27 ديسمبر، 2024 2:50 ص

سيمياء التراكيب في مجموعة ( بالياقوت تدلت عناقيدها ) لسلام محمد البناي

سيمياء التراكيب في مجموعة ( بالياقوت تدلت عناقيدها ) لسلام محمد البناي

من اللافت للنظر في الدراسات اللغوية العربية قلة البحوث التي تناولت المركبات النحوية بصورة جامعة على الرغم من اهمية دلالات تلك المركبات وخطورتها , وقد نجد ذاته الامر في الكتب التعليمية والدراسية , فيكاد القارئ لا يعثر فيها على باب مستقل يجمع المركبات وقواعدها , فقد فرقت على ابواب نحوية متباعدة لا يجمعها جامع فبعضها في باب المعرب والمبني، وقسم منها في باب العلم، وقسم في باب الممنوع من الصرف، وآخر في باب العدد.
وتأتي اهمية البحث في امر المركبات انطلاقا من خلافها لأصل الوضع كما يقول فقهاء اللغة , فالمركب يعد خلاف الاصل اي خلاف الافراد , وهنا لابد من القول ان هذه المخالفة لابد ان تحمل دلالات متعددة : دلالة الجمع , او دلالة الاضافة , ودلالة الاختلاف , او دلالة المغايرة , وما تولده تلك الدلالات من صور تشبيهية واستعارية ومجازية , وعليه فلا يوجد مركب في العربية دون ان يشي بإحدى تلك الدلالات .
وفي النص الادبي قد يكتسي المركب اللغوي ثوبا مخالفا للسائد القرائي , لا سيما اذا كان مركبا مكتنزا مكثفا بالمعاني  مما يجعله مركز جذب واهتمام من لدن القارئ فيستحث  ذائقته ويستفز سكينته , ويودع فيه شتى الاحتمالات للتفسير والتأويل .
وفي مجموعة (بالياقوت تدلت عناقيدها) للشاعر العراقي سلام محمد البناي , يتضح الامر جليا , فقد ارتكزت نصوص هذه المجموعة الخمسة عشر على مجموعة ثرة من التراكيب التي قد تصدم توقع القارئ , بل ان الشاعر سلام محمد البناي ــ  في ما يبدو ــ قد حاول مدَ اكثر من جسر بين نصوصه هذه والمتلقي من خلال التنويعات الدلالية التي اضفيت على تلك المركبات . 
وحين الدخول الى نصوص المجموعة نجد ان البناي قد اولى المركبات الاضافية عناية خاصة , فمن خلال عملية احصائية بسيطة يتبين ان عدد تلك المركبات الاضافية قد طغى طغيانا واضحا على ما عداها من الانواع الاخرى , لذلك سوف يكون تركيزنا في هذه الدراسة منصبا على الدلالات المشعة من تلك التراكيب .
ومما تعارف عليه اهل الاختصاص من ان المتحصل من المركب الاضافي ان يدل جزء اللفظ على جزء المعنى , فإذا ركب الجزآن افاد المجموع منهما معنى جديدا , ولنبدأ بدلالة الجمع في تلك التراكيب الاضافية , كما في قول الشاعر في نصه ( ايها الصاعد ضوءا ) التي كتبه لصديقه الشهيد الشاعر احمد آدم :
ايها الصاعد ضوءا
آثارك التي في الشوارع
تزيد البكاء اخضرارا
والخطوات صخرة
تقف على وتد الكلمات .
نجد في قول الشاعر ( وتد الكلمات ) معنى ضمنيا متحصلا من الجمع بين لفظتين ( وتد + كلمات ) فإذا كانت المفردة الاولى تدل على الصلابة والقوة والثبات , فإن دلالة المفردة الاخرى تدل على السيولة وعدم التحديد , وعليه يكون الجمع بين دلالتي المفردتين معنى جديدا ومختلفا , وفي الوقت ذاته معنى مكثفا بما انه نتج عن تعاضد دلالتين مختلفتين , ربما يشي يإضفاء القوة على الكلمة الشاعرة , لاسيما وان سلام البناي في موضع رثاء صديقه , وقد تتحمل المركبة دلالة اخرى تتمثل في ان روح صديقه مازالت حية قوية على الرغم من موته المبكر , فروح الشاعر كلمة تتسربل الجمال لتبقى حية الى الابد , ومما يعضد ما ذهبنا اليه ان المركب ( وتد الكلمات ) جاء ليتوج قول الشاعر : آثارك التي في الشوارع … تزيد البكاء اخضرارا .. والخطوات صخرة .
