حملت الانباء في نهاية شهر حزيران / يونيو وبداية شهر تموز / يوليو من هذا العام 2014 خبرا حول الموافقة على اطلاق اسم الكاتب السوفيتي سيرغي دوناتوفيتش دوفلاتوف ( 1941 مدينة اوفا – 1990 مدينة نيويورك ) على احد شوارع نيويورك , وذلك بناء على اقتراح من اصدقائه ومحبيه ومؤيديه هناك , حيث عاش الكاتب اكثر من عشر سنوات عندما هاجر من الاتحاد السوفيتي الى الولايات المتحدة الامريكية وتوفي هناك , وهذه هي المرة الاولى في تاريخ هذه المدينة الامريكية الشهيرة يطلق فيها اسم اديب سوفيتي مهاجر على شارع من شوارعها , ونحاول في هذه السطور الوجيزة الآتية عنه تعريف القراء بهذا الكاتب والصحفي السوفيتي المشهور في روسيا وفي العالم ايضا وسيرته الذاتية ونتاجاته المختلفة في مجال الصحافة والادب في الاتحاد السوفيتي وخارجه , رغم ان بعض الباحثين والصحفيين العرب قد كتبوا هنا وهناك عن هذا الكاتب السوفيتي (( منهم – على سبيل المثال وليس الحصر- الكاتب العراقي المعروف الاستاذ جاسم المطير عام 2006 في جريدة القبس الكويتية وموقع الحوار المتمدن بعنوان – موت في المنفى وخلود في الوطن الام , ونشرت جريدة ( الوحدة ) السورية في عام 2006 ايضا مقالة تعريفية عنه , واعاد مجلس السلم والتضامن العراقي نشرها في ( مرافئ ) بنفس العام , واقام المركز الثقافي الروسي في الاسكندرية بمصر معرضا لصوره لمناسبة الذكرى السبعين لميلاده , وربما توجد مقالات اخرى بالعربية حوله, علما ان أحدث تلك المواد – حسب علمنا المتواضع – هي ما كتبته هناء عليان عن دوفلاتوف في جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 6/7/2014 )) , الا اننا نعتقد – مع ذلك – بضرورة التوقف بشكل اوسع واعمق عند نتاجات دوفلاتوف الادبية والصحفية ومكانته واهميته فيها وسيرته الذاتية ايضا , خصوصا
وان هذا الخبر حول تسمية شارع في نيويورك باسمه قد انعكس وبشكل كبير و مثير جدا في الصحافة ووسائل الاعلام الروسية والامريكية المختلفة وغيرها من دول العالم في الوقت الحاضر باعتباره حدثا فريدا ومتميزا فعلا ويحمل في طيٌاته كثيرا من المعاني والدلالات , بما فيها طبعا – وربما قبل كل شئ – بعض المعاني والظلال السياسية المحددة .
ولد سيرغي دونا توفيتش دوفلاتوف في 3/9/1941 بمدينة اوفا عاصمة جمهورية بشكيريا السوفيتية من اب يهودي وام ارمنية , وانتقلت العائلة للعيش الى مدينة لينينغراد ( بطرسبورغ حاليا ) عام 1944 , والتحق سيرغي دوفلاتوف بجامعتها عام 1959 , ودرس سنتين ونصف في قسم اللغة الفنلندية بكلية الاداب , لكن الجامعة رقنت قيده بعدئذ لرسوبه , فاضطر للالتحاق في الخدمة العسكرية الالزامية وقضى هناك 3 سنوات , ثم عاد مرة اخرى الى نفس الجامعة ودرس في كلية الصحافة , وبعد تخرجه أخذ يعمل في الصحافة وعاش في استونيا السوفيتية منذ عام 1972 الى 1975 وعمل في جريدة ( استونيا السوفيتية ), وبدأ بكتابة القصص القصيرة , ونشر اول مجموعة قصصية له بعنوان ( خمس زوايا ) هناك , ولكنها صودرت في استونيا وتم اتلافها من قبل المخابرات الاستونية السوفيتية آنذاك , وعاد الى لينينغراد عام 1975 واستمر بالعمل في الصحافة وكتابة القصص , ولكن المجلات رفضت نشرتلك القصص , على الرغم من ان مجلة ( يونٌست ) ( الشباب ) , وهي مجلة مركزية كانت تمتلك قيمتها واهميتها في الاتحاد السوفيتي آنذاك , نشرت له عام 1974 قصة من قصصه . بدأ دوفلاتوف بالنشر في مجلات اللاجئين الروس في اوربا , والتي كانت ممنوعة بالطبع في الاتحاد السوفيتي , ومنها مجلة ( كونتينينت ) ( القارة ) الشهيرة ومجلة ( فريميا اي مي ) ( الزمن ونحن ) , وفي عام 1976 طردوه من اتحاد الصحفيين السوفييت لمواقفه المضادة تجاه الاتحاد السوفيتي وايديولجيته الرسمية المعروفة , و استطاع ان يسافر من الاتحاد السوفيتي عام 1978 ضمن موجة الهجرة الكبيرة لليهود
