بموازاة النجاح الذي حققته سلسلة مقالاتي “دماء لن تجف” التي ما زلت اواصل نشرها، على الصحف والمواقع الالكترونية، وسأصدرها في “موسوعة” من أجزاء عدة، عن الشهداء الأبرار.. ضحايا الطاغية المقبور صدام حسين وحزبه “البعث” المنحل، أنشر سلسلة مقالات أخرى، بعنوان “سيف يمزق غمده” عن ضحاياه، الذين إختصمهم بعد ان دالت له الدنيا، خلال السنوات التالية على إنقلاب 1968؛ إذ تنكر صدام لرفاقه، متنصلا من مواثيق الرجولة؛ فنكل بمن لا يستجيب لتطلعاته نحو التفرد.. أزاحهم عن طريقه، ومحى ذكرهم، مهووسا بشهوة السلطة، التي جرّت على العراقيين.. إعتقالاتٍ وحروباً وحصاراً وإرهاباً وجوعاً وكوارثَ ومآسيَ وتخلفاً ودماراً وتبديداً للثرواتِ والكرامةِ.
(19)
أمين العاصمة عبد الوهاب المفتي
إعتاد نظام الطاغية المقبور صدام حسين، على صنع القصص الاعلامية الموهومة، التي يظن أنها خدعة مرت على الشعب، عازما على معاقبة من لا يممررها محيدا ذكاءه؛ لذلك يستغبي الجميع.. تظاهرا بالغفلة؛ كي لا يقعوا تحت طائلة العقاب.
فالديكتاتور يبيت لشخص داهية، بينما يكرمه على شاشة التلفزيون؛ إذ ظهر أمين بغداد عبد الوهاب المفتي، يوم ١٥ كانون الثاني ١٩٨٦ ، في عرض الانباء الرئيس، من تلفزيون جمهورية العراق، وهو يقلد وسام الرافدين، من قبل صدام شخصيا؛ تثمينا لدوره الوطني، ضمن حملة قص القصب في الأهوار.
عده صدام يومها بطلا قوميا، بالقول: “مدنيين (مدنيون) عزل ألا من الأيمان الذي يعمر قلوبهم بالله وبالوطن وبالقضية، يذهبون أمام المواضع الدفاعية، يقصون القصب حتى (كي) يوفروا ساحة رمي جيدة للمقاتلين على السداد أو على الأرض خلفهم وليس امامهم ألاالحجابات والحجابات هم قلة من العسكريين يخرجون أمام الموضع الدفاعي حتى يكونوا عين الموضع الدفاعي الى أمام ويتعرضون حتى للاسلحة الخفيفة وقنص القناصة”. متمنيا ان يتخذه العرب قدوة: “اتمنى لويأتي المهندسون العرب ويشاهدون كيف اشتغلتم”. مواصلا: “عندما كان يزورنا صديق أو عربي ويقول لي أنه محتاج، لا نستطيع أن نرده ونعطيه ما يريد، ألا قضية واحدة هي منح نوط الشجاعة ووسام الرافدين، فانا شحيح جداً بهما ولكن أشهد بالله انكم جميعاً تستحقون نوط الشجاعة”.
طيب.. الرجل الذي يضمر له قتلا.. يكرمه، إجراء يتعذر فهمه، وفق سياقات الحياة المألوفة.. فالعدو عدو والصديق صديق، لا تتداخل القيمتان، اما ان يكرم العدو بإحتفاء يهيئه للإيغال في ما يحمله؛ كنوع من توريط، يبرر لضدام قتله في ما بعد، فتلك هي “السادية – تعذيب الآخر” بعينها.
عرف المفتي مهندسا كفوءا، وبعثيا ملتزما، وأمينا جادا للعاصمة، يواظب بتفانٍ لا مراءات فيه؛ بغية إنجاز عملٍ مرضٍ، يعرو عنه المقربون زهده برفع تقارير تنقل منجزاته للقيادة، مكتفيا بآية كريمة من كتاب الله، جعل منها شعارا دائم الترداد على لسانه: “وقل إعملوا، فسيرى الله علمكم، ورسوله والمؤمنون”.
لكن منجزاته وبطولات أدائه لم تصمد؛ إذ برغم كلمات الثناء، التي أغدقها صدام على عبد الوهاب، مدرارة، خلال جلسة التكريم تلك؛ صدر مرسوم جمهوري بعد ستة أشهر، من العام نفسه، نسخ سابقه، وسحق الأمين، تاركا العاصمة تفغر فاها، مثل أبله بليد، طرد بموجبه المفتي، من المنصب، وسبب المرسوم بـ “ثبوت خيانته أمانة المسؤولية ومستلزماتها الشريفة في المحافظة على أموال الدولة”.
إنتهى الامر بنكتة إعدامه!.. لا تقييم لذلك سوى إعتبارها “نكتة” وليس ابلغ من الحياة في العراق.. سابقا ولاحقا.. من نكتة!