رواية مؤيد الطلال ( دمعة وحيدة) من الروايات التي صيغت بلغة سردية عالية ، لقد طغى الوصف في هذه الرواية على الحدث والشخصيات أمسك الكاتب باللغة وبمخارج التعبير، داخلا في بنية سردية ،اللغة بدؤها ومنتهاها واصلا بين أجزاء متنافرة ومتباعدة ليجمعها في كل موحد ، يدفع القارئ الى مواصلة القراءة .. وإذ تتنافر الشخصيات فإن الروائي توفر على قدرة مميزة في بناء شخصياته بناء محكما.
النص وإن توافر على كل الأوصاف التي ذكرناها في الأسطر السابقة ، فإن القارئ الملم بتطور الرواية ، يبحث عن الجديد في التقنية وفي السرد ، هو قبالة نص روائي ، ولا يسأل ثمة من كتب هذا النص ، فليس من الحصافة أن أطالب الناقد الذي كتب رواية أن يطبق رؤيته النقدية على النص الروائي الذي كتبه .. الناقد يطلع القارئ على إخفاقات الكتاب : القوة والضعف في نتاجهم ويوجه مديات القراءة ، كتب مؤيد الطلال عن كثير من القصاصين ولاسيما الرواد ، اذكر منهم عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي واخرين ، فهل تخطى إخفاقاتهم السردية وهو يكتب السرد هذه المرة وليس النقد؟ هذا السؤال يخالف مبادئ الكتابة والقراءة في آن معا ، فالقارئ لأي نص يأتي إليه مجردا من خارجياته ، ومنها المؤلف ، وإن كتابة نص إبداعي قصة أو رواية مختلف تماما عن كتابة النقد ، رغم أن كليهما يقع في حقل الإبداع ، وربما الإبداع في النقد أكثر قيمة من النص الشعري والسردي ..فالنصوص النقدية العالية هي التي تحكم الكتابة وتوضح مآلاتها النهائية ، ولا يعرف كاتب الشعر والقصة قيمة عمله الحقيقية إلا بالنقد .
كتابة النقد إلى جانب النصوص الشعرية والقصصية مهمة معروفة منذ القدم ، ولعل الذي يشتغل في النقد أعواما طويلة لا تغريه تجربة الكتابة في السرد أو الشعر ،لكن هذا ليس قاعدة ، والكتابة في كل أنواعها ليست حكرا على نوع واحد ، على هذا النحو تهيأ للناقد مؤيد الطلال أن يكتب رواية بعد محاولات ناجحة في كتابة القصة القصيرة .. وبعد ما يزيد على أربعين عاما من الكتابة النقدية ..في بعض الأفلام السينمائية ، تظهر في الثواني الأولى من الفلم ، لقطة قصيرة لثوان ،هي المهيمنة على كل أحداث الفلم ،ترتبط هذه الأحداث بهذه اللقطة ، شبيه بهذا وجدناه في رواية مؤيد الطلال (دمعة وحيدة) ، حين يسرد ذكرى زواجه قبل أربعين عاما ليقول : “حفلة عرس ؟ ياله من حلم بديع . آه ما أكثر الأحلام وما أضيق حدود الواقع ..هل اتحدث أنا عن عرس ؟إذن ماذا كان ذاك الذي حدث شرعيا قبل أربعين عاما ، لابد أن حظي كان جيدا من جوانب اخرى ، حين تزوجت من دون زفة أو (زيطة) على الطريقة التقليدية ، تلك زفة العرس التي ظلت بنفسها لسنوات طوال وظلت تعيب علي أنني أخذتها من دون حفلة العرس المعهودة شرعيا واجتماعيا . اليوم بدأت أشك بأن النقود التي تصورت أنني قد أضعتها حين قضينا أول ليلة على شاطئ دجلة في أحد ملاهي المسبح كانت هي من سرقتها وأفسدت علي ما يسمى بفرحة العرس أو ليلة الدخلة ولم لا؟ إن من يتسبب بإعدام أخيه ويبذل قصارى جهده ليجيء الحكم علي قاسيا في دائرة الأمن الصدامية يمكن أن يقوم بعملية سرقة المال ، العمل المنحط الذي استمر لسنوات ، من خلال ترتيب مفتاح خاص لغرفتي الشخصية تستخدمه حين أكون بعيدا عن البيت منشغلا في عملي التجاري وذلك من أجل أن تعبث بأوراقي وتقرأ ما أكتبه من يوميات وتستل من (شدات) الأوراق المالية ما يحلو لها أو ما تسمح به الظروف والأوضاع
هل كان ذلك عرسا إذن ما ذا أسمي ليلة الأمس مع هذه الصبية التي وضعها القدر في طريقي مصادفة ، أو مجموعة مصادفات صغيرة كنت قد نوهت عنها وأنا أتحدث عن العرسين ” 1(الرواية ص 136).