الروس التي اجتاحت الاوساط السوفيتية عندها , والتي سمح بها الاتحاد السوفيتي رسميا آنذاك نتيجة تحولات سياسية كبيرة طرأت في مجمل مسيرة الاحداث العالمية ولا مجال للحديث عنها هنا طبعا , و هكذا هاجر دوفلاتوف الى الولايات المتحدة الامريكية , وهناك أصبح رئيسا لتحرير الجريدة اليومية – ( نوفي أمريكانتس) ( الامريكي الجديد ) التي اصدرها باللغة الروسية آنذاك في الولايات المتحدة الامريكية , والتي اصبحت واحدة من اهم جرائد اللاجئين السوفيت المضادة للاتحاد السوفيتي هناك , رغم انها لم تستمر طويلا , وتفرغ دوفلاتوف بعد ذلك لكتابة القصص والروايات , واستطاع ان يصدر العديد من الكتب ( بالروسية طبعا ) واصبح كاتبا مشهورا بين المهاجرين واللاجئين السوفييت هناك , وترجمت مؤلفاته الى الانكليزية قبل كل شئ , لانه كان في الولايات المتحدة الامريكية , وهكذا اصبح مشهورا هناك ايضا ( ولعبت الصحافة الامريكية دورا كبيرا في ذلك ), ثم تم ترجمة مؤلفاته الى لغات اخرى , وكانت تلك المؤلفات تصور الوضع في الاتحاد السوفيتي من وجهة نظره طبعا وتعكس معاناة الكاتب نفسه التي اصطدم فيها هناك والتي ادٌت الى هجرته من وطنه , ولم تسمح الرقابة السوفيتية آنذاك بطبع او توزيع كتبه تلك داخل الاتحاد السوفيتي , لانها لا تعكس وجهة النظر السوفيتية الرسمية الى الواقع السوفيتي بالتأكيد , مثل حال كل النشاطات الفكرية التي كان يقوم بها اللاجئون السوفيت خارج الاتحاد السوفيتي , ولكن رغم هذا المنع كانت بعض الكتب المضادة للسوفييت يتم تداولها سرا داخل الاتحاد السوفيتي , ومنها طبعا مؤلفات دوفلاتوف , و خصوصا عندما بدأت في اواسط الثمانينات من القرن الماضي حركة الغلاسنوست ( العلانية ) والبيرسترويكا (اعادة البناء ) , حيث بدأت بالظهور ايضا بعض تلك الكتب التي كتبها اللاجئون السوفيت في الغرب حول الاتحاد السوفيتي , ومنها كتب دوفلاتوف طبعا, أما الان , فان كتبه اصبحت واسعة الانتشار في روسيا الاتحادية , وتم طبعها ب 3 مجلدات , ثم صدرت ب 4 مجلدات , بل وهناك الان عدة تماثيل نصفية ولوحات برونزية في الكثير من شوارع بطرسبورغ وغيرها من المدن
الروسية تشيد به وبمكانته في دنيا الادب والفكر الروسي , وقد أطلق الاديب الروسي المعاصر فيللر حتى على احدى رواياته القصيرة اسم – ( سكين سيرغي دوفلاتوف ) . ان قائمة مؤلفات دوفلاتوف من قصص وروايات ومذكرات عديدة جدا , تبلغ حوالي 15 كتابا , صدرت كلها خارج روسيا طبعا , ولكنها عادت الى موطنها الاصلي , اي روسيا , واصبحت جزءا لا يتجزأ من الادب الروسي المعاصر طبعا ( دخلت بعضها حتى ضمن ال 100 كتاب ادبي في قائمة وزارة التعليم الروسية لتلاميذ المدارس التي يجب ان يطلعوا عليها ) , وهناك قول مشهور ورائع لدوفلاتوف حول هذا الموضوع المهم والحساس جدا , وهو ان – ( قومية الكاتب تحددها اللغة , اللغة التي يكتب بها نتاجاته ) , ويعد هذا القول العميق والمهم والمباشر – جوابا على كل التساؤلات والطروحات والمناقشات والآراء المختلفة بشأن هذا الموضوع المتشابك والمعقد والصعب جدا ليس فقط في روسيا , وانما في الكثير من دول العالم , بما فيها طبعا عالمنا العربي المتعدد القوميات , ولا اريد ان استطرد أكثر في هذا المجال الحساس جدا, والدقيق جدا , بل والسياسي جدا.
ختاما لهذه السطور , أود ان أقدم للقراء بعض أقوال دوفلاتوف , والتي أصبحت أقوالا مأثورة في مسيرة الادب الروسي المعاصر –
– الشجاعة الحقيقية تكمن في حب الحياة , رغم انك تعرف كل الحقيقة عنها .
– نلعن ستالين بلا انتهاء نتيجة اعماله , ومع ذلك اريد ان أسأل – من الذي كتب أكثر من اربعة ملاين تقرير له ؟
– من الصعب الاختيار بين الاحمق والنذل , وخصوصا اذا كان النذل – أحمقا ايضا .
– …. ما دمنا نقدر ان ننكت , فاننا شعب عظيم …
– عند العباقرة طبعا يوجد جيران , كما عند الجميع , لكن هل انت مستعد ان تعترف ان جيرانك – عبقري ؟ .
– المضاد للحب – ليس التقزز , ولا حتى اللامبالاة , وانما – الكذب .
– ما هي الديمقراطية ؟ من الممكن هي حوار الانسان مع الدولة ؟