17 نوفمبر، 2024 9:38 م
Search
Close this search box.

شارة ركن “عمر علي” والقدم العسكري…لماذا حُجِبا عنه؟؟؟ وكيف أُستعادهما بعد حركة مايس/1941؟؟

شارة ركن “عمر علي” والقدم العسكري…لماذا حُجِبا عنه؟؟؟ وكيف أُستعادهما بعد حركة مايس/1941؟؟

تمهيد
قلّما راودتني فكرة يوماً تسطير مقالة عن “أمير اللواء الركن عمر باشا علي أفندي بايراقدار”، كونه إسماً بارزاً وقائداً ذا سمعة أخّاذة ومن عائلة ((تركمانية كركوكيّة)) عريقة وصاحب بطولاتٍ ورُتَب ومناصبَ ليس بحاجة أن يكتب عنه مثلي وأمثالي، فضلاً عن إستشعاري بضآلة إقتداري على إضافة شيء يُذكَر إلى تأريخ هذا “الرجل-الرجل” ومواقفه، كونه بَيرقاً من أعلى بيارق عراقنا الحبيب ذائعٌ صيتُه لدى الخاصة والعامّة، ليس على مستوى وطننا العزيز فحسب، بل في عموم “فلسطين والأردن وبلاد الشام وتركيا” لعقود منصرمات، إن لم نعرج نحو أقطار عربية أخرى لنضيفها لقوائم أعلامهم وبيارقهم.
ولكن مواقع التواصل الإجتماعي في أيامنا الأخيرة -التي تلت قرار الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بنقل سفارة بلاده من “تل آبيب” إلى “القدس”- إمتلأت بمقالات قصيرة لا تليق بـ”عمر علي”، والتي وجدتُها مُحَمّلة بجملة أخطاء في التواريخ ومبالغات في الأحداث ومغالطات في الوقائع وإختلافات بالرُتَب لم أستطع إستهضامها، وقد أُضيفت لمقالات أخرى سبقتها في هذا الشأن رغم كونها أدنى وطأةً من الأخيرات.
ومن عِظَمِ إلحاح الأقرباء والأصدقاء لأخوض هذا المخاض، بالأخص كوني مُرتَبِطاً بقرابة مع “العم عمر علي” من حيث كونه إبن خالة جدّتي من أبي ومرتبطاً بصداقة متينة مع عمدة عائلتنا “العقيد مصطفى عبدالقادر آل يحيى بك” وقد عمل معه في “حرب فلسطين-1948” ثم آمر فوج تحت إمرته وقتما كان “العقيد الركن عمر علي” آمراً للواء الجبليّ الخامس في أوائل الخمسينيات، لذلك توجّهتُ نحو نجله “المقدم الطيار بارز عمر علي” وإبن شقيقته وصديق عُمري “العميد الطيار الركن محمد طارق سيد حميد” لأستقي منهما -قبل ولوجي لهذا المخاض- معلومات مؤكدة ووثائق وصوراً أضفتُها لما سطّرتُه نقلاً عن العم “عمر باشا” من ذكريات لدى زياراتي المتكررة له وجلساتي الطويلة في مسكنه وبمعدلات شبه شهرية خلال أواسط الستينيات… فلم يُقصّرا -مَشكورَين- في تنويري بمعلومات شفاهية وصوراً ووثائقَ شكّلت لدي قاعدة مادية موثوقة أستند عليها، رغم كونها -بصراحة- لم تَشفِ غليلَ ما كنت أتوقُ إليه وأطمح.
