23 ديسمبر، 2024 12:33 ص

شئ عن جريدة ( برافدا) الروسيّة

شئ عن جريدة ( برافدا) الروسيّة

عندما كنت قبل أيام أشتري الصحف الروسية – كما أفعل يوميا – ألقيت نظرة عامة على الصحف الكثيرة جدا المعروضة امامي , ووقع نظري – بالصدفة – على صحيفة ( برافدا ) الشهيرة , وهي نادرا ما تكون معروضة في الوقت الحاضر بين الصحف الروسية , فطلبت من بائعة الكشك ان تضيف تلك الجريدة الى الصحف التي طلبتها , وذلك لانني أردت ان أطلع عليها متذكرا تلك الايام الخوالي , عندما كنّا نشتريها يوميا بسعر كوبيكين اثنين فقط ( الروبل الواحد يساوي 100 كوبيك) ايام الدراسة في الاتحاد السوفيتي في ستينات القرن العشرين , وهكذا بدأت بتقليب صحيفة ( برافدا ) من جديد وانا ابتسم , بعد أكثر من 50 سنة تقريبا من القراءة اليومية لها آنذاك , حيث كنت افتح رأسا الصفحة الثالثة فيها لأقرأ اخبار العالم باحثا – قبل كل شئ طبعا – عن اسم العراق واحداثه , وغالبا ما كانت تلك الاخبار شحيحة جدا جدا عندئذ …
عندما مسكت العدد الجديد من جريدة برافدا , تذكرت رأسا صديقي المرحوم أ.د. محمد يونس ( استاذ الادب الروسي في جامعة بغداد والباحث والمترجم الكبير ) , الذي جاء اليّ مرة وقال لي , انه يمتلك نسخة من العدد رقم (1 ) من جريدة ( برافدا ) , الصادر العام 1912 , وانه يعتز به جدا , ولكن – واقعيا – لا احد يمكن ان يطلع عليه في مكتبته الخاصة به في بيته , وانه يريد ان يهديه الى مكتبة قسم اللغة الروسية في كلية اللغات , ولكنه يخشى ايضا ان ( ينام !) هذا العدد بين طيّات الكتب ورفوفها , وتناقشنا حول الموضوع تفصيلا , واتفقنا ان نؤطّر ذلك العدد التاريخي والفريد بالنسبة للعراق ( وليس فقط للعراق ) ونعلّقه على جدار المكتبة عند مدخلها , وهذا ما تمّ فعلا . وهكذا اصبح هذا العدد معروفا لجميع اساتذة القسم وطلبته , وكنّا نلفت اليه نظر الوفود الروسية التي غالبا ما كانت تزور قسمنا ونتفاخر به , وكانت تلك الوفود تتعجب من رؤية العدد الاول من هذه الجريدة المشهورة لديهم معلّقا على جدار مكتبة قسمنا في جامعة بغداد , واذكر ان احد اعضاء تلك الوفود قال لي مرة , انه توقع ان يرى (مختلف الاعاجيب في بغداد , اذ انها بلاد الف ليلة وليلة !) , الا انه لم يخطر بباله ابدا رؤية العدد الاول لجريدة ( برافدا ) , والتي لم يشاهدها في بلده نفسه. لقد احترقت مكتبة قسم اللغة الروسية – مع الاسف الشديد – باكملها العام 2003 عند الاحتلال الامريكي لبغداد , وتحولت الكتب المنهجية لتدريس اللغة الروسية وكذلك المعاجم والقواميس الروسية – العربية و مؤلفات بوشكين وغوغول ودستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وبقية ادباء روسيا العظام الى رماد , بما فيها طبعا ذلك العدد التاريخي الفريد من جريدة ( برافدا ) ..
كانت صحيفة برافدا في الاتحاد السوفيتي هي الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوفيتي , وكان اسمها على لسان كل شيوعيي العالم طبعا , بما فيهم العرب , بل و اني سمعت , ان أحد الشيوعيين في العراق اطلق على ابنته اسم ( برافدا ) , وهكذا اصبحوا ينادونه – ( ابو برافدا !) على الطريقة العراقية , ويقال انه كان فخورا جدا – وطوال حياته – بهذه التسمية .
رافقت جريدة برافدا كل تاريخ الحركة الشيوعية الروسية قبل ثورة اكتوبر 1917 , واستمرت بمسيرتها بعد الثورة , واصبحت في الاتحاد السوفيتي سجلّا خالدا لتاريخ تلك الدولة ومسيرتها اليومية بكل احداثها و تفاصيلها , وكانت تمتلك امكانيات مادية واسعة جدا , ووصلت عدد نسخها في السبعينات الى اكثر من عشرة ملايين نسخة يوميا , وكانت توزع صباحا في المدن السوفيتية كافة رغم ان مساحة الدولة السوفيتية كانت تشغل سدس الكرة الارضية كما هو معلوم , بل اننا كنّا نراها يوميا معلّقة في الكثير من المناطق السكنية ومحطات الباصات والشوارع العامة في موسكو . انحسرت اهمية هذه الصحيفة بعد انهيار دولة الاتحاد السوفيتي , ولكنها استمرت بالصدور ناطقة باسم الحزب الشيوعي في روسيا الاتحادية , وبنفس التصميم ونفس الاسلوب الحزبي الصارم جدا , الا انها لم تعد تطبع اكثر من 100 الف نسخة باليوم , وأخذت تصدر ثلاث مرات اسبوعيا ليس الا.
جريدة ( برافدا ) واحدة من صحف العالم العريقة , وهي تستحق الدراسة من قبل العرب المهتمين بالشأن الروسي في الماضي والحاضر والمستقبل ايضا…