في لوحة الفنانة التشكيلية / خيرة مباركي – تونس
مرآيا النفس
سيبقى الانسان يطمح دائما ان يرى ذاته وما مرّ في حياته من تداعيات واحدث , وسيبقى يلاحظ ملامحه كيف تشيخ بمرور الزمن وكيف تترك اخاديها على مسيرة حياته وكم من الحنين سينتابه كلما رجع الى الماضي بكل ما فيه من الام واحزان وافراح ونكبات تركت بصماتها واضحة في حياته . ربما البعض يمرّ عليه العمر مسرعا وهو لا يلتفت الى محطات حياته وكيف تسارعت فيها الاحداث وغمرها النسيان وتراكمت عليها هموم الايام وتعاقب السنين , ولكن هناك اناس دائما يسترجعون ويراجعون ايامهم ويكتشفون فيها اشياء جديدة ودلالات مستحدثة يراقبونها عن كثب ويحاولون تدوينها وتصحيح ما مرّ فيها من اخطاء ونكبات وهموم وتقييم لكل ما عاشه ويعيشه .
ان استخدام المرآة قديم جدا وان استخدامها جعل الانسان يندهش من صورته وملامحها وهو يتابع ملامحه كيف تتغير بمرور الزمن , فاصبحت المرآة مهمة في حياة الانسان سواء الرجل او المرأة , فهي محاولة يومية او شبه يوميّة تمارس لاكتشاف الذات وقراءة سطوة الاحداث علينا وفي اي اتجاه تسير حياتنا .
مرآيا النفس : هذه اللوحة المحيّرة والمستفزّة لمن يتعمّق في قراءتها بتجرّد والوقوف امامها ليفكّك دلالاتها الابداعية والنفسية , بالرجوع الى دلالتيها اللغوية نجد بان المرآيا هي جمع مرآة والاخيرة عبارة عن سطع عاكس لصورة الاشياء بالامكان ملاحظة انعكاساتها وقراءة ملامح كلما انعكس من خلالها , اما ( النفس فتعرّف الروح البشرية بكونها جزءاً لا يتجزّأ من الإنسان، غير ماديّة أو محسوسة، أُطلق عليها مفاهيم عديدة من قبل الأديان المختلفة، ومن هذه المفاهيم: الروح، والعقل، واللاوعي ) . اذا نحن امام مرآيا عديدة حاولت الفنانة ( خيرة مباركي ) ان تشاهد من خلالها وتراقب النفس الانسانية بطريقة الرسم . نحن نعلم بان الشاعر عن طريق المفردة يستطيع ان يرسم لنا عوالمه بينما الرسّام عن طريق الالوان يرسم لنا عوالمه الخاصة به ويتركنا نبحث عن الجمال والابداع . الرسم كما الشعر هي محاولة اسقاط الذات على اللوحة يمارسها الفنان كلما داهمته الحياة بكل ما فيها من معانات يومية فيحاول تصوير ذلك ليعكس ما في داخله في محاولة تفريغ نفسي نتيجة الضغوط التي يمرّ فيها .
اللوحة عبارة عن شقّين يفصل بينهما نهر قادم من البعيد , الشقّ الاول اشجارها باسقة رشيقة تتعالى نحو الشمس , الشقّ الثاني اشجارها مائلة الاغصان متشابكة تكاد تلامس سطح الماء , هناك ظلال اشجار تخلّت عن طبيعتها المتشامخة فتركت ظلالها منحنية على سطح الماء وهناك اشجار خجولة مدّت اغصانها من اسفل اللوحة أبت الاّ ان تترك صورتها في اسفل اللوحة . النهر يأتي من بعيد يقسم اللوحة الى نصفين احدهما احتل المساحة الاكبر فيها بينما النصف الاخر كان متردد الحضور وتنزّ اشجاره على استحياء او هي كانت تصرّ الاّ ان تظهر ملامحها داخل اللوحة ( نفس الفنانة )او كانت مترددة في حضورها لكنها حضرت بقوّة وشاركت في هذا المهرجان اللوني .
ان الرسم من الفنون القديمة استخدمها الانسان منذ فجر التاريخ ليعبّر عن طريقها على ممارساته اليوميّة ويصوّر انا خلجات نفسه ومايعتريها امام سلطة الكون وما فيه .
