18 ديسمبر، 2024 5:55 م

سي السيد وفلسفة اليمين المحافظ

سي السيد وفلسفة اليمين المحافظ

شخصية السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ قد أصبحت كناية للرجل المحافظ في الثقافة العربية، ورغم الاختلاف في نزعات وأفكار سي السيد من ناحية التمسك بالنمط التقليدي للحياة الاجتماعية عن نظراءه من المحافظين في اوربا وأميركا – بحكم تباين الثقافة الاجتماعيه وفارق التطور المدني – إلا انها تنتظم في سياق فكري واحد أو متشابه، أي أن سي السيد لم يكن ظاهرة عربية أو عالمثالثية متفردة، عدا أنه لا يتبنى أجندة سياسية سوى انه كان محباً لوطنه الذي فقد ولده شهيداً في سبيل استقلاله، أما نظراءه المحافظون في البلدان المتقدمة فان الحنين الى ذلك العالم البطرياركي الذكوري في الحياة الاجتماعية التقليدية لا يشكل إلا جزءا من أجندة سياسية خطيرة معادية للديمقراطية و التعايش السلمي بين الاعراق والشعوب المختلفة.
– يبسط سي السيد – الذي عاش قبل ثورة عرابي عام ١٩١٩ م – سلطته الدكتاتورية على العائلة وخاصة على زوجته المهمش دورها تماماً، والتي لا تجرؤ على ابداء أي رأي أو اعتراض في شأن ما. شهدت تلك الفترة ايضاً نشاطا محموماً لليمين المحافظ في بريطانيا واميركا لتهميش دور المرأة عبر توظيف الدين ورمنسة القيم الاجتماعية التقليدية، و ركزت تلك النشاطات على منع حصول المرأة على حق التصويت، وقصر دورها على الاعمال الخيرية والتعليم ورعاية الزوج وتنشئة الاطفال على القيم المسيحية و الحفاظ على تماسك الاسرة، وقد انشئت لهذا الغرض مجموعة من المنظمات ( النسوية)، كان من أبرز حملاتها العريضة التي قدمتها ماري وورد و الموقعة من قبل ربع مليون امرأة، تطالب البرلمان البريطاني بعدم تمرير تشريع حق المرأة في التصويت.
وراء تباكي تلك المنظمات على الدور الاسري للمرأة، يختفي جوهر خطابها الطبقي والتي عبرت عنه بوضوح مدام سكوت قائلة ( اذا ما دخلت المرأة عالم السياسة، ستنشأ بالضرورة منظمات نسوية معادية للرجل، وهو أمر خطير، بل أسوأ من صراع العمل ضد راس المال)، من الجدير بالملاحظة أن مدام سكوت لم تعلن عن اسمها إصراراً منها على تابعيتها لزوجها.
بينما كانت تلك المنظمات اليمينية تمارس نشاطاتها بحرية، تعرضت المناضلة ايما غولدمان للاعتقالات المتكررة لمطالبتها بتشريع قانون يسمح للمرأة استخدام موانع الحمل، فاليمين المحافظ لا يرى أحقية تحكم المرأة بجسدها، وهذا ما يفسر هوس اليمين المعاصر بدعم وتمويل القضاة و السياسيين الذين يتعهدون بالعمل على الغاء حق الاجهاض القانوني في اميركا، وقد كان تعيين القاضيين الأخيربن في المحكمة العليا من أهم إنجازات اليمين في هذا الشأن على يد ترامب.
رغم اضطرار اليمين المعاصر للتناغم مع الحداثة والتطور المدني، لم يطرأ على خطابه الفكري تغيير كبير عدا صياغاته اللغوية، فقد كتبت المحامية فيليس شليفلاند _ المقربة من رونالد ريغان_ : أن المرأة اليوم تتمتع بحقوق تفوق ما للرجل و واجبات أقل مما عليه، و اولئك المطالبون بتحريرها انما يريدون حرمانها من رعاية الزوج وحمايته. وفي مقابلة تلفزيونية صرحت بانها ستترك اي نشاط خارج البيت اذا ما رأى زوجها ضرورة بقاءها في المنزل.
– يعيش سي السيد نمطي حياة متناقضين، فهو تقي ورع يحضى باحترام وتقدير من حوله فى حياته العلنية، بينما يقضي سهراته السرّية بين المومسات وطاولات القمار و الخمور. تلك الازدواجية شائعة ايضاً بين رموز اليمين المحافظ، ليس حكام العراق وايران و السعودية فقط بل في اوربا واميركا أيضاً، فالفساد والفضائح الجنسية مع دعوات الحفاظ على الارث الديني لم تعد حالات فردية، بل ظاهرة طالت الكثير من رموز المحافظين من رجال الدين والسياسة والاعلام.
– إذا كان للسيد أحمد عبد الجواد رؤية سياسية فهي لا تتعدى كونه وطنياً، أما نظراءه من المحافظين في دول المركز فقد ابتعد لديهم مفهوم الوطنية عن بعده الانساني، ليستحيل الى استعلاء قومي وعرقي متعجرف، يهدف الى اخضاع الشعوب.
– بتفكيك مفردات الفكر اليميني الغربي منذ مؤسسه الاول ادموند بيرك بالقرن الثامن عشر الى اليوم، سنكتشف أن دعاوى حماية الارث التاريخي و الديني والاجتماعي إنما يهدف في جوهره الى الابقاء على التوزيع الهرمي للسلطة حسب مبدأ البقاء للأقوى
صب ادموند بيرك جام غضبه على الثورة في كتابه المعنون “تأملات في الثورة الفرنسية” والذي أصبح انجيلاً للفكر اليميني المحافظ . من منظور بيرك ان (الثورة الفرنسية قد اربكت الحركة الطبيعية للتاريخ، واحدثت فيه شرخاً كبيرا )، لماذا؟ لأن المجتمع بهيكليته الهرمية كنظام سياسي واقتصادي بمؤسساته الدينية والاجتماعيه وقيمه وتقاليده يشكل نسيجاً متماسكاً ومنظومة مستقرة، وهي محصلة تراكمية لتجارب وأفكار وحكمة أجيال متعاقبة، ولذا يجب المحافظة عليها، واذا ما دعت الحاجة الى بعض التغييرات فيجب ان يتم ذلك عبر الاصلاح البطئ والمتأني. كان بيرك يسخر من عقد جان جاك روسو الاجتماعي، ويستهين بلائحة حقوق الانسان والمواطن الصادرة عن الثورة عام ١٧٨٩ م، فهو ينفي ان يكون ما يتمتع به المواطن من حريات هو حق طبيعي للأنسان، بل حق يمنحه أو يحجبه الحاكم حسب الضرورة، وهو لا يرى استقراراً للمجتمع في منح العامة حق المشاركة في السلطة، والتي يجب ان تبقى بنظره حكراً على الملك والنبلاء والكنيسة ( نحن مصممون على ديانة مرسخة قانوناً، ونظام ملكي مرسخ قانوناً، و ارستقراطية مرسخة قانوناً)، ويؤكد مراراً على حق حيازة السلطة والامتيازات بحكم النسب العائلي للنبلاء والاغنياء الذين ولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب ( بعض الافضليات والامتيازات التي يكسبها المرء بالولادة ليست أمراً غير طبيعي أو غير عادل أو غير سياسي).