أول الغيث قطر
ولكني عِوَضَ الخَوض في دراسات مطوّلة عن سيرة حياة “أمير اللواء الركن عمر باشا علي بكر بايراقدار” ومواقفه -والتي سآتي إليها في قادم الأيام بعون الله- رأيتُ أن أكون سبّاقاً بنشر حدث غير مسبوق بحقه تُثير الإستغراب، ولربما لم يُعلِمُ بها سوى البعض من أصدقائه الذين وافاهم الأجل قبل عقود… والأكثر إستغراباً أنه أباح على مسامعي البعض من حقائقها، في حين يؤكد نجله “بارز” وإبن أخته “محمد طارق” على عدم سماعهما السبب الرئيس الذي أدّى إلى عدم منحه شارة الركن وسَنَتَي القِدَم الممتاز!!! ولا أدري لماذا؟؟؟
حرمانه من شارة الركن والقِدَم
فـ”عمر علي بكر” منذ تخرّجه برعاية “الملك فيصل الأول” وحضور آمر المدرسة “العقيد خالد الزهاوي” يوم (23/8/1931) في “المدرسة الملكية العسكرية” بدورتها الخامسة وسط (22) ضابطاً
برتبة “ملازم ثانٍ” مُثبّتاً كفاءة نادرة في حركات شماليّ العراق خلال النصف الأول من عقد الثلاثينيات، ثم معلّما بارزاً لدى “مدرسة الأسلحة الخفيفة” قبل نيله رتبة “رئيس (نقيب)” عام (1937)، وقبوله بتفوّق بمثابة ضابط تلميذ في “كلية الأركان” بدورتها الخامسة يوم (15/1/1938)، وإظهاره كفاءة نادرة خلال سنَتَي الدراسة التقويميتين ولغاية تخرّج دورته يوم (27/12/1939)، فقد وقعت مفاجأة بحقه لم تخطر لا على باله ولا بال أحد.
فبينما كان الحفل برعاية “الأمير عبدالإله بن علي” -الذي أمسى وَصِيّـاً على عرش العراق إثر مصرع “الملك غازي الأول” مساء يوم (4/4/1939)-
وفيما تَسَلَّمَ “عمر علي” شهادة تخرّجه -والتي نصّت على كونه الناجح الأول على الدورة وبدرجة (آ) وسط (19) ضابطاً مشاركاً بالدورة- من بين يدَي “الوصي” وإلى جانبه آمر الكلية “الزعيم الركن حميد نصرت رشيد”، وبحضور وزير الدفاع “الفريق طه الهاشمي” ورئيس أركان الجيش “الفريق الركن حسين فوزي”… وفي حين كان “عمر علي” صبيحة يوم التخرّج لدى تلك المؤسسة العالية مغموراً بالفرح والغبطة لكونه الناجح الأول من بين (19) ضابطا والنائل لدرجة (آ) وإستحقاقه قِدَماً ممتازاً لـ(سنتين) ً، فقد تُلِيَ الأمر الوزاري بتوقيع “الفريق طه سليمان الهاشمي” -الحاضر في الحفل- بمنح شارة الركن والقدم العسكري لـ(17) ضابطاً فقط من دون الرَئيسَين (النَقيبَين) “عمر علي”، وصديقه الحميم “سيّد حميد سيَد عمر” الذي حصل على المرتبة التاسعة!!!!!
تأثرا كثيراً وبان الألَم على مُحَيّاهما قبل أن يقفا قبالة “الوصي” ليشكُوَا ما ألّمَّ بهما… فأجابهما سَلباً:-
((يا إخوان، مع تقديري لمشاعركما ودراستكما لسنتَين في هذه الكلّية، ولكن صلاحية منحكما شارة الركن والقِدَم مُناطة للأخ وزير الدفاع، فلا أتدخّل في شؤونه… وها هو بجَنبي فلماذا لا تتحدثان معه؟؟؟)).
ولكنهما لم يلتفتا نحو “طه الهاشمي” أو سواه، بل تركا القاعة ومبنى الكلية مُستاءين وغاضبَين.
أسباب الحرمان
لم تكن لهذا الحدث سابقة في تأريخ كلية الأركان، لذا كثر الحديث عنه واللغط… فهناك من إدّعى كونه بسبب خلاف أو عدم إنسجامهما مع “العقيد الركن صلاح الدين الصباغ” وزملائه العقداء الثلاثة “فهمي سعيد، كامل شبيب، والطيار محمود سلمان” وقتما أمسوا متنفّذين في أمور الجيش وقواته المسلّحة منذ أواخر الثلاثينيات، ومنهم من أشار نحو شخص “الفريق طه الهاشمي” لعدم إرتياحه منهما.
