23 ديسمبر، 2024 2:28 م

شارع الرشيد والتاريخ الاجتماعى الاقتصادى

شارع الرشيد والتاريخ الاجتماعى الاقتصادى

كلما ازور شارع الرشيد تنتابنى حالة من الحزن والالم, حيث يتجسد امامى حالة سقوط صرحا حضارىا عراقيا, بما كان يقدمه من مشاهد للابداع الثقافى العراقى والحياة الحضرية المنفتحة الراقية التى تجمع وتضم المواطنين فى عمل فنى , هذا الصرح الذى تحول الى حالة رثة بائسة من الفوضى العارمة التى طمست كل ما كان فيه جميلا نظيفا ومنظما وواعيا, بعد ان زحفت وطغت علية “راسمالية البزار” المتوحشة وجعلت منه موقعا للبسطات وتجارة البالات والخردة وتتصاعد فيه الاصوات العالية التى تصدر من الميكروفونات التى تعلن عن مختلف انواع البضائع, هذا بالاضافة الى انه اصبح مرتعا لتجارة الادوات الاحتياطية والمكائن والالات والتى استوطنت مواقع السينمات والمخازن التجارية المتخصصة سابقا, ان كل ما فيه الان يشير الى غير مكانه ومكانته. وما تم تشيده او ترميمه بصورة لا تنسجم مع الطراز المعمارى الذى اقيم عليه وما تبقى من تراث معمارى للعمارة العربية الاسلامية فهو فى حالة تهرىء وايل الى السقوط. ان شارع الرشيد كان رمزا لـ ” الزمن الجميل” يعيش حالة يرثى لها وحالتة هى انعكاس لحالة العراق واوضاعه المتردية منذ انقلاب 1963 .

شهد العراق و بعد اكثر من اربعة قرون من الحكم العثمانى المتخلف اول اتصال بالحداثة مع الاحتلال الانكليزى للعراق فى عام 1914, وفى دخولهم بغداد فى عام 1917 كان التعرف على تكنولوجيا الحداثة من دبابات وطيارات ومكائن ووسائل النقل الميكانيكية. على ان الاستعمار الانكليزى لم يحتل العراق لنشر الحداثة امر لا يحتاج الى نقاش, ولكنه من اجل تحقيق مصالحة واهدافة الانية والمستقبلية كان لابد له من اقاامة نظام حكم يؤمن له وجوده ومصالحه. وتم اقامة نظام حكم “ملكى دستورى ديمقراطى”, وجىء بالهاشمى فيصل من الحجاز ونصب ملكا على العراق, كان هذا الرجل على درجة عالية من الثقافة والخلق بالاضافة الى الخبرة السياسية, وقد تطورت له مع البلد واهلها علاقات حميمة قد انعكست ايجابيا على مسيرة الحكم الوطنى والتاكيد على وحدة الشعب العراقى. ان مرحلة النظام الملكى التى انتهت فى “ثورة تموز 1958 ” كانت مرحلة خصبة , بما كان متوفرا انذاك من امكانيات مادية, وحافلة بالانجازات الاقتصادية الاجتماعية وفى بناء الدولة الحديثة. وهذا يرجع الى البناء الاجتماعى والتقافى للنخب التى شكلت الوزارات العراقية بالاضافة الى المجتمع البغدادى الذى كان يتمتع بثقافة محلية تقليدية فاعلة وتاهيل مهنى

رفيع.هذا المجتمع الذى كانت تعيش فيه مكونات الشعب العراقى من العرب بمختلف طوائفهم, والاكراد واليهود والمسحيين بوحدة وسلام قد تفاعل مع منجزات الحداثة بقلب وعقل مفتوح.

لم يشغل اى شخص منصبا مؤثرا, وزيرا او مديرا عاما فى هذه المرحلة شخصا غير مؤهل اخلاقيا ومهنيا, وهذه فى واقع الامر حالة فريدة فى تاريخ العراق الحديث والمعاصر ان يتم فيه تطبيق قاعدة الرجل المناسب فى المكان المناسب فى الادارة والحكم. ان هذه التركيبة المحلية قد تفاعلت مع بوادر الحداثة بحس وطنى كبير وفى اطار ما كان يسمح به الاستعمار الانكليزى, ولكن هذا الاستعمار كان ينطلق: طالما ان المصالحه العليا فى العراق مؤمنة فلم يكن معارضا فى بناء الدولة الفتية فقد كان ممثليه ومستشاريه فى كل وزارة.