توصل المفكر كوني روبن الى ان دعوات اليمين المحافظ للحفاظ على تماسك الأسرة وبكائياتهم على التقاليد والقيم الدينية والاجتماعية ليست هي حقاً جوهر خطابهم الفكري بل أن الهدف الاساسي لأجندتهم هو الحفاظ على السلطة للفئات التي تتمتع بها ضمن البناء الهرمي، نظام بطرياركي ذكوري يضمن سلطة الاب وتهميش دور المرأة وتابعيتها للزوج، هيمنة سلطوية للدولة على المواطن باسم الامن القومي، صلاحيات موسعة للشرطة تحت غطاء حفظ النظام، سلطة مفرطة وهيمنة سياسية واقتصادية لرأس المال بدعوى النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل، استعلاء العرق الابيض باسم الحفاظ على الموروث الانكلوسكسوني ” كما عبر صراحة وزير العدل الامريكى الحالي” (ربما للتعويض عما فقده الرجل الابيض من سيادة في فترة ما بعد العبودية ) ….الخ، وقد كان ادموند بيرك أكثر صراحة مما يردده المحافظون المعاصرون حين عبر عن رعبه من الثورة الفرنسية التي شجعت – حسب تعبيره – ( على تمرد الرعية على الملك، والفلاحين والعبيد على أسيادهم، والابناء ضد آباءهم، والزوجات ضد ازواجهن، و العامة ضد رجال الدين). وقد عارض بيرك بشدة مشروع قانون لزيادة اجور الفلاحين لاعانتهم على تجاوز الأزمة الاقتصادية، فمن منظوره: من واجب الدولة حماية ملكية الارض وارباح مالكيها، أما قوة العمل فهي سلعة خاضعة لتقلبات السوق، ولا يحق للدولة التدخل فيها، وهذا ما يفسر معارضة اليمين المعاصر لبرامج إعانة الدولة للفقراء، بينما يتحمسون في تأييد تدخل الدولة لدعم المصارف والشركات الكبرى بمليارات الدولارات لانقاذها من الانهيار خلال الأزمات الاقتصادية، وتقديم المعونات المالية من أموال دافعي الضرائب لدعم منتوجات الزراعة والصناعة دعماً للرأسماليين لتمكينهم من المنافسة في السوق العالمية، وتخفيض الضرائب على أرباح الشركات وما إلى ذلك.
يعترض البعض على تصنيف بيرك ضمن فلاسفة الثورة المضادة، بدعوى انه ساند الثورة الامريكية، متناسين ان الثورة الامريكية قد حرصت على ابقاء السلطة بيد ملاك العبيد أو من يسميهم بعض المؤرخين ارستقراط دون ألقاب نبلاء او لوردات، اي انها ثورة سياسية محافظة لم يشأ قادتها إحداث تغييرات جذرية في مجال إعادة توزيع السلطة او الثروة، الأمر الذي كان مطمئناً لبيرك.
لفتح مغاليق ايديولوجيا اليمين المحافظ علينا ان نتذكر دوماً كلمة السر: السلطة للأقوى، البقاء للأقوى.