ولكل ذلك طرحتُ الموضوع على “العم عمر علي” خلال إحدى زياراتي له بمسكنه في حيّ “الوزيرية-بغداد” وقتما كنتُ برتبة “ملازم” بالحرس الجمهوري عام (1965)… فتبادلتُ معه
أنـا:- يا عمي العزيز… هل لكم أن تنوّرني عن مصداقية عدم منحك شارة الركن والقدم الممتاز -وكذلك “سيد حميد سيد عمر”- رغم كونكما ناجحَين؟؟؟ هل كان بسبب كونكما “ضابطَين تركمانيّين” متهمَين -كالعادة- بالعنصرية؟؟ أم جراء ما يزعم البعض عن مواقف شخصيات متنفذة في حينه؟؟؟
عمر علي باشا:- كلاّ -يا ولدي- لا هذا ولا ذاك، ولا ما قيل عن عدم إرتياح “العقيد الركن صلاح الدين الصباغ” -وربما زملاؤه الثلاثة الذين سبقوني بدورتين في كلية الأركان- نحوي، رغم إستشعارنا بذلك… فإليك الوقائع التي جاءت بمثابة ضربة موجعة على شخصَينا ومستقبلَينا، ولو إلى حين… وأكون صريحاً في سردها، فقد إقترفنا ذَنباً في هذه الواقعة التي آلَـمَتنا كثيراً:-
ففي أحد أيام خريف عام (1939) وقد أوشكت دراستنا في الكلية على أواخر أشهرها- حضر جنرال إنكليزي كان قاد فرقة من الجيش البريطاني خلال الإنزال البرمائي الحليف على سواحل “جناق قلعة” -المسمّى بعمليات (غاليبولي)- عام (1915) بُعَيدَ إندلاع الحرب العظمى الأولى، ليلقي علينا دروساً إستنبطَها عن تجاربه في تلك المعارك الشرسة والتي طالت حوالي (9) أشهر متلاحقات، حتى بلغ به الحديث عن أخلاقيات الضباط العثمانيين وإنسانيتهم ومدى مراعاتهم لجنودهم وعدم تكليفهم لأياهم بحفر مواضع لهم وجلب الطعام وغسل الملابس وتلميع أحذيتهم، بل كانوا يؤدون كل هذه الخدمات لشخوصهم بأنفسهم، وذلك على عكس الضباط البريطانيين والفرنسيين وأقرانهم الحُلَفاء الذين ينظرون نحو جنودهم بمثابة خَدَم وأشباه عبيد ليس إلاّ.
وفيما كان الجميع -بمن فيهم آمر الكلية السابق “العقيد الركن قاسم شكري” واللاحق “الزعيم (العميد) الركن حميد نصرت” وكلاهما خدما ضابطين لدى الجيوش العثمانية- صاغرين للجنرال البريطاني، فإني لم أتمالك أعصابي وفارَ دمي وأصابَني الهَياج حيال ذلك المديح الصريح بحق الضباط العثمانيين بعظمة لسان أحد أعدائهم، فنهضتُ من دون إستئذان لأهتف -باللغة التركية- صارخاً:- ((ياشاسن عثمانليلر.. ياشاسن تورك ميلله تي))
أي بمعنى:- ((الخلود للعثمانيون.. فلتعش الأمة التركية))، فنهض “سيد حميد” ليهتف معي!!!

ساد الصمت قاعة المحاضرة وتوجّهت الأنظار نحونا بإستغراب قبل أن ينهي الجنرال حديثه منزعجاً، ولكن ما من أحد من كادر الكلية عاتبنا وجاهةً أو حاسَبَنا سواهم أو حقق معنا… ولكن يبدو أن تقريراً سرياً بهذا الخصوص قد رُفِعَ إلى الأستخبارات العسكرية وعُرِضَ على السيد وزير الدفاع، ناهيك عن نقل البعض من زملائنا ذلك التصرف إلى عدد من كبار المسؤولين، والذي جعل “الفريق الهاشمي” يستخدم صلاحيته في هذا الشأن ويحجب إسمَانا من إستحقاق شارة الركن العزيزة والقدم العسكري الممتاز.