ونجد الدلالة ـ اي دلالة الجمع ــ ذاتها في قول الشاعر في نصه المذكور في قوله :
كم امرأة
تقف على بوابات المساء
تنتظر قدومك
من الفراغ
اليك
ايها المترامي الاشكال
فالمركبات ( بوابات المساء , والمترامي الاشكال ) قد تحصلت لدى الشاعر من جمعه المتناقضات , فكثيرا ما تشي دلالة البوابة بشيء جديد , اما المساء فعروفة دلالته فلطالما دل على النهايات , وكأن الشاعر سلام لا يريد ان يرى صديقه ميتا , فحتى تلك المساءات التي تذكره بخيال احمد آدم اكتسبت قةتها المفترضة مما اضافته له الدلالة الجديدة حينما صارت جزءا من مركب قد يدل على انفتاح المساءات على عالم آخر , او ليل مقمر جديد , والامر ذاته في قول الشاعر ( المترامي الاشكال ) فهو الآخر مزيج من نقيضين , فالشكل الهندسي عادة ما يكون محددا , لكن المفردة ( مترامي ) ضد التحديد تماما , ومن الجمع بينهما قد نتحصل على دلالة مولدة قد تشي بمعنى بالصورة المجسدة التي قد تبهر الرائي لمرآها , ولا يخفى ما يريد الشاعر من تلك الدلالة … انها روح صديقه وصورته التي يبدو انها ازدادت حضورا بعد موته .
وبالانتقال الى دلالة الاختلاف التي تشي بها المركبات الاضافية في مجموعة ( بالياقوت تدلت عناقيدها ) , يطالعنا الشاعر البناي في نصه ( نافذة ) , بقوله :
قبل ان تستيقظ ارغفتها
تلم المدينة حرير ليلها
وتتحسس جريان همومها
وعلى مجسات الارصفة
حط عطر المسافات
فالمركبات ( حرير ليلها , وجريان همومها , ومجسات الارصفة , وعطر المسافات ) تشي كلها بالاختلاف والمغايرة , فالليل حينما يقترن بدلالة الحرير لابد انه يصبح مختلفا عما هو معروف عنه من شدة الوطئة والثقل , وكأن الشاعر قد سئم النهار فمال يرتجي ليلا حريريا , وكذلك نجده في قوله ( جريان همومها ) فإن المتعارف عليه ان الهموم اذا نزلت فإن لها من الثقل والجمود ما يضيق به الصدر لكن الدلالة الجديدة جعل منها اشبه بالماء التي تتغير دفقاته كل لحظة , وهنا يضعنا النص امام عتبة دلالية جديدة توحي بالأمل اللافت للنظر المتمثل في الرغبة في تبدل الهموم الى انواع اقل ضنكا  وليس الرغبة في زوالها مما يضعنا وجها لوجه امام معاناة الانسان العراقي في مواجهة سنوات القحط والحروب . وهكذا هي دلالة التركيب : ( مجسات الارصفة )  التي لا يمكن لها الا ان تدل على الريبة من اعين الرقباء الى الحد الذي اصبحنا معه نخاف الارصفة ان تشي بنا وهو خلاف ما وضعت له اصلا من تحمل اقدام المارة , اما قول الشاعر 🙁 عطر المسافات ) فدلالته على الاختلاف والمغايرة اشد وضوحا مما سبق , فإذا كان لانتشار العطر حدود مكانية فإن المركب الجديد قد حقق دلالة الاختلاف عن طريق الرغبة الخبيئة في تجاوز تلك حدود المسافات , ومما يعزز ما ذهبنا اليه ان النص المذكور قد عنون بمفردة (نافذة ) مما يشي بالرغبة في الولوج الى عالم آخر قد يكون مختلفا , والدليل على ذلك وفرة المركبات التي تدل على المغايرة والاختلاف عما عليها اجزائها , ومن  تلك المركبات في النص ذاته : (جدب روحي , صهيل الانهار , ازقة النزيف , صمت الاسئلة , العدم الآخر , فجوات التيه , ضوء رغبة ) , فإن امر المغايرة واضح بين الجدب بوصفه صفة للخواء والروح بوصفها شيء اثيري , وكذلك الحال بين الصهيل بوصفه جعجة وصراخ والانهار بوصفه اشياء قد يدل على الانسياب , والامر ذاته في الازقة بوصفها مكان للحراك الاجتماعي السلمي والنزيف بوصفه دالا على الحرب والاقتتال , كذلك الحال في الصمت بوصفه خواءا وهدوءا والاسئلة بوصفها مستفزات ومثيرات , وكذا الامر في العدم بوصفه نقيض الوجود والآخر بوصفه معضدا للوجود … والامر ذاته في المركبين الآخرين .
