في كل زمان ومكان تقيم المشاريع والإعمال على ضوء النتائج وعلى أساس التأثير والتأثر في المنظور البعيد ، ولكن الأهم قبل ذلك في المشاريع الإصلاحية والدعوات الرسالية الإلهية هو توفر النية الصادقة بالإصلاح للفرد والأمة ، ولذلك كانت النتائج المترتبة ومقدار التفاعل ليس مسؤولية المصلح والمصلحين وإنما يوفى أولئك أجورهم كاملة وزيادة دون أن يمس من أجورهم نقص أو ظلم نتيجة عدم أدراك وفهم الأمة للمشروع الإصلاحي أو قلة وعيها بأهداف وخصائص المشروع الرسالي .
ولعل المشكلة التي واجهها الأنبياء والأئمة والمصلحين على طول مسار التاريخ هو جهل الناس بادراك أهداف مشروعهم الإصلاحي وانقياد الجهلة وهم الأكثرية إلى مكر وحيل طلاب الزعامة الذي يتبوءون مقعد القيادة بغير حق وإنما يجعلون كل الوسائل متاحة لبلوغ الهدف النهائي والمتمثل بالقيادة حتى وأن كان ذلك على حساب الشريعة والدين .
لذلك كان إبليس العاصي المتمرد حاضر في كل المفاصل والمنعطفات التاريخية لتجسيد شخصيات متعددة على صعيد الإنس والجن في سبيل ضمان استمرار مشروعه الخبيث في إقصاء القيادة الحقيقية والتمهيد لتمكين أشباه القيادات لتزعم المشروع الإسلامي بدءً من سقيفة بني ساعدة التي أسس لها لتكون دستورا للظالمين والمنحرفين على مدى التأريخ في استلاب الزعامة وتهميش وإقصاء القيادة الحقيقية المتمثلة بوصي رسول الله (صلى الله عليه واله) الإمام علي (ع) ولتكون نتائج ذلك الانقلاب الانحراف والتحريف في معالم الشريعة ومقاصد الرسالة إلى يومنا الحاضر .
من هناك اختار سماحة المرجع اليعقوبي الذكرى السنوية لشهادة السيد الصدر الثاني (قده) خطابا وكلمة بعنوان (ولقد صّدق إبليس ظنه فأتبعوه .. انقياد الناس لغير المؤهلين للمرجعية والقيادة نموذجاً ) لتذكير الأمة بضرورة الاستيقاظ من غفلة الانقياد إلى القيادات الساكتة والمتقاعسة عن ممارسة دورها ووظيفتها والالتفات إلى القيادة الحقيقية الحركية الناطقة كما عبر عنها السيد الشهيد الصدر(قده) ودفع ثمنا باهضاً إزاء بيانها وتشخيص معالمها وصل إلى أن ( ناصبوه العداء وأخرجوه من الدين والملّة ) ولم يتوقفوا عن إشهار كل الأسلحة لنسف مشروعه وقتله معنويا حتى لو تطلب الأمر والكيد له تحريض العدو والصديق على التخلص من الصدر الناطق في سبيل الزعامة .
ورغم إن رعاة المشروع ” السكوتي” والمستفيدين منه ظنوا بأنهم تخلصوا من عقدة الصدر والحوزة الناطقة إلى الأبد فأن مكرهم باء بالفشل المريع لأن الصدر خطط وأعد مشروعا بديلا وطبخ ذلك المشروع كما يعبرون على نار هادئة لكيلا تتركز الأنظار إلى مشروع البديل ويتعرض إلى الاغتيال قبل تصفية الصدر وبذلك يتحقق ما يخطط له الشيطان وجنده إلا إن الصدر كان ملتفتاً وواعياً لمكر الشيطان وجنده ومؤمناً بنفس الوقت بأن مكرهم سوف يزول ويضمحل أمام مكر خير الماكرين {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وهو ما تحقق إكراما للصدر ومشروع الحركة الرسالية الناطقة.
ورغم أن المنهج التقليدي هو الذي اختار أسلوب التكاسل والتقاعس والانزواء أسلوبا وطريقة لإدارة شؤون الأمة عن بعد أو بالواسطة فأن توصيفات الصدر لهم بالسكوت كانت مصدر قلق وانزعاج دائم لهم رغم قناعتهم بأن هذا التوصيف هو مصداق لحالهم المزري في إدارة شؤون الأمة ، وربما قد يحصل التوهم في بعض الأحيان لدى البعض بانسلاخ الخط التقليدي المتبوء للقيادة عن غير استحقاق عن منهجه ومنهج إسلافه الغارقين في سبات اختياري وذلك من خلال النفخ في الفخار إلى مستوى يتبين ضخامته للناظرين من مسافات بعيدة إلا إن ذلك الانتفاخ في الحقيقة عبارة عن سراب ووهم او وجود أيدي ليس خفية حركت لعبة الشطرنج وأزاحت الملك أو أدخلت مرجعيات الدوائر المغلقة في حركة التغيير وإنما الإعلام المؤسساتي الموجه هو من يحاول أن يقحم ” العظام” أو الكبار في موجة الحركية وإلا فأن التيار المرجعي المتحرك لم يسكن هديره على مدى التاريخ والشاهد هو موكب المراجع الشهداء منذ إن استولى أدعياء ومتقمصي القيادة خلافة الأوصياء .
