيمتر الواحد. .فالحياة الإلكترونية الجديدة أوجدت مثل هذه المساحات المأهولة بالشعر ، ولا يقتصر الأمر على الشاعرات حسب ، إنما على الشعراء بين قوسين .. أيضا !
(3)
هكذا يبدو المشهد “الشعري” هنا ، إذا جازت التسمية ، فهو معبّأ بشرائح نفسية عالية الدقة والكثافة ، عالية الشحنات المكهربة في لحظات تخرج عن زمنيتها النفسية وتندغم بزمنية المكان الإفتراضي ، وهو زمن مطاطي ، حالم ، غير واقعي تماماً ، وغير متكامل في بناه الداخلية ، لأنه مؤسس على فضاء بلا مساند هندسية ولا أرضية محكومة بعواملها المعروفة ، ولكن لأن الشعر بتعبير الشعراء 0هو مادة لازمنية وغير أرضية ، فهو الأجدر أن يستوعب مثل هذه التراكمات اليومية التي تنبجس من بين الأصابع من دون التحضير لها ، أي تنبثق ارتجالية في غالب الأحيان ، وهو ما يجعلنا نتحفظ ونرى المسألة من زوايا مختلفة بصراحة ، ليس أقلها البناء الفني المعتمد في التشكيل الشعري ، ولا آخرها فحص اللحظة النفسية – الشعرية وهي تخرج من ذاكرة الأصابع لتصل الى المتلقي العام.
(4)
لا شك أن ثمة فوضى شعرية يمكن لمسها بوضوح تنتاب هذا المكان المفتوح ، فالجميع محررون في قسمه الثقافي، وهم شعراء اللحظة المباشرة ، وهو الحاضنة الفورية للعواطف الساخنة والمتأججة ، ومن اللافت أن النساء يسجلن الحضور الأكبر وهو ما يستدعي الاهتمام حقاً أن نقرأ الموضوع من زاويته المباشرة ، بفرضية شيوع هذا اللون النسائي كما أدّعي ، مع يقيني أن الشعراء “الشباب” لا يقلون عدداً من شاعرات الفيسبوك ، عبر “اللقاءات” المكشوفة بواسطة الخواطر الشعرية التي تطل علينا بين لحظة وأخرى ، كأنها رسائل حب ضلت طريقها وحطت أمام أنظارنا ، تحت تسمية “الشعر” الجاهزة.
(5)
وهؤلاء ظاهرة غريبة ينبغي على النقد أن يلتفت اليهم ، فالمكان بصفحاته المفتوحة أضحى منتجعاً سياحيا شعريا بلا رقابة نقدية ولا أرشفة فنية يمكن من خلالها تبويب هذا اللون الكتابي الذي يعتمد الضغط اللغوي والكثافة والومضة السريعة..كأنه ” مسجات ” موبايلية ترسل إلى أفراد فيتلقاها المجموع قصدا أو سهواً.أو ثمة قصدية بإرسالها بقصدية القراءة العامة لحاجات في نفس يعقوب..!
ما يلفت الأنظار هو هيمنة “الشاعرات” على المكان بشكل واضح ، وانفتاح الكثيرات على هذا اللون المستحدث تقريباً في المواقع الإلكترونية ، ربما يكون مثيراً في بعض الأحيان ، ربما يكون مفاجئا بقدرته السحرية على أن يشكل مشهدا نابضا بالحيوية والجمال ، ربما يومض سحرا أخاذا بين السطور التي تشكل صورة حياة كاملة مفعمة بالسحر والجمال والقوة … لكن …!
مع هذا لنا ملاحظات نرجو أن لا يتطير منها أحد، فالكثيرون والكثيرات منّا وقعوا في هذا الشرك الفيسبوكي الظريف ، والجميع يجربون الحظوظ الشعرية في هذا الحيز السهل ..منهم من عبر نسبياً ومنهم من ينتظر ..! والمنتظرون كثيرون ، فالحالة الشعرية هذه سلاح ذو حدين ، وهذا الضغط المفروض بسبب سرعة صحيفة الفيسبوك وهي تحدث حالها الثقافي هو أيضا سلاح ذو حدين ، وهنا يكون الاختبار السحري بين الخاطرة الساذجة ورسالة الحب السخيفة معها وبين القصيدة التي تُنشيء عالمها الكبير مهما تقل كلماتها ، وتبتكر طريقتها الجمالية بالتأثير المتضامن مع شكلها المكثف .
(6)
هنا علينا أن نشخص بشكل صريح لا مواربة فيه ، وعلى مدار اطلاعاتنا اليومية لهذه الكتابات الآنية ، أن كل من نبت عليها زغب الكلمات والحروف كتبت شعراً . وكل من هجرها حبيبها قالت شعراً . وكل من وجدت في نفسها حاجة لأن تقول خاطرة لصديقها نقلت من غيرها شعراً وشعيراً . وكل من أرادت أن تستجلب حبيبها بطريقة ساذجة مخادعة كتبت سطور حب وقالت له هذا شعرٌ ، كما لو تغذيه بخرقة سحرية من أسحار الحواة وقرّاء الكف . وكل من تقطعت بها سبل الغرام وجدت خواطرُها طريقها إلى هذا المكان بالمناغاة والمناجاة والتوسل والإذعان والرخص، بل في بعض الأحيان تعرّي نفسها بقبحٍ كي تكون أمام الحب منفتحة ومغرية ومثيرة؛ حتى باتت هذه الكتابات مجلبة للقرف والإغواء ، وانكشفت سبل البعض من هذه النساء للوصول الى مبتغى ما ، ليس خافيا عن الجميع ، وهذا اللون من الكتابة انتقل من مواقع العشاق الى الفيسبوك الذي اختصر في تكوينه الإلكتروني كثيراً من المواقع الطافحة بالشهوة والجنس والغرائز. ليتحول جزء منه الى ما أشرنا إليه ، ليكون الشعر في مهب العشاق الصغار ومراهقات البيوت والدوائر.