لو تأملنا اللوحة جيدا وحاولنا تفكيك دلالاتها الكثيرة فلابدّ من الوقوف امام اشجارها الكثيرة وطريقة رسمها , اشجار تتشامخ عاليا وجذور تمتدّ عميقا في باطن الارض وتقف على ارض صلبة . وبالرجوع الى الدلالات النفسية لألوان هذه الاشجار سنجد الوانا مختلفة تتدرج ما بين اللون الاحمر والاخضر الفاتح والاخضر الغامق والودري والبنفسجي والاصفر , اما اللون الازرق فشغل مساحة تكاد قليلة قياسا لالوان الاشجار . حيث اللون الاحمر يدلّ على الشجاعة والقوة والدفء والطاقة وغريزة البقاء على قيد الحياة هذا ايجابيا اما سلبيا فهو يدلّ على التحدي والعدوانية والتوتر . اما اللون الاخضر فهو يدلّ على التوازن والانسجام والانتعاش ومحبة الكون والراحة والتجديد والطمأنينة والسلام , اما سلبيا فهو يدلّ على الملل والركود والنمطية والضعف . اللون الوردي يدلّ على السكينة وراحة البال والرعاية والدفء والانوثة والحب والجنس وغريزة البقاء , وسلبيا يدلّ على الكبح والرهاب والاحتجاز العاطفي والعجز والضعف البدني . واللون البنفسجي يدلّ على السمو الروحي والاحتواء والرؤية والرفاهية والاصالة والصدق , اما سلبيا فهو يدلّ على الانطواء والكتمان والكبت والدونية . اما اللون الاصفر فهو يدلّ على التفاؤل والثقة وتقدير الذات والانشراح والقوة العاطفية واللطف والابداع , اما سلبيا فهو يدلّ على اللاعقلانية والخوف والضعف العاطفي والاكتئاب والقلق ومحاولة الانتحار . اما اللون الازرق فهو يدلّ على الذكاء والتواصل والثقة والكفاءة والطمانينة والواجب والمنطق والحكمة والتأمل والهدوء , بينما يدلّ سلبيا على البرود والعزلة وقلّة العواطف والجفاء .بينما نجد اللون الابيض دليلا على الصحة والنظافة والوضوح والنقاء والبساطة والحنكة والكفاءة , وسلبيا يدلّ على البرود والحواجز والبُعد والجفاء والتكبّر .
التأويل :
بالامكان تأويل النهر على انه الحياة المتدفقة منذ بدايتها حيث بدأ النهر ( الحياة ) ضيّقا واستمر في جريانه يتوسّع شيئا فشيئا , وكأن الحياة ابتدأت من مرحلة عمرية معينة والدليل ان النهر ابتدأ من مكان معين حدّدته الفنانة اي لم تبدا الحياة الحقيقة عندها من مرحلة الطفولة ( من نقطة البداية ) واستمرت في جريانها الى اجل غير مسمّى بدليل ان للنهر طريقا اخر لم ترسمه لنا وكأنها تركته للاقدار ترسم ملامحه وترسم نهاياته .ومن خلال اللون الابيض الذي لوّن ( النهر – الحياة ) نستشفّ كم كانت نقيّة وواضحة وكفوءة رغم ما تعرّضت له من اعتلال في الصحة حيث تراكمت فوق سطحه ظلال الاشجار ( مصاعب الحياة ) وصبغت مياهه بألوانها . النهر في اللوحة ( الحياة ) على جانبيه نجد مرحلتين عمريتين , فالجهة اليمني من اللوحة تعبّر عن فترة حياة غير محدد زمنها انتهت الى فترة المراهقة بدليل ان اشجارها لم تكن قوية وباسقة وتتطلع الى السماء ولم تحاول معانقة الشمس وان اغصانها متدلّية ومتشابكة لا تجيد لعبة السمو والارتفاع , ومن استقراءنا للالوان نجد ندرتها وغلبة اللون الاخضر حيث الطمأنينة والانسجام ومحبة الكون والسلام رغم فترة الحرمان وما رافقها . اما الجهة اليسرى ( حيث يوجد القلب لدى الانسان مصدر الحب والحنان – ربما هي مقصودة او عفوية ان يكون الجانب الايسر من اللوحة يحمل كل هذه الدلالات والجمالية والرموز) فنجد الاشجار قوية واضحة الملامح سيقانها مستقيمة مستمرة بارتفاعها نحو السماء , ربما هي سنوات العمر حيث النضوج الفكري والمعرفي وربما هي الافكار والاراء حين تستقيم وتصبح أشدّ بأسا تقف صامدة قوية لا تعبأ بالريح تقول لنا : انني هنا باقية وساحاول البقاء , استمع اليّ جيدا ستعرفني اكثر . هناك ارض صلبة تقف عليها الاشجار لونها بنفسجي تمتدّ بشكل مائل تخترق اكثر من نصف اللوحة وترتفع عن النهر دلالة على السمو الروحي والرؤية الواضحة والرفاهية والاصالة والصدق والجودة , تقول لنا الفنانة هكذا انا اقف على هذه الارض وانتمي اليها جذوري تجد راحتها في عمقها البعيد تصارع وتناضل من اجل البقاء .