أنـا:- والله ياعمّ، لو كان أحدهم تصرّف مثلكما بكلية الأركان أو سواها في غير العهد الملكي، لكان قد أُودِعَ “السجن رقم/1” إن لم يُعدَم… ولكن كيف أُعيدت لكما حقوقكما بعدئذ؟؟؟
الحرب العراقية-البريطانية
عمر علي باشا:- سأتحدث عن شخصي فقط ولا أتطرّق لصَهري “سيد حميد سيد عمر” -الذي يسبقني بدورة واحدة بالكلية العسكرية- تفادياً للإطالة… فقد صدر أمر تعييني برتبة “رئيس (نقيب)” ولكن بلقب “كفؤ ركن” الذي كان يُمنَح للضباط الفاشلين في دورات الأركان!!! وبمنصب ضابط ركن الإدارة مطلع عام (1940) لدى مقر لواء المشاة/14 المشكّل حديثاً في معسكر “الديوانية” ضمن نظام معركة فرقة المشاة/1 المناطة إليها مهمات الدفاع عن جنوبيّ العراق… ورغم محاولاتي العديدة لرفع الغبن الذي أصابني من دون جدوى فقد رضختُ لواقع الحال وعملتُ بإخلاص لأكثر من سنة، وقتما كانت الحرب العالمية الثانية قد أمست على أشُدِّها وتعاظمت في ميادينها الأوروبيات، مع تساقط دول عديدة كالورق أمام سيول الزحف الآلماني الجارفة.
وخلال عام (1940) والربع الأول من (1941) تصاعدت مواقف حكومتنا حيال “بريطانيا العظمى” إثر تبوّء السيد “رشيد عالي الكيلاني” رئاسة الوزراء وميله الواضح نحو “آلمانيا النازية” إثر إنتصاراتها الهائلة في جميع ميادين الحرب العظمى الثانية، وسقوط “بولندا، هولندا، بلجيكا، وفرنسا” بيد الآلمان الذين أتوا بقواتهم ونشروها في أرض جارتنا “سوريا” وباتوا متاخمين للحدود العراقية، وذلك فضلاً عن إيواء “رشيد عالي” لمفتي فلسطين المحتلّة “الحاج أمين الحسيني” المعروف بعدائه للإحتلال البريطاني لبلاده وتواؤمه مع الآلمان
وإناطة “رشيد عالي” لمناصب قيادية عالية لضباط في مقتبل العمر برتبة “عقيد ركن”، فيما لجوء “الوصي عبدالإله” وأبرز قادة الدولة إلى الإنكليز في “قاعدة الحبانية” وإنتقاله إلى “البصرة” التي أُنزِلَت في موانئها قوات بريطانية.
ووقتما تشكلت “حكومة الدفاع الوطني” في “بغداد” برئاسة “رشيد عالي”، حتى إنفلقت حرب -غير متكافئة بالمرة- فجر (2/5/1941) في قاطع “الحبانية” بين العراق ((المتواضع بإمكاناته وقدراته)) قبالة بريطانيا ((العظمى)) جراء تقادير مواقف المسؤولين -المتهوّرة وغير المنطقية- من الناحيتين السياسية والعسكرية… فإندفعت وحدات من الجيش البريطاني -وتحت إمرتها وحدات أردنية بقيادة “كلوب باشا” وأُخرَيات عراقيات من تشكيلات “الليفي” شبه النظامية وبإسناد غزير وفعال من الطائرات البريطانية- من “قاعدة سنّ الذُبّان” نحو “الفلوجة-الثرثار” بغية إختراق “بغداد” من شماليّها، ولكن المقاومة العنيفة التي أبداها الوحدات التي كانت تحت قيادة “العقيد مصطفى راغب” -آمر اللواء/19- الفرقة/3 قد أوقفت تقدم الإنكليز وأرغمتهم على التراجع وجعلتهم يغيّرون وجهتهم -بمعاونة فصائل مسلَحة من “الكرمة والفلوجة”- للتقرب نحو “بغداد” من ناحية “أبي غرَيب”، فباتوا على أبواب العاصمة خلال (3) أسابيع لتضطرب أمور العباد وتنعدم سطوة الدولة وتسود الفوضى كل البلاد جراء هروب أولئك القادة السياسيين والعسكريين ((الثوريين)) من مسؤولياتهم وقياداتهم في أواخر (مايس-آيار/1941) لاجئين بشخوصهم -من دون خجل ولا إستحياء- إلى “إيران”، تاركين حتى أفراد عوائلهم تحت سطوة هذا وذاك.