معظم الحكي في الرواية يستمد فعله من هذه الصفحة 136وأختها137،خيبة أمل في الزواج الشرعي ،هذا الأمل الخائب وجه الرواية في كل فصولها .. وهي يمكن أن تكون رواية شخصيات ،فقد كثرت الشخصيات الرئيسية (ماجد ) و(اشواق) وأختها التي لا تقل أثرا عنها وصديق المتعة وكثير من الشخصيات الثانوية ، يضاف إليها شخصية الراوي ، الذي يتحدث تارة بطريقة مباشرة وتارة بطريقة الراوي العليم ، وغالبا باسم (ماجد) ، وضمير الغائب في (ماجد) يتحد بضمير المتكلم ، وهو الراوي أو الكاتب نفسه ، أما الشخصيات الأخر التي تذرع النص طولا وعرضا فهي في الغالب بنات هوى يتجولن بحرية تامة متغلغلات في نسيج الرواية ، ولعل (نرمين) تقف في مقدمة الشخصيات الثانوية ، لتشير الى عمق الإحساس الشخصي لدى (ماجد)بأهمية المتعة الخاصة التي تمنحها هي وأخريات غيرها .
البطل الإشكالي
تذكر رواية (دمعة وحيدة) بالبطل الإشكالي عند جورج لوكاش ، وهو البطل الذي يبحث عن قيم أصيلة في عالم متدهور ، كما هو معروف من كتاب لوكاش (نظرية الرواية ) ، في إطار دراسته للواقعية التسجيلية ..ورواية مؤيد الطلال تقع مع- بعض التحفظ -قريبة من هذا المنحى . لكن القارىء للرواية يجد كما لو أن البطل في غاية الإنسجام والمتعة ، يحتضن كما صديقه إحدى العابرات الباحثات عن المال في ساحات دمشق وحواريها الممتعة ، حتى ليخال للقارىء ، أن البطل ليس إشكاليا ، هو منسجم تمام الانسجام ومرتبط بمناخ يعبق بالرضا والجمال ، وبعض هذه العلاقات اتسم بود وتعاطف شخصي مع شروق واختها حين يواصلهما البطل سواء في العراق حيث يقطنان، أو عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي التي أفرد لها الروائي إشارات واسعة في نصه ،وربما خرجت عن المعتاد ، يصور الروائي بائعات الهوى كما لو أنهن عشيقات يتقصدن المتعة قبل أي شيء آخر..هذا المنحى هو نوع من الكتابة المقروءة وفق رولان بارت ، وهو بحاجة الى قارئ متمرس ، يوصل هذا الجو الأسيان المليء بالمتعة ، باللحظة الاولى التي عاشها البطل مع زوجة رسمية أو اثنتين وانتهت بالفشل التام بل بمتاعب جمة .