ولم يدخر الصدر (قده) جهداً في توضيح المفاهيم وتبيان الحقائق من خلال تشخيص واقع القيادة الدينية وتصنيفها إلى الصنفين ( الناطق) و (الساكت) إلا أن رياح التغيير التي هبت على العراق بعد 2003 يبدوا أنها كانت عاصفة بزخات مطر غسلت عقول الكثيرين حتى من الذين يدّعون الارتباط بالصدر وقيادته و تجلت أوضح صور ذلك التغيير بالتقهقر والسلبية على مستوى اختيار القيادة بالرجوع والانقلاب على مشروع الصدر الذي (هدم مخططات الف عام) كما عبر هو عنه (قدس سره الشريف) والعودة إلى المربع الأول أو نقطة ما قبل الثورة الصدرية والانقياد عن استسلام واستسلاب للقيادات الساكتة .
ورغم الظروف الموضوعية التي شهدها العراق في مرحلة ما بعد التغيير من تحديات جديدة على صعيد النوع والكم وتنوع أساليب الأعداء في الكيد للإسلام والمذهب من خلال التشكيك والتحريف في الدين والعقيدة وإشاعة ثقافة التفسخ الأخلاقي والاجتماعي وصناعة قيادات سياسية أدخلت البلاد والعباد في دوامة اليأس والموت فأن الاتجاه التقليدي أبى إن يفارق منهجه السلبي أو يترك القيادة لمن يمتلك الأهلية والمواصفات لإدارة المشروع الإسلامي وتزعم الحركة الرسالية بل إن سياسة الإقصاء والتهميش والتسقيط أصبحت متعددة الاتجاهات ومتنوعة الأساليب في سبيل تضييق الخناق على المرجعية الرسالية الحركية الناطقة وإنهاء وجودها والقضاء على مشروعها إلا إن الإرادة الإلهية حاضرة للحفاظ على مشروع التمهيد للمصلح العالمي وأمل الإنسانية جمعاء الإمام المهدي (عج) والمتمثل بالمرجعية النائبة الناطقة كما عبر عن ذلك قائد الحوزة الناطقة الشهيد الصدر الثاني (قده).
وفي بيان بعض النتائج التي تترتب على “انقياد الناس لغير المؤهلين للمرجعية والقيادة” ذكر سماحة المرجع اليعقوبي في كلمته بمناسبة الذكرى الخامسة عشر لشهادة الصدر الثاني(قده) مجموعة من النتائج الوخيمة التي تعرض لها سابقا ويتعرض لها حاليا ومستقبلاً المشروع الإسلامي والمجتمع الإسلامي والحركة الرسالية على ضوء التفاف المجتمع حول القيادات السلبية والتي هي كالأتي :
1- تعطيل الفرائض الإلهية : وذكر سماحة المرجع مثلا أسمى الفرائض وأشرفها (فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إلى درجة تصل القطيعة مع هذه الفريضة إلى تعطيلها حتى في معقل الحوزة والمرجعية فضلاً عن غيرها من الأماكن وكما في فريضة صلاة الجمعة التي غُيبت وعطلت لمئات السنين قبل أن تبعث للحياة مجدداً مقترنة بالكفن والشهادة وهذا ما أنتجه تبوء القيادة الناطقة والمتمثلة بالشهيد الصدر الثاني (قده) لإدارة شؤون الأمة .
2- تراجع العمل الاجتماعي للحوزة العلمية إلى درجة الإصابة بالشلل أحياناً : وذلك لأن المؤسسة تستمد عزيمتها من قياداتها سواء بالسلب أو الإيجاب ، فإذا كان رأسها كسولاً وخاملاً ومتقاعساً فأن الحوزة التي تتبعه سوف تكون أكثر سكوتاً وخمولاً وتقاعساً بعكس الحوزة الناطقة التي تتصدى لمواجهة التيارات والحركات المعادية للإسلام وتملأ الأرض بالوكلاء المنتشرين والرساليين العاملين في مؤسسات متعددة.
3- ضعف الحالة الدينية في المجتمع وانتشار الفساد والجهل والظلم وترك الواجبات الشرعية : وهذا النتيجة تترتب نظرا للعاملين الأوليين فإذا تعطلت الفرائض المهمة وتراجعت الحوزة عن أداء عملها وتقاعست عن أداء وظيفتها فأن الانسلاخ عن الشريعة هو النتيجة الحتمية بخلاف ما تبثه المرجعية الرسالية الناطقة من إصلاح وثورة روحية في صفوف المجتمع خلال تصديها للقيادة.