الموقف في جنوبيّ الوطن
أنـا:- والله مأساة يا عم عمر… فذلك الموقف العام لعموم العراق، فلنركز على ما يهم قاطع لوائكم.
عمر علي باشا:- حسناً.. أما بخصوص قاطع لوائنا/14، فقد كُلِّفنا بحماية “لواء (محافظة) الديوانية” وقضاء “السماوة” مع الإستحضار لمواجهة أية قوة معادية قد تتوجه من “الحبانية” نحونا من إتجاه “الفلوجة- جرف الصخر- كربلاء”… ولكن ذلك لم يحدث، فقد كانت “بغداد” وإسقاط “حكومة الدفاع الوطني” الهدف الأهم للبريطانيين، وسيأتون على الباقي تباعاً.
ففي أقصى الجنوب وبينما كانت أفواجنا منتشرة بمواقع متفرقة في عموم قاطع مسؤولياتنا، أُخبِرنا أواسط شهر (مايس/1941) بإنطلاق أحد الأرتال البريطانية -التي أكملت إحتلال “البصرة”- من “قاعدة الشُعَيبة” نحو “سوق الشيوخ” وعلمنا بتقرّبه بإتجاه “الناصرية-البطحة”.
فعزمنا مع آمر اللواء ومقدم اللواء وآمري الوحدات -ومعذرة لعدم ذكر إسمائهم- على عدم إنتظار القوات البريطانية كي تقتحمنا في عقر ديارنا، وقررنا ترك مقرنا في “معسكر الديوانية” لنفتحه جنوبي “الرميثة” بإتجاه “السماوة” لنقود المعركة هناك، فتم ذلك يوم (21/مايس).
باليوم التالي أعدنا ترتيب أفواجنا الثلاثة وما تيسّر من المدفعية والوحدات الأخرى شيئاً فشيئاً على شكل مجاميع صغيرة متفرقة إتّقاء غارات جوية بريطانية محتملة بعد إحكام سيطرتها على كل أجواء العراق ومحوها جميع قوتنا الجوية الفتيّة المتواضعة، ناهيك عن عدم إمتلاك لوائنا أي وسيلة دفاع جوي سوى الرشاشات، وفضلاً عن عدم وجود أية وسائل للإتصال اللاسلكي مع وحدات تابعة لألوية أخرى حوالَينا قد تفيدنا للإنذار المبكّر عن تقرّب طائرات نحونا… وقد زرنا معظم وحداتنا وإرتحنا -بعض الشيء- لإستحضاراتهم قبل أن ينصحني آمر اللواء ليلاً بأن أنال قسطاً من الراحة كون الإرهاق بائناً على مُحيّاي، فرقدتُ في نوم عميق.
غياب آمر اللواء وآمري الوحدات
ولكن المفاجأة حصلت فجر (23/مايس) وقتما نهضتُ لأجد آمر اللواء ومقدم اللواء قد تركا المقر بسيارتهما العسكرية، وتصورتُ بالوهلة الأولى أنهما خارجان لتفقّد الوحدات… ولكنهما لم يعودا حتى بلغت الساعة العاشرة.
هاتفتُ آمري أفواج المشاة المنتشرة فلم يجبني أحد، وأمرتُ عامل الجهاز اللاسلكي بإستحصالهم من دون جدوى، فهرعتُ إلى مقراتهم لآكتشف أنهم جميعاً قد غادروها بعد منتصف الليل، وكأنهم متفقون على شيء ما!!!!
أنـا:- هل تقصد أنهم هربوا؟؟؟
عمر علي باشا:- نعم هربوا جميعاً عن سبق إصرار وترصّد… لذلك أصابني الفزع في كاهلي مصحوباً بإحباط عميق، ولكني لم أنتظر طويلاً كي تصيبنا المخازي ويُحبَط جميع اللواء مع إنعدام القيادة والسيطرة، فأسرعتُ بإصدار برقية فورية -من نفسي إلى نفسي ووقعتُها بقلمي- وبعثتُها لجميع الوحدات، لم أنسَ نصها:-
((من: مقر اللواء/14
إلى: الرئيس عمر علي… كافة وحدات اللواء
قررنا ما يلي:
@ قيامكم بواجب وكيل آمر اللواء/14 بصفتكم أقدم الضباط.