الرواية فيها منحى نفسي ، فالبطل ناقم على الطريقة الشرعية في الزواج ،ولم تنتج إلا آلاما ، ويسقط هذا الشعور الحاد بالخيبة على مفاصل حياته اللاحقة ، أما الحياة التي يعيشها حاليا رغم أنه على مشارف السبعين ، فهي كما يصورها الطريقة المثلى للتعامل مع المرأة ، فإذا كان الزواج يمنح متعة ما ، فهي متوفرة بشكل أفضل وأكثر جاذبية في صديقات بعضهن بائعات هوى ، لعل مناجاة بعضهن مناجاة ذاتية محببة يصنع مناخا جديدا لا يتعلق بالمتعة فقط بل بحياة عاطفية محببة فكثير من الذين تجاوزوا سنا معينا سوف يسعدون أيما سعادة بتعلق امرأة بهم وهم في خريف العمر كما حدث بشكل واضح في العلاقة المتينة مع (شروق ) العراقية واختها ثم لينتهي الأمر بالبطل عاشقا أبديا لهناء شقيقة شروق .. الوازع النفسي الذي أشرنا إليه سابقا يتحدد في هذه اللمحة ، زواج شرعي فاشل ومتع لا حدود لها بعلاقات غير شرعية ..على هذا النحو يخالف مخالفة صريحة البطل الإشكالي حين يقول :” حتى حين جمعتنا المصادفة وحدنا كرة أخرى في بيت شقيقتك الصغرى (هناء )التي ذهبت لتوصيل ابنتها الى دار الحضانة ،فإنني لم افكر حتى مجرد تفكير ، أن أمد يدي إلى جسدها ، ليس بسبب ترهله وامتلاكي ناصية ركوب حور العين من الصبايا السوريات النازحات من مناطق الاشتباك إلى مدينة الملاهي ، بل بسبب سور الصين الروحي الذي نشأ من ذلك اللقاء في (غربة حجيرة) أواخر حزيران ،حبا روحيا خالصا ، وأحيانا تسميه عقليا ممتعا . هذا الذي تريده ، وهذا الذي تكيفت معه وقبلته ، حبا بلا دنس . أما أنا فإنني اعتبر ما تسميه هي بالدنس هو ذروة النشوة الروحية الناجمة عن تماس وتلامس الجسدين المعشوقين وهما يفرزان مادة الخلق الأولى , أساس استمرار البشرية . 2 (الرواية ص81)
بطل الرواية لا يقترب من الحب الصوفي الفلسفي , حب بلا منفعة جسدية ، لذلك قاوم بعض المتصوفة الزواج لأنه قائم على المنفعة ، على المصلحة المادية ..وتشاء الشخصية الرئيسية في الرواية (ماجد) ألا يعطي النص منحى صوفيا فلسفيا ، يخرجه من طابعه الإيروسي الذي رسم منذ البداية ، والذي ظل كما أرى إسقاطا نفسيا ليس إلا، فالروائي أكثر الناس معرفة بأن الروايات التي تلجأ إلى الإيروسية ، هي لكسب قارئ متعطش للنوازع الجسدية،التي طالما درسها النص الروائي واستجاب لها نمط خاص من القراء ،الروائي بدا لي أكثر سطوعا في رؤياه هذه ، فليس المطلوب كما أرى أن يعكس هذا المنحى الحسي ، وأن يتودد لقارئ مفترض بل هو انعكاس لمنزع نفسي عميق ، ظهر من أول الرواية حتى سطورها الأخيرة ، يتلخص في فشل التجربة مع المرأة .. المرأة المعينة التي تحولت بعد ذلك إلى كل النساء ، فما عادت المرأة في هذا المنحى النفسي التجريبي إلا اداة المتعة الأولى ليس إلا ، وستظل كذلك ، فهي (أساس الخلق الأول أساس استمرار البشرية ) هذا هو واجبها في مجرى التاريخ ، لهذا فإن (ماجد) الشخصية الرئيسة في الرواية ، يرفض الحب العذري غير الشهواني، يرفض الحب الفلسفي ، وهو القريب من الفلسفة ، كما يظهر من ثنايا قصته هذه .. لكن قوة التجربة الذاتية ، ،فتحت آفاقا في عقله ووجدانه المعذب ، في رؤيته الخاصة للمرأة ظهر كأنه أفلاطون أو ابو العلاء المعري ،في رؤية فلسفية خاصة قريبة لا تعطيها حقها الذي منحته إياها الفلسفات المعاصرة منذ سيمون دي بفوار أو هو قريب من أسطورة الكيد التوراتية ، حين