لقد تم تاسيس الجيش العراقىى على اساس الخدمة الالزامية والتى عملت على تعارف وتقارب ابناء العراق على بعضهم وارساء عوامل الوحدة والتقة, وقد تطور هذا الجيش فى مختلف صنوفه واصبح من افضل الجيوش العربية. كما عملت الوزارات المتخصصه فى القيام بواجباتها وكانت انجازاتها كبيرة جدا مقارنة بالموار المالية المتوفرة انذاك, ولى ان اؤكد على وزارة المواصلات والاشغال وبشكل خاص مديرية الرى العامة التى عملت بسرعة ووعى على انشاء السدود لدرء خطر الفيضان واستصلاح الاراضى الزراعية , وواكد ايضا على وزارة المعارف التى اقامت نظاما تربويا تعليميا قويا فاعلا, وكان الاهتمام كبيرا بارسال الطلبة المتفوقين للدراسة الى انكلترة وفرنسا ولاحقا الى الولايات المتحدة الامريكية, دون النظر الى اصولهم الطبقية وانحدراتهم المناطقية, وفى كل الاختصاصات والتى شملت الفنون التشكلية والموسيقى ايضا. لقد اثمرت هذه السياسة على حركة متطورة فى الابداع الثقافى العراقى, خاصة المتمثلة فى حركة التجديد فى الشعر العربى والفنون التشكلية التى كانت اكثر عمقا وانجازا من تطور مثيلاتها فى الدول العربية الاخرى. وليس اخيراالمستوى العلمى الرفيع الذى وصلت اليه الكليات العراقية, وبشكل خاص كلية الطب العراقية التى اصبح كادرها التدريسى فى نهاية الخمسينيات عراقيا خالصا بالاضافة الى اعتراف الجامعات العالمية فى الغرب بشهادة خريجيها وقبوهلهم فى الدراسات العليا والتخصصية, كما قد تفوق عدد من الاخصائيين العراقيين الذين نالوا شهرة عالمية. ان ارجحية هذه السياسة, ارسال البعثات, وعودة المتخصصين للعمل فى العراق, شكل القاعدة الصلبة الديناميكية لعمل الوزارات وباخلاقيات عالية ومهنية كبيره استمرت فاعلة لعقود قادمة, انها هى الاخرى من صور النجاح الفريدة التى يصعب اعادتها ثانية رغم توفر ظروف مادية مشجعة الى درجة كبيرة.

يمكن ان يكون التطور الذى كان يحصل فى العراق بطيئا, ولكنه كان هادئا منظما ومستمرا, ومع ذلك فقد كان العراق سباقا فى تبنى عناصر الحداثة, فكان اول بلد فى الشرق الاوسط

يقوم بالبث التلفزيونى, وهواول بلد فى الشرق الاوسط ايضا يدخل استخدام الطاقة الذرية فى معالجة الامراض المستعصية, وكانت بوادر واعدة لنشاة شريحة من الصناعيين والمقاولين, كان يمكن لها ان تؤثر فى بناء قاعدة صناعية للانتاج والخدمات والمهم فى هذا الاطار ايضا, ان النظام القيمى للمجتمع قد تطور مع الحداثة واصبح اكثر تنوعا وانفتاحا. ان هذا التطور كان اقصى ما كان يمكن الوصول اليه فى ظل ” رعاية الاستعمار الانكليزى”, كما ان ما يسمى بالحكومات الوطنية التى جاءت الى السلطة بعد انقلاب 1963 لم تقدم نموذجا افضل منه لحد الان.

كانت بعض الاحزاب السياسية, خاصة تللك الاحزاب والقوى السياسية التى رفعت شعارات وجاءت بايديوجية وصورة اخرى للمجتمع قد صعدت معارضتها لنظام الحكم ووصف النخب الحاكمه بعملاء وخدم الانكليز والاستعمار الذين يريدون ربط مستقبل ومصير العراق بالاستعمار العالمى ومخططاته العسكرية المشبوة, وقد نجحت هذه القوة بصورة كبيرة فى التأثير بالشارع وتنظيمة فى حشود ومسيرات ومظاهرات جماهيرية تكاد لا تخلوا منها بضعة اشهر ضد سياسة الحكومة , وخاصة فى سياستها وعلاقتها مع الاستعمار. ومما لاشك فيه فان هذه المظاهرات تقصد شارع الرشيد لانه يمثل منطقة الاعمال المركزية للعاصمة حيث اعداد كبيرة من المواطنين يقصدون الشارع لقضاء احتياجاتهم المختلفة, كما ان التفرعات التى تؤدى الى شارع الرشيد توفر فرصة مشجعة لهروب المتظاهريين وتجد الحماية من قبل السكان, حينما تشرع قوات الامن بالعمل المقابل وتفريق المتظاهرين. كانت المناسبات كثيرة كما يمكن الاعداد وخلق المناسبات كوسيلة لما يسمى بتثوير الجماهير واعدادها للعمل السياسى, ومن المظاهرات التى تذكر , المظاهرات ضد معاهدة بورتسموث ومظاهرات التاييد لنصرة تأميم قناة السويس, وانتفاضة عمال السكاير المضربين عام 1952, ومظاهرات تشرين التى تم فيها حرق العلم ومكتب الاستعلامات الامريكى فى شارع الرشيد باب الاغا, ربما كانت هذه الواقعة اول خبرة مباشرة للامريكان فى بداية دخولهم العراق وتقديم “مشروع النقطة الرابعة”. وكما يبدو فانها قد بقيت عالقة فى الاذهان والتى ربما قد بنيت عليها تصورات لطريقة عملهم واسلوب تعاملهم مع العراقيين مستقبلا. ها اننا نرى ان ما اسس له الامريكان منذ 2003 لا “يكسر الظهر” فحسب وانما ايضا قد ارسلت الشعب فى متاهات لا نهاية لها. وفى طريق وقنوات مظلمة ليس لها مخرج والى امد غير مسمى.