@ يكون أقدم ضابط في كل وحدة وكيلاً لآمرها حتى إشعار آخر.
التوقيع الرئيس عمر علي))
كنتُ عازماً في قرارة ذاتي على ضرورة منع القوات البريطانية -مع توقّعنا عدم تملّكها معدات هندسية للتجسير السريع- من إجتياز نهر الفرات نحونا عبر هذا المانع المائي العريض، ولـمّا كنتُ قد تعرّفتُ من قبلُ على عموم المنطقة وإستطلعتُها ضمن مسؤولياتنا، فمن المؤكد أن أعُدّ “جسر السماوة” ((الأرض الحيوية الأهم ضمن قاطعنا)) والتي ينبغي مسكها بقوة وعدم إفلاتها من بين أيدينا مهما بلغ الثمن، لذا دفعنا قوة صغيرة إلى أقصى الأمام -حيث بلدة “الخضر”- للإخبار المبكّر عن تحركات العدو وأرتاله، يعاوننا العديد من أهالي المنطقة الممتلكين للخيول والجمال، فيما إتخذ فوجنا الأول موضعاً دفاعياً على الضفة البعيدة (الغربية) للنهر وعلى أوسع جبهة ممكنة وعلى شكل مواضع متعاقبة ومتساندة برشاشات “فيكَرس” لفرض أقصى تأخير ممكن على المتقدمين، مع إفراز “ميمنة وميسرة” لتفادي إحتمالات الإحاطة والتطويق، وأن لا يتراجع هذا الفوج عبر النهر إلاّ عند الإضطرار وفقاً لخطة إنسحاب دقيقة، سواء سباحةً أو بقوارب الأهلين الذين سلّموها لنا طواعية، فيما أجبَرنا سواهم على ذلك عنوة خدمة للمجهود الحربي.
أما فوجنا الثاني فقد إنتشر على جبهة واسعة على الضفة القريبة (الشرقية) ليكون ظهيراً للفوج الأول ويستر إنسحابه عند إضطرارنا لإتخاذ القرار الضرورة… أما الفوج الثالث فقد قسّمتُه إلى (3) أجزاء إحتفظتُ بها -مع ما توفّر لديَّ من الخيالة- (إحتياطاً) تحت إمرتي المباشرة، لأستطيع تحريك أياً منها إلى حيث الموقف الأخطر.
إنقضى أسبوع على تمركزنا حوالي “السماوة” من دون حادث يُذكَر، وقتما أُعلِنَ عن إحاطة البريطانيين لـ”بغداد” من ثلاثة إتجاهات يوم (31/5/1941) وفرض الهدنة على “العراق” وإعادته تحت إحتلالهم، وقتما تسلّمنا برقية من مدير الحركات العسكرية -العقيد الركن نورالدين محمود”- بوقف إطلاق النار بإنتظار تسليم أسلحتنا للبريطانيين.
ولكني قررتُ مع ذاتي إستحالة الإستسلام الـمَهين وتسليم الأسلحة الأعظم إهانة من دون قتال.
مواجهة البريطانيين في “البطحة-السماوة”
مساء اليوم ذاته شوهدت طلائع البريطانيين حوالي بلدة “البطحة” جنوبيّ “الخضر” ولـمّا فوجِئوا بنيران قوة المراقبة وتحرّك البعض من خيالتنا إنتشروا وتفرّقوا قبل أن نأمرها بالتملّص وقطع التماس معهم، ولكن ذلك جعل البريطانيين يتحركون بحذر لدى تقدّمهم في اليوم التالي (1/6/1941) نحو “السماوة” حيث كنا مستحضرين لمقارعتهم.
ومع الظهر دارت معركة طاحنة بدعم جوي بريطاني خفيف، لم نخسر فيها الكثير لحصانة مواضعنا الدفاعية وإنتشارها حتى توقف القتال مساءً قبل أن يتجدد في الصباح الباكر لليوم التالي (2/6/1941) بهجوم كثيف مُسنَداً بالمدفعية والطائرات إستغرق حتى العصر من دون أن نضطر لسحب ولو جندي واحد من الفوج الأول عبر “نهر الفرات” رغم الشهداء والجرحى.