تعاملت زوجة أحد أبناء يعقوب بكيد مدبر مع زوجها يهوذا في مدن كنعان ، ولا أظنه جادا حين يضحك في سره من شرقية صاحبته وعدم قدرتها على التحرر وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية حين يقول “إنه تاريخ طويل من مظاهر احتقار الجسد و تكبيله بالقيود والتابوات والحيلولة دون وصوله إلى مرحلة الفرح والاحتفاء بسعادة اللذة ..” المضمر عكس ذلك تماما ، فليس مطلوبا من رجل على أبواب السبعين كما ظهر من فقرات الرواية ، إلا أن يحتفي بنوع واحد من الحب ،هذا الذي يترفع عن الدوافع الحسية النمطية الإيروسية ، وهو قد لا يكون قادرا على تلبية المطالب الإيروسية لو طولب بها ..إن الإسقاط النفسي الذي ظهر منذ بداية الرواية ،أراد أن يحصر المرأة في هذه الزاوية الضيقة : المتعة ولاشيء غير ذلك ، ولا أشك في أن بطل الرواية هو أكثر الناس برما بهذه البشرية المضطربة القاسية ، التي يقتل بعضها بعضا كما ظهر في الرواية ، برم بهذه الأصوات التي تلعب الدومينو في المقاهي ويرتفع صوتها من دون سبب ،وتضرب النرد بقوة وكأنها تنتقم من الآخر ، روح الانتقام في هذه البشرية ، تدفع البطل (ماجد)،الى رفض المناحي الجميلة في المرأة ،ليكون الحب فلسفيا متعاليا ، لا يصل الى الشهوة التي تنزله من عليائه ومكانه الأثير ، ويبدو هذا- وإن كان متخفيا – حاضرا حتى في ظل الاندفاع الشهواني مع الإسماعيلية :” سعيد في أن يكون عجوزا وأن يكون محبوبا وعاشقا في الان : 3 (الرواية ص 83).ولعل التصريح الآتي يشي بالقصة كلها ” إذ إن اللؤم ونكران الجميل هما أقسى صفتين كرهتهما في حياتي ،بعد ان اختلفت مع زوجتي الأولى وعائلتها البائدة ، وكرهت النساء والحياة ..”4(الرواية ص 88 ) ، كل ذلك يقرب الرواية من السيرة الذاتية ، وإن يناقض هذا ما قلناه سابقا من أن الرواية تقترب من الواقعية التسجيلية…
مستويات من المفارقات نجدها في هذه الرواية وفي كل رواية ربما، وإن كانت بدرجات مختلفة ، فبينما كنا نعتقد ان العلاقة مع (شروق) واختها متسعة وعميقة وهما من أوائل معارفه في العراق يضعنا الروائي في مشهد واحد فقير يكرره أكثر من مرة ليقول: ” ومع أن الساعة التي تركتنا فيها (هناء ) لتوصل ابنتها الى دار الحضانة ، يمكن أن تكون ساعة اختبار لهذه العلاقة ، لكني بمجرد ان أحسست بارتباكها وبالعرق الذي ظهر على وجهها ، صرفت النظر عن التقدم قيد أنملة نحو استغلال الفرصة ” 5 ص 89 . بنية التناقض بين امرأة مترهلة وشقراوات حسان وسمراوات من بنات سوريا في هذه المفارقة ، ما الحاجة إذن ولماذا الاصرار ؟ رجل في باب السبعين ولديه كل هذا الثراء الجنسي من الكواعب الحسان ، لماذا يتعلق بامرأة مترهلة ، ولماذا لم يكتف بالحب القانوني او الحب غير المادي ؟.. الرواية في هذا المنحى خاصة تكشف أمرا خطيرا ، هو ان البطل غير راغب بالاقتراب جنسيا منها ، وهو يتحدث ليوهم القارئ أو ليقدم مسوغا ما غير مفهوم لهذا التعلق الحسي الغريب ..وقد يقود هذا الى منطق القص والحكي ، وهذ المنطق يقول إن البطل يقدم وجها آخر للمرأة .. المرأة المتمنعة.. الأولى ان تتخلى عن هذا العزوف ،هذا هو منطق الأشياء في الرواية أو منطق النساء نسبة إلى الرواية أيضا ،فهي قد خلقت لهذا الذي يدعوها إليه بطل الرواية ، لماذا ترفض وتخالف سنن النساء ؟ هذا هو الوجه الآخر المضمر الذي هو أحد أسس بناء هذه الرواية .