هذه اللوحة اوحت لي بالكثير من الدلالات والافكار , ومنها محاولة رؤية النفس ( الافكار ) والبحث عنها بعد هذا العمر ومرجعتها , هي عملية رصد من خلال مخيلة ابداعية والغوص في اعماقها والبوح عن المسكوت عنه من خلال هذه الدلالات الكثيرة والمثيرة في هذه اللوحة . في هذه اللوحة نجد صورا متحركة وموسيقية تشعرنا بالراحة والطمأنينة والاستكانة لهذه الطبيعة نستشفّها من خلال صوت تدفق النهر وحركة الاغصان . او هي محاولة تماهي ما بين النفس والطبيعة وطبعنة الانسان وأنسنة الطبيعة انتصارا لها ولجماليتها والبوح بمكنوناتهما والافصاح عمّا يستشعران به والانصهار والبوح والمكاشفة فيما بينهما واستلهام القوة والجمال والنقاء . انها عالم الفنانة ( خيرة مباركي ) لايمكننا تخيّل حياتها ( الطبيعة – الافكار ) من دون الوان , لانها حين ذاك ستكون جامدة باهتة لا حياة فيها ولا نتاج فكري او انساني وجمالي , ولتغيّرت اللوحة ( الحياة – الافكار – الطبيعة ) الى كابوس مرعب تعطينا شعورا بالخوف والرهبة .
الشيء الجميل حينما عرضت اللوحة على احد المرضى العقليين في مستشفى الامراض النفسية والعقلية التي اعمل فيها ( عبد الكريم رشيد – مريض لديه رقود لسنوات طويلة في المستشفى ويكتب الشعر العمودي ) قال لي : (( هذه اللوحة عبارة عن انثى / ساحرة الجمال / جنّة مبهجة / وعشق دائم ودماثة / وكم هائل من الجمال والاناقة / والشيء الجميل جدا طالبني بمنحه نسخة من هذه اللوحة وتزجيجها وتعليقها في غرفته لانها تبعث على البهجة ) .
واخيرا الذي اثارني في هذه اللوحة كمتلقي اربعة رموز / المرآة / النفس / السكّين , واللون الاحمر , لا ادري لماذا تبادر الى ذهني قصة زليخة ونساء مصر منذ ان وقعت عيني على اللوحة وذكرت السكّين في طريقة الرسم و لماذا انتابني شعور غريب من هذا اللون الذي احتل مساحة كبيرة في اللوحة وفي نفسي وفي مخيلتي ..! . وتساءلت بصمت : هل هي عملية جلد النفس او الاحساس بالحزن والخسارة بقصدية او بعفوية ما أوحى للفنانة ان ترسم هذه اللوحة المحيّرة ..؟ . سيبقى هذا السؤال وستبقى اللوحة تحتمل الكثير من التأويلات المختلفة حسب ذائقة المتلقي وصاحب الاختصاص واحساسه بالجمال وتفاعله الايجابي معها .
كانت هذه سياحة ممتعة جدا في رحاب الابداع سافرت معها بعيدا وعدت اليها , ولا ادري هل كنت قريبا ام ابتعدت كثيرا ..؟؟ .