أمر شخصي من “نورالدين محمود”
بعد منتصف الليل جاءني “ضابط إرتباط” من وزارة الدفاع -يرتدي ملابس مدنية- حاملاً كتاباً “سرياً وشخصياً” بتوقيع “العقيد الركن نورالدين محمود” -مدير الحركات العسكرية- وقد كتب بخط يده وبتوقيعه عبارة:- ((يُسَلَّم بيد الرئيس عمر علي ويُفتَح من قبله شخصياً))… وقد نصّ على:-
((أوقف النار -يا عمر علي- فوراً من دون مناقشة تنفيذاً للهدنة، وإسحب اللواء إلى “الديوانية”)).
فأجبته بخط يدي وتوقيعي:-
((حضرة مدير الحركات العسكرية المحترم
العدو تقدم نحونا وهاجمنا بعد الهدنة.
أنا جاهز لوقف إطلاق النار منذ هذه اللحظة تنفيذاً لأمركم شريطة إلتزام العدو بذلك.
لكني أرفض تسليم أي سلاح إلى أي أحد… ولا أباشر بسحب اللواء/14 حتى أرى القوات المعادية قد إنسحبت بعيداً وغابت عن أنظاري)).
وفعلاً تأكدتُ بأمّ عينَيَّ بإبتعاد البريطانيين عن حوالَيّ “السماوة” مع ظهيرة يوم (3/حزيران) حتى غابوا عن الأنظار، فأصدرتُ أوامري إلى الفوجين الخلفيين بالتهيؤ للإنسحاب مع صبيحة (4/حزيران)، قبل أن يؤكد لنا الخيالة والجمّالة المتعاونون معنا، أن القوة البريطانية باشرت بالتنقل نحو “الناصرية”، وعندئذ أمرتُ الفوج الأول (الأمامي) بالإنسحاب تاركاً قوة مراقبة جنوب “جسر السماوة” لعدة أيام.
أنـا:- وكم إستمر بقاؤك لوحدك في مقر اللواء؟؟
عمر علي باشا:- بعد يومَين من عودتنا إلى “معسكر الديوانية” ((تشرّفنا)) بعودة آمر اللواء ومقدم اللواء معاً إلينا، فلم تراودني نفسي أن أستقبلهما أو أُسَلّم عليهما، بل قاطعتُ حتى مطعم الضباط وفضّلتُ تناول وجبات الطعام في مكتبي، ومن عظم معرفتهما بما إقترفوه فإنهما -وكذلك آمرو الأفواج الثلاثة الغائبون- لم يجرأوا على زيارتي طيلة أيام (حزيران/1941).
القصة المثيرة لإعادة “عمر علي” حقوقه؟؟؟
أنـا:- من المؤكد -يا عم عمر- أنك ستأتي على موضوعة إعادة حقوقك؟؟
عمر علي باشا:- نعم، فتلك قصة أثارت مشاعري ولم أنسَها منذ ربع قرن إنقضى.. فقد كان كل إعتقادي أن وزير الدفاع “نظيف باشا الشاوي” ورئيس أركان الجيش “الفريق الركن محمد أمين العمري” ومن ورائهما المتنفّذ في أمور العراق “نوري باشا السعيد” -والمظلوم بوصفه جُزافاً بالعمالة للإنكليز- سوف يحاسبونني عسيراً لموقفي خلال تلكم الأيام، في حين كان ((الآمرون الغائبون)) على قناعة تامّة بأنهم سيُكَرَّمون لمواقفهم في ذات الأيام….
فبعد عدة أسابيع وحالما إستقرّت أوضاع البلاد، وردتنا برقية طويلة صادرة من وزارة الدفاع تحتوي أسماء العشرات من الضباط المنتمين لكل فرق الجيش من رتبة “رئيس (نقيب)” فما فوق يتطلب حضورهم في ديوان وزارة الدفاع، ومن بينهم آمر لوائنا ومقدم اللواء وآمرو الأفواج الثلاثة وأنا معهم.
مطلع شهر (تموز/1941) حضرنا جميعاً بمبنى ديوان الوزارة، فخرج علينا أحد العاملين فيه ليتلو أسماءً أمَرَ معالي الوزير وقوفهم على الجانب الأيمن من الباحة -وكنتُ مع صديقي “سيد حميد سيد عمر” الآتي من معسكر “البصرة” من بينهم- أما الآخرون فعليهم الوقوف على الطرف الأيسر -وكان آمر لوائنا والآخرون ضمنهم.