4- خمول الحركة الإسلامية وتعطيل المشاريع الإسلامية : وذلك بأن يتعرض الإسلام كرسالة ومشروع إلى الاغتيال والتشويه بالإضافة إلى غياب المشروع الرسالي أصلا في مفكرة عمل الحوزة الساكتة فكيف نتوقع إذن انتشار المشروع الإسلامي وذلك يتجلى أيضا من خلال انتشار مشروع مدرسة التكفير والإرهاب السلفي كمشروع يمثل الإسلام وبالتالي يتم عرض الإسلام بهذه الصورة المشوهة القاتمة التي تنتج ردة فعل إنسانية توصف اليوم(فوبيا الإسلام) .
بينما تتصدى الحوزة الرسالية والمرجعية الناطقة للايدولوجيات الغربية والشرقية الهدامة ونسفتها في (فلسفتنا) و(أقتصادنا) وطرحت الإسلام كمشروع للقيادة في ( الإسلام يقود الحياة) .
5- عدم وجود من يرعى شؤون الأمة ومصالحها ويستمع لهمومها: وتكون النتيجة أن تبقى الناس في تيه دائم فاقدة للأب الحنون والراعي لها تحن لمن يرفع عن الظلم عنها ويدافع عن حقوقها.
6- ضعف الوعي لدى هذه القيادة (السلبية) بقضايا الأمة والظروف والملابسات المحيطة بها : وهذه النتيجة تحصل نتيجة لتوقع تلك القيادة على نفسها وانقطاعها على الناس مما يؤدي إلى عدم فهم الظروف المحيطة بالإحداث وافتقاد الرؤيا الصحيحة لحل المشاكل التي تمر بها الأمة.
ولذلك وفي بيان أهمية وخطورة تبوء القيادة غير الكفوءة لإدارة شؤون الأمة نجد الشهيد الصدر (قده) يحذر المجتمع من حصول هذه الحالة وينصح الأمة بالالتفاف حول القيادة التي تعيش هموم الأمة وتكون نابعة من وسط الأمة ومّلمة بشؤونها وشجونها ويبين مواصفات تلك القيادة بشكل لا يقبل اللبس والتأويل في الجمعة (27) بقوله : (والمرجع الجديد _لو صح التعبير_ وان لم يكن متفقا مع السيد محمد الصدر بكل التفاصيل، إلا إن المهم فيه، هو الاتجاه نحو العدالة الاجتماعية، وإنصاف الناس من نفسه، كما قيل في الحكمة: (قل الحق ولو على نفسك) وإدراك المصالح العامة. فان وجدتموا شخصا من هذا القبيل فتمسكوا به، والافدعوه إلى غيره. فان الأنانية في المرجعية، هي العنصر الغالب مع الأسف جيلا بعد جيل، وهذا هو المضر حقيقة في الحوزة خاصة، وفي المجتمع عامة. فاتبعوا شخصا من المجتهدين ليس له مثل هذا الطبع، بل له اتجاه التضحية في سبيل الآخرين، وبذل النفس والنفيس في سبيل دينه ومذهبه).
وفي ختام كلامه ينبه سماحة المرجع اليعقوبي إلا إن هذه النقاط الستة الهامة التي ذكرها هي مجموعة من الآثار التي تترتب على تصدي القيادات السلبية وانقياد الناس لها وان هذه النتائج هي طامة كبرى تحل بالأمة وتصيب المشروع الإسلامي بالشلل والتي ما كان لها أن تتحقق لولا الانقياد الأعمى من الناس لتصّديق ظن أباليس الأنس والجن بالإتباع الفاقد للبصيرة والذي هي مصداق للآية الكريمة من سورة سبأ { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} وأن هذه النتائج السلبية الستة تمثل مصدر فرح لإبليس وجنوده لكون المنهج السلبي هو الذي يقود الأمة واليه يرجع الناس ، ويستغرب سماحة المرجع اليعقوبي من هذه المفارقة المفجعة والحقيقة المرة التي يسقط في غياهبها الناس عن إصرار وعمد في كل مفصل وامتحان الهي ويختتم سماحته كلمته باستعراض مثال حي لهذا الإتباع الأعمى والانقياد العجيب للقيادات والزعامات الباطلة بأصحاب الدعوات الضالة بالارتباط بالقضية المهدوية الذين يغمض الناس الذين ينقادون إلى دعواتهم الكاذبة عن المؤهلات والشروط المتوفرة بهؤلاء المحتالين والخلفيات التي تصب وراء ادعائهم وتصديهم لمثل هذه العناوين البراقة والمواقع الكبيرة .
إن تعرض المرجعية الرشيدة العارفة لاستعراض موضوع القيادة ومواصفاتها وبيان خصائصها واستحضارها للشواهد التاريخية والأمثلة الحية هو تكليف تؤديه بغض النظر عن نتائج التصدي لمثل هذه المواضيع الدقيقة ولا توجد نوايا من ورائه إلا إصلاح وهداية المجتمع واستنقاذه من حبائل الشيطان ومزالقه وإبعاده عن فخاخ الجهل والتخلف التي ما انقطع أعداء الإسلام ومتقمصي ثوب القيادة وزبانيتهم عن التفنن في وضعها ونصبها لإيقاع الناس في شراك التيه والغفلة عن الالتحاق بركب الإصلاح ومسيرة المصلحين .