تتداخل شخصية ( شروق ) وأختها ، وهذا التداخل يفرض على الراوي التمييز الواضح بينهما ،في كثير من الأحيان يبدوان كما لو أنهما شخصية واحدة ، وحين ذهبت شقيقتها إلى دار الحضانة ، اختلى بشروق لكنها تمنعت ، يتكرر ذلك كثيرا في الرواية ، كأن هذه الخلوة هي الوحيدة ، في هذه العلاقة الحميمة بين الاثنين ، والدليل تكرار ذكرها ..ثم ليذكر بعد ذلك أن هذا المكان الذي تمنعت فيه (شروق) ، قد وصلت إليه قذائف الحرب الأهلية السورية ..تأس من نوع خاص ، هذه الحرب التي أحرقت كل شيء ، وصلت في الاخير الى هذا المكان الأثير ،كأن الحرب كلها في جانب وهذا المكان في جانب آخر ، فنتازيا يلجأ إليها البطل ، لتعميق الإحساس بفجاجة الحرب وفعلها المدمر .يدلي البطل بقوله ” هل ثمة ضرورة اقوى وأشد وأعظم من احتضان صبية بميعة وشباب وبياض وليونة (نرمين)؟ هل ثمة لذة أقوى من لذة بلوغ ذروة الشهوة الحسية وعلى الطريقة الفرنسية كما رسمها من قبل في قصة (ورقة الزيتون الذهبية) ” 6 ( الرواية ص 134). في هذا المقطع يسير (ماجد) سيره المعتاد ، وقد نتحفظ قليلا لنقول إن الراوي هو البطل ، أما ماجد فهو عنوان آخر له ، في المقطع السابق ، يناهض مفهوم البطل الإشكالي الذي يبحث عن قيم أصيلة في عالم متدهور كما أسلفنا ‘ ولكن في قراءة للمضمر ،يظهر أن النص الروائي بأجمعه ، رافض تماما لهذا العالم الذي يصفه ، ويظهر فيه أنه منسجم كل الانسجام ، هو ليس منسجما قطعا بل هو رافض لعالم حسي مبتذل أحيانا ، وسط جو عاصف من الحرب الأهلية الذي يدفع بالجميلات للارتماء بأحضان من هب ودب ، نشدانا للمال ولا شيء غيره .”من رأي بروست أن الفنان يكشف جوهر الكائنات والموجودات والفضاءات والأزمنة ، انطلاقا من تذكر الأحداث ومن الأحاسيس المعيشة التي صارت في وعي الفنان مجرد ذكريات مبهمة . ومن ثم ليست مهمة العمل الفني عرض واقع معطى أو التعبير عن أفكار مسبقة ، وإنما إعادة خلق الواقع ووضعه على صعيد الخيال والتعبير والأسلوب ،ذلك بأن دلالة العمل الفني ،لا تتأسس إلا في الأبنية الملتفة والأفعوانية المسبوكة من النسخ والاسترجاعات والتعارضات وتحريفات الواقع . وكما أن هدف العمل الفني لا يتحدد في وصف الأشياء وفي محاكاة الواقع محاكاة كلية أو جزئية ، كذلك ليست غايته ممارسة لعبة المرآة مع حياة المؤلف، وفي هذا الصدد نقول مع رولان بارت : لقد أمد بروست الكتابة الحديثة بلحمتها،فبفضل انقلاب جذري تخلى بموجبه عن وضع حياته في أعماله كما يقال ، جعل من حياته عملا أدبيا ” 7 (خطاب الحكاية )المقدمة ص9
بناء على المقتبس السابق ، فإن رواية مؤيد الطلال تنحو منحى خاصا ، شكلت حياته معظم فصول الرواية ، وكانت قصصه كذلك ، بطل الرواية في شقيه (ماجد) وضمير المتكلم ، هو شخصية مضطربة تماما ،يقيم أحسن العلاقات الرومانسية مع بائعة هوى ،لا أدري ما المغزى من إظهار هذه الشخصيات المنمطة وكأنها تستحق كل الاحترام من تقبيل يد وغزل ومدائح،من يسيغ يوما ان زبونا طارئا يتنازل عن قيمه ليقول : إن النساء كلهن بهذا النحو ، هن في شكل ومضمون واحد ن رغم الوهم الخادع في التصنيف : هذه عفيفة وهذه من بنات الهوى ، هنا تتجلى مرة أخرى الواقعية التسجيلية التي تستبطن البطل ،الراوي مثلما تستبطن شخصياته ، هو هنا إذا صح تحليلنا قريب من سقراط ،حين سيق للاعدام مع امرأة ،بادر بسؤالها عن سبب الحكم عليها بالموت أجابت : الزنا قال سقراط : وهل العفاف هو الأصل ؟؟