تصرّف “نوري باشا” تجاه الضباط المحاربين للإنكليز
أطلّ علينا معالي الوزير “اللواء الركن المتقاعد نظيف باشا الشاوي” بقامته الرشيقة وبصحبته “الفريق محمد أمين العمري” يتقدّمهما “نوري باشا السعيد” -الذي قيل أنه أسرع بالعودة من “القاهرة” إلى “بغداد” لهذا الغرض- فتقرّبَ نحونا بوجه مبتسم، وفاجأنا بإحتضانه إيانا وطبعه قبلة على جَبين كل منا واحداً تلو الآخر، حتى وقف قبالتنا -أنا وسيد حميد- وأوعز لنا:- ((عمر وحميد… شدّا شارة الركن اليوم، وإستلما شهادة تخرّجكما من كلية الأركان مع الأمر الوزاري بمنحكما القدم الذي تستحقان)).
تهجّمه على مجموعة المتخاذلين
وحالما إنتهى “الباشا” من مجموعتنا عاد لينتصب على علوّ موجّهاً كلامه الموجِع إلى (الطرف الأيسر) باصاقاً نحوهم ثلاثاً -بغضب وإهانة- قبل تلفّظه باللهجة العامّية:-
((تفو تفو تفو عليكُم كُلكُم يا (…….) ويا (…….)… ولكُم خَزّيتونا… وُلكُم عرفنا خريانكم على شرفكم العسكري… كان تنجَبّون ببيوتكم وبحُضُن نسوانكم… ولكُم ليش بأحضان الإنكليز… كان أخذتو نسوانكم وخواتكم وياكم للإنكليز حتى تكمّلون فضلكم عليهم؟؟!! لعنة الله عليكم واحد واحد، وأنا أعرف شراح أسوّي بيكم… لعنة على شرفكم… لعنة على غيرتكم، يا ((وِلدِ الــ………………….)).
مصير الضباط الغائبين
أنـا:- موقفك فروسيّ ينمّ عن وفاء غير مُستغرَب يا عم… ولكن ماذا حلّ بأولئك الضباط الغائبين؟؟؟
عمر علي باشا:- عادوا من وزارة الدفاع إلى تشكيلاتهم، وظلّوا لأيام معدودات خائبين ومسشعرين بالخزي والمهانة، لا سيّما وأن حديث “نوري باشا” قد شاع كالنار في الهشيم بين ضباط الجيش في كل أصقاع الوطن… ولكنهم لم يُطرَدوا من الخدمة -ولربما بتأثير الإنكليز- بل صدرت قوائم سريعة بإحالتهم على التقاعد وفقاً لفقرة ((عدم الكفاءة))، من دون أن تتأثر ملاكات التشكيلات والوحدات، فقد قرر البريطانيون -الذين أعادوا “العراق” تحت إحتلالهم- تقليص عدد فرق الجيش من (أربع) إلى (إثنتَين) فقط، فذهب أولئك إلى بيوتهم وإنتهى الموضوع.
مكرمات “عبدالكريم قاسم” للضباط المتخاذلين
وإختتم العم “عمر علي باشا” حديثه مُستهزِئاً:-
<<<<ولكن عدداً من أولئك المتخاذلين -بعد إنقلاب (14/تموز/1958)- قدّموا عرائض إلى “عبدالكريم قاسم” زاعمين أن “نوري السعيد” أخرجهم من الجيش لكونهم ((ضباطاً وطنيين قارعوا الأنكليز خلال مايس/1941)) فأُحيلوا على التقاعد بأعمار مبكّرة.. والمستغرَب أن ينال البعض منهم شيئاً من مَكرُمات (الزعيم الأوحد) رغم معرفته بتلك الأحداث ومعايشته لها، فقد كان “كَرّومي أفندي” -عام (1941)- ضابطاً برتبة “رئيس (نقيب)” وتلميذاً بالدورة السابعة في كلية الأركان.
عيش وشوف فسترى الكثير من هذه (الخُزَعبَلات والتُرّهات) يا ولدي “صبحي”>>>>.

أحدث المقالات