(7)
ليس هذا هو الهدف الكلي من الكتابة عن شاعرات الفيسبوك ؛ فقد أثبتت الكثيرات أنهن جديرات بالصراع مع اللحظة الشعرية التي يكنّ فيها ، وجديرات بكتاباتهنّ المنضغطة تحت تأثير عاطفي أو غيره من التأثيرات ، وقد لمسنا الكثير من هذه القصاصات الشعرية المعبّرة ، والجمرات الشعرية الملتهبة بروح الشعر وغناه ، وربما هذا يصلح ليقال عن نساء مارسن الكتابة سابقاً شعراً ورواية وقصة ، وهذا يتضح جلياً من قصاصاتهن الشعرية اليومية الطافحة بالتجربة الحياتية والمعرفية ؛ لكن ثمة من دخلن هذا العالم من دون ذلك ، فاخترن المغامرة من طرف واحد وتعرّينَ أمام كاميرات الفيسبوك ؛ وشخبطنَ على ثيابهنّ بأحمر الشفاه ، ووضعن بشكل مبالِغ ماكياجاً غير متناسق الألوان على وجوههنّ ليظهرن بمظهر الشاعرات .. وهذه هي المشكلة التي اختلط الغث فيها بالسمين !
اجتماعياً لنا تفسيراتنا المقرونة بالدلائل على أن هذا الهجوم “الشعري” الملتبس ليس وليد ظرفه وليس عفوياً ، مع افتقاره الى مقوماته الفنية وشرعية وجوده في مكان عام يؤمه الجميع من مختلف الشرائح الاجتماعية ، وليس مصادفة أن يتكاثر بهذه الطريقة الوحشية المبالغ فيها أحياناً ، فالمجتمع الذي يفرز نماذجه الشعرية بهذه الطريقة هو مجتمع نضع عليه علامات استفهام معينة ، ولو أن المجتمعات ؛ حتى المتخلفة منها ؛ ليست مسؤولة عن غثها الغثيث ، لكنها بالتقابل مع تاريخيتها الحضارية ومكانتها الاجتماعية ، مسؤولة الى حد معين عن تصدير مثل هذه البدع الشعرية التي تفسر أحد دلائل النكوص الاجتماعي اليومي في الكبت والقلق النفسي من مشكلات قد لا نستطيع الإحاطة بها هنا.
(8)
مع هذا لا بأس من ذلك ، فنحن أمة شعرية منذ أن ولدت ، والشعر ديوان العرب ، لهذا نشأنا أمة شاعرة ، يخرّ الشعر من آذان صغارها وكبارها ، وملأت أغانينا الحياة بتفاهاتها الشعرية ، حتى كدنا نبتلع الكون بمخروطاتنا الشعرية الفادحة ! وكادت الرواية تبتلع الشعرفي هذا العصر، لولا صديقنا الفيسبوك الذي أعاد له الاعتبار نسبياً وتسبب بفيضان شعري لا مثيل له منذ شعراء الكهوف حتى شعراء الستلايت !
بالإجمال فهذه الظاهرة ليست خطأ ، كي نثبت للعالم أننا أمة صوتية وعاطفية ، تركت منطق الحياة العلمي المتسلسل واستكانت الى ديوان الشعر العربي الحاضر في كل زاوية من زواياها ، ولابأس أن نطوّع كل صيحات التكنولوجيا الإلكترونية الى قصائد حب وعشق وشوق وغرام وهيام ..ويكون الاتصال الشعري شفرتنا الى العالم المتحضر وغير المتحضر ، لنثبت أننا شعوب لا يحبطها التطور العلمي ولا ناطحات السحاب ولا عصر الإنفوميديا بالغ الدقة.
لا نبخس حقوق الموهوبات من الشاعرات ، من أولئك المجتهدات اللواتي ربما كانت لهن صفحات الفيسبوك عوناً مباشراً لتقديم أنفسهن بين قرّاء إفتراضيين ، تماماً كقرّاء الصحف ، لا نراهم ، لكننا نشعر بهم بفرضية أن هناك من يشتري الصحيفة ويقرأ ثقافة شعرية وأدبية.
مثل هؤلاء وجدن في هذا المكان طريقة من طرق الاتصال السريعة التي تفرض وجودها الآني بين شرائح من القرّاء واسعي الانتشار، فإذا كانت الصحيفة ذات وجود محلي ضيق ، فإن صفحات الفيسبوك تمتد إلى قارات العالم وبلغاته كلها ، وهذا من المشجع على النشر قبل الكتابة ! وهنا تكمن المفارقة في استسهال الكتابة والنشر معاً ، إذ ليس هناك من ضامن أدبي محترف يستطيع غربلة مثل هذه الأفواج الشعرية النسائية المتكالبة ليل نهار، فتصبح الصفحات عبارة عن نشرات مدرسية في معظم حالاتها وربما أيضاً ينحسر دور القراءة إلى حد بعيد بسبب أن الفيسبوك وصفحاته مفتوحة ومتجددة على مدار الدقائق والثواني ، مما يجعل المتلقي لصيق هذه الصفحات أوقاتاً تطول ، على حساب القراءة التي هي زاد لا غنى عنه لكل هاوٍ وأديب .