وتظهر المواقف السياسية جلية في الرواية ، ومن يريد أن يحسبها على السياسة ممكن،لكنها مواقف سياسية عابرة ، تأتي في الرواية بالتداعي الحر ، فإذا ذهب (ماجد) إلى صديق المتعة في يوم من أيام تموز ، تذكر ثورة الرابع عشر من تموز ، وما حصل في ذلك اليوم المهم من تاريخ العراق ،وظل هذا التداعي سيد الموقف في بعض فصول الرواية ..فالبطل عراقي يعيش في سوريا ، وإذ تظهر الأجواء السياسية العراقية بعد عام 2003 وما حصل من فوضى واضطراب ما زلنا نعيش فصوله الرهيبة ، يشير إلى سوريا الحرب الأهلية وداعش القتلة والمجرمين ..ثم يظهر حسن نصر الله وهو يشغل قلوب الوطنيين بمقاومته ، لا شك في أن الأجواء السورية ضاغطة وملبسة ، وهو يتلمس بمتعة كبيرة الأماكن السورية : دمشق الحجيرة جرمانة ..أكثر الأماكن دنوا إلى قلبه ، مثلما يذكر العراق والمتنبي والشاهبندر والصور التاريخية الممتعة التي تزين جدران هذا المقهى .ثم لا تلبث الرواية وعن طريق التداعي الحر ايضا ،أن تظهر حرص (ماجد) على حرية المرأة وضرورة منع الحجب عنها ،ويعلن رأيه في الدين وضرورة إقصاء التابوات التي وضعها رجال الدين عقبة تدمر حرية الانسان ومستقبله… التداعي الحر ليس غريبا وجد في بعض نماذج الرواية العراقية والعالمية ، لكن نسبته العالية في بعض الأعمال يشتت وعي القراءة…صيغت الرواية بضمير المتكلم وضمير الغائب ، وقد صيغت رواية (بحثا عن الزمن الضائع) بضمير المتكلم أيضا “والمتكلم هنا هو في الآن نفسه سارد وشخصية محورية تتقاطع تجاربها مع ما عاشه المؤلف وعايشه ، ولا يؤدي هذا الضمير وظيفة تخصيص الحكاية بصفتها سيرة ذاتية ، وإنما يخصصها بصفتها خطابا شعريا ،بما أن الكتابة بضمير الأنا هي خاصية اللغة الشعرية بامتياز وليس تشعير الخطاب لعبة شكلية أو صنعة تقنية فحسب ،بل يرتبط برؤية النص للعالم وبالموقع المجتمعي الإديولوجي الذي تنبني هذه الرؤية عليه وتنهض” 8 (خطاب الحكاية ص13).
ما عادت المناهج الحديثة التي تدرس الرواية ، تعتني كثيرا بالشخصيات ، فالاحتفاء النقدي بمكون الشخصية بدأ يتهاوى ، مع المفاهيم النقدية الأولى للمناهج النصية ،فأخذت الشكلانية قصب السبق في إنكار عنصر الشخصية ، وبث الأفكار الأولى بضرورة إهماله . النقد وفعل ذلك بروب في الحكاية الخرافية الروسية ، ورولان بارت الذي وصف الشخصيات بأنها كائنات ورقية وكذلك كريماس رأس مدرسة باريس.9 (الاتجاه السيميائي في نقد السرد العربي ) ص302
لكن رواية مؤيد الطلال التي تقترب من السيرة الذاتية ، لا بد أن تكون رواية شخصيات ، ومن ثم فإن الحدث تابع للشخصية وليس العكس ، كما كان سائدا في الرواية التقليدية في القرن التاسع عشر . تبقى هذه الرواية محل جدل ونقاش .. وهي علامة مهمة من علامات الجهد الروائي العراقي ، ولا سيما قدرة الروائي على الامساك بالاحداث ، وتطويع إمكاناتها، وكذلك ما أمده خياله الطليق من أبعاد ، لصالح سرد جميل مستعملا بلاغته العالية وتجربته الغنية في القراءة والاطلاع والنقد ، ولابد(في الوقت نفسه) من عمل آخر لمؤيد الطلال يبدو ضروريا للخروج من مواضعات السيرة الذاتية وانعكاس الحياة الخاصة في العمل الادبي .
ملحوظة : الجزء الثاني من الدراسة عن الرواية سيأتي فيما بعد ، باستعمال المنهج السيميائي ، بدءا من العتبة النصية
الهوامش
1 – مؤيد جواد الطلال ، (دمعة وحيدة) رواية ، دار العراب دمشق – سوريا ط1 2019 ص 138.
2- الرواية ص 31 .
3- الرواية ص 83 .
4- الرواية ص 88.
5- الرواية ص 89.
6- الرواية ص 134
7- جيرار جنيت ، خطاب في الحكاية ، بحث في المنهج ، ترجمة محمد معتصم ط2 – 1997 ، ص9
8- المصدر نفسه ، ص 13 .
9- ينظر د. محمد فليح الجبوري ، الاتجاة السيميائي في نقد السرد العربي الحديث – منشورات الاختلاف – ط1 – 2013 ص302 .