ان ” احزاب اليسار” المعارضه قد افرزت فى تحشيدها الجماهيرى وعيا يقوم على المشاعر والعواطف والرغبات والتهويل بما يماثل المعتقدات الدينية حيث تجاوزت مرحلة التحرر الوطنى وعملية بناء الدولة. لقد اعلنت العداء للحكومة وكفرت مشاريعها التنموية واتهمتها بالخيانة الوطنية والعمالة للاستعمار, وانها حكومة القمع والارهاب والتجويع, ولا تختلف اساليبها عن اساليب الحكومة النازية…..كانت التحقيقات الجنائية انذاك بناية

صغيرة فى الجانب الخلفى لاحد فروع شارع النهر وتطل على نهر دجلة!! ما بالنا بما اسسه صدام حسين من جحافل امنية ومخابراتية وما هو متوفرا حاليا. ؟؟

ان التحشيد الجماهيرى والسيطرة على الرأى العام ضد الدولة والحكومة لم يعمل فقط على تطوير شعور بالمواطنة وانما كان معوقا لتطويره, وادى الى انفصام العلاقة بين المواطن والحكومة والتى ما زالت قائمة حتى الان: ان كل ما تقوم به الحكومة مشكوك فيه وليس فى صالح المواطن ولذلك ليس للمواطن علاقة بها ولابئس ان يخربها او حتى سرقتها اذا تمكن من ذلك , هذا يعنى ان وعيا خاطئا كان مسيطرا على الراى العام وفى نفس الوقت مندفع بقوةا للعمل السياسى ضد الحكومة.

جاءت “ثورة 14 تموز” سابقة لاوانها بعشر سنوات على اقل تقدير, ومما لاشك فن قادة الثورة العسكريين كانوا ضمن هذا الوعى المضخم بـ”الخيانة العظمى للحكومة” بالرغم من مشاعرهم الوطنية ومهنيتهم العالية, الا انهم لم يحصلوا على ثقافة سياسية قائمة على التحليل العلمى الرصين وليس على الرغبات والتمنيات والتقييم الصحيح لوضع العراق الصغير وامكانياته فى الصراعات الدولية والحرب الباردة. …. على فكرة ان بقاء الموصل ضمن الحددود والدولة العراقية كان منجزا بريطانيا!!

ورغم الانجازات الكبيرة التى حققتها ثورة 14 تموز فى فترة قصيرة سوف تبقى فى ذاكرة الشعب مع قائدها الكريم الامين عبد الكريم قاسم, فى ذهابه وايابه فى شارع الرشيد, والذى منحة نكهة خاصة, قد انتهت بشكل كارثى ومفجع, وهى ايضا ضحية الحشد الجماهيرى والوعى المضخم والسياسات الخاطئة.

ان شارع الرشيد, وبعد حوالى 100 سنة قدم طرازا معماريا فريدا, وابداعا للمعمار البغدادى فى تعامله مع خصوصية المناخ فى العراق: شمس الصيف الحارقة والتى تستمر لمدة 6 -9 اشهر فى السنة, لقد ابتكر الرواق المسقف الذى يتيح للسابلة المشى فى شارع الرشيد بعيدا عن شمس الصيف ومطر الشتاء. وليس اخيرا الابنية الرائعة مثل وزارة الدفاع وبيت لينج والكمرك القديم والابنية الحديثة , البرق والبريد فى السنك, وبناية حافظ القاضى…الخ.

ان شارع الرشيد يبقى, لمن عايشه وتمتع بساعات من الهدؤ والراحة فى اجوائه, وحضور مثقفيه ومبدعيه, وكذلك حضور المراة العراقية المثقفة الواعية, بالاضافة الى مقهى الفردوس فى شارع النهر التى كانت مخصصة للطلاب من الجامعيين وطلبة الثانويات الذين يحضرون للامتحانات, يبقى رمزا كبيرا ساطعا لـ “الزمن الجميل” رغم كل البشاعات والتهافت.

” التقى احد الطلبة العراقيين الذى يحضر للدكتوراه فى بولونيا, بالدكتور والمفكر على الوردى, وابدى اعجابه به, مؤكدا على شجاعته فى مجابهة النظام الملكى. فرد عليه الدكتور الوردى قائلا: انا لست شجاعا, وانما كان النظام متساهلا.”
[email protected]