وبالانتقال الى دلالات الصور المتكونة من التراكيب موضوع الدراسة , نجد ان الصورة الاستعارية بشقيها : ( التصريحية , والمكنية ) , قد فاقت في عدد تكرارها الصور التشبيهية والمجازية , ومن الصور الاستعارية المكنية قول الشاعر في نصه  ( تتدلى عناقيدي ) :
كان الوجع الراكض
ينفلت من يدي
والوضوح
لم ينبت بعد
قرب السواقي .
فقوله ( الوجع الراكض ) قد حقق صورة استعارية حذف منها المشبه به الذي من المحتمل ان يقدر بلفظة ــ الانسان ـــ وابقي على بعض لوازمه وهو الركض , فهي اذا صورة مكنية بليغة .
 ومما تشي بها هذه الصورة ( الوجع الراكض ) ان المتلقي قد يتناسى التشبيه ليتخيل صورة جديدة , فضلا على دلالة التجسيد في المعنويات حينما جعل الشاعر الوجع يركض للدلالة على الالم الممض , ومن الصور المكنية الاخرى : قول الشاعر : في نصه ( بعض ما احلم به ) :
لا يعرفون
ان غبار وجودنا
على جسد اللوعة
متصالح مع العواطف .
وقوله في نصه ( ثمة ما يدعونا لهذا )
لسنا انا وانت
من رسم بعثرة الاحلام
وترك الظل على النقوش .
وقوله في نصه ( للوجد منابعه ) :
امسك رئة الغبش الناعس
فتستفيق اهداب الكون
عند عتبات الحب
المسكون بالدهشة .
فالصورة المتحصلة من المركبات ( جسد اللوعة , وبعثرة الاحلام , وعتبات الحب المسكون بالدهشة ) كلها صور مكنية حذفت منها المشبهات بها وبقيت بعض لوازمها لتشي بدلالات التشخيص والتجسيد في المعنويات , وبث الحركة في الجمادات .
اما الصور الاستعارية التصريحية فيمكن ان نتتبع اثرها في قول الشاعر , في نصه (للوجد منابعه ) :
لغة الجداول
السنة الازمنة
تهرب لموت آخر .
فلغة الجداول والسنة الازمنة يمكن ان تكون صورة استعارية تصريحية حذف منها المشبه به الذي من الممكن ان يكون ــ الانسان او الشاعر ذاته ـ  لتدل على معاني الجدب والخواء والسكون , اذ ان الشاعر خلق صورة حول فيها الجداول والازمنة الى اشياء عاقلة خاضعة لنزوات الخوف والهرب نحو الموت .
وهكذا نجد ان نصوص سلام محمد البناي في مجموعته هذه قد تلفت الانتباه من اول وهلة الى جماليات التراكيب الوفيرة , المكتنزة بالدلالات , التي تضمنتها , وقد وقفنا على بعضها , لظهورها البارز في المجموعة , وتركنا مما في المجموعة من تراكيب أخرى : اسنادية متفرعة , وصور تشبيهية ومجازية وكنائية لفرص نأمل ان يجود الوقت بها علينا .