أشار الرئيس الروسي بوتين في احدى مؤتمراته الصحفية الاخيرة الى ان هناك (25) مليون روسي أصبحوا بلا وطن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي , وهم الروس الذين كانوا يعيشون بشكل دائم في جمهوريات الاتحاد السوفيتي . هذا رقم كبير جدا , وقد حاولت روسيا الاتحادية ان تستوعبهم , الا ان الموضوع لا زال مطروحا .
لم اصطدم – ان صحّ التعبير – بهذه المشكلة الاجتماعية الكبيرة طيلة الاحد عشر سنة الاخيرة (وهي فترة مكوثي في روسيا منذ عام 2006 ولحد الان) الا مرة واحدة , عندما كنت مديرا لمركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونش قبل سبع سنوات , اذ بينما كنت متوجها الى مكان عملي قرب الجامعة , اقترب رجل وسألني ان كنت اعرف اين يقع مركز اختبار كفاءة اللغة الروسية , فقلت له اني متوجه الى هناك , اذ ان مركزنا كان في نفس الطابق , واثناء سيرنا معا عرفت منه انه روسي ولد وعاش في اوكراينا واضطر ان يتركها مع عائلته بعد انهيار الاتحاد السوفيتي , وانه يسكن الان في فارونش عند اقرباء له كي ينتهي من معاملات التجنس (الطويلة العريضة ) كما قال , وانهم الان يطالبونة بوثيقة اتقان اللغة الروسية وانه قلق جدا من عدم الحصول عليها لانه درس قواعد اللغة في المدرسة قبل اربعين سنة وقد نساها كليا الان .. قلت له انك روسي وان الروسية لغتك الام ولا ضرورة للقلق , وان معرفة اللغة لا تكمن بالقواعد فقط , وحاولت ان ارفع معنوياته كما كنت اعمل مع طلبتي قبل الامتحانات , وقد شكرني جدا على هذا الموقف , وعلى تعاطفي معه .
الان ونحن في منتصف صيف 2017 , التقيت وبمحض الصدفة مواطنا روسيّا قلبا وقالبا, ولكنه لا يزال- ولحد الوقت الحاضر – يحاول الحصول على الوثائق الرسمية لروسيا الاتحادية , انه – سيرغي او سيريوجا كما ينادونه دلعا وتحببا . اللقاء كان في الردهة رقم (4) بالمستشفى , حيث اضطرتني اوضاعي الصحية ان أرقد لمدة عشرين يوما باكملها , والتقيت هناك به. كانت الليالي طويلة في الردهة , وكان سيريوجا يحب ان يدردش عن سيرة حياته طوال المساء . انه روسي أب عن جد كما يقال , ولد وعاش في قرغيزيا السوفيتية , وبعد ان انهى المدرسة الروسية هناك ( كان عمره 18 سنة ) تم استدعاء مواليده لاداء الخدمة العسكرية الالزامية , وبعد تدريب مكثّف ومركّز وقصير, ارسلوه الى افغانستان للالتحاق بالقوات السوفيتية , التي كانت تحارب هناك , وبقي هناك طوال عامين , وعاد بعد ان سقطت قذيفة قربه وقتلت رأسا صديقه بعد اصابته بقلبه , اما هو فقد اصيب بجروح كثيرة أدّت الى ارجاعه الى الوطن للعلاج . تحدّث سيريوجا كثيرا عن الاحداث التي عاصرها وشاهدها اثناء تلك الحرب , منها منظر الاسرى الافغان وهم يعيشون في الحفر , والذي لا يمكن ان ينساه , اذ كان هؤلاء الاسرى يسكنون هناك دائما , وياكلون ويشربون وينامون ويتغوطون…الخ , ويتذكر كيف كان الجنود السوفيت يحرسون تلك الحفر وينزلون لهم الاكل والشرب بواسطة الحبال , وحكى لنا كيف حاولوا التخلص منهم , اذ جاء أحد الجنرالات السوفيت بملا وأخذوا يقسمون امامه وهم يضعون يدهم على القرآن الكريم بانهم لن يعودوا الى مقاتلة الجيش السوفيتي , وهكذا أطلقوا سراحهم , ولكن بعد فترة قصيرة نسبيا وجدوا بعضهم وقد عادوا الى القتال , وهكذا قرروا عدم تكرار ذلك وأخذوا يتخلصون منهم بقتلهم اثناء المعارك وعدم أسرهم . وحكى لنا سيريوجا عن السوق السوداء لبيع الفودكا للجنود والضباط هناك , وتبين انه توجد مافيا بين العسكريين انفسهم تتفق مع الطيارين السوفيت الذين ينقلون التموين من روسيا الى جبهات القتال في افغانستان وباسعار خيالية لجلب صناديق الفودكا معهم سرّا , وعندما سألناه عن الاسعار , قال انهم يبيعونها بالذهب , الذي يحصل عليه الجنود عندما يقتلون الافغان , اذ يجب تجريد هؤلاء القتلى من وثائقهم واسلحتهم وتسليمها الى القيادة , اما النقود او قطع الذهب الموجودة لديهم فيأخذها الجنود انفسهم . وحدثّنا سيريوجا كيف اكتشف الجنود سوق الحشيشة الافغاني , وكيف تعوّد بعضهم على تدخينها , وكيف كانت القيادة العسكرية تتخذ الاجرآءات الصارمة والحازمة جدا ضد هؤلاء الجنود عند اكتشافها لهم.
بعد عودته الى قرغيزيا السوفيتية, اصبح سيريوجا يمتلك هناك دارا متواضعة وقطعة أرض ملحقة به , وكان يستطيع تدبير شؤون حياته بزراعة قطعة الارض هذه , والعمل في النجارة , وهي المهنة التي تعلمها اثناء مسيرة حياته . ولكن انهيار الاتحاد السوفيتي قلب حياته رأسا على عقب, اذ بدأت مظاهرات الشباب القرغيزي تخرج ضد الروس , وحاول الروس ان يصدّوا تلك الاعمال ضدهم , ونظموا خفارات حماية , ولكن الشباب أخذوا يحرقون بيوتهم , ولم تستطع حكومة جمهورية قرغزستان الجديدة والضعيفة ان تحميهم , وهكذا اضطروا ان يتركوا بيوتهم وان يرحلوا الى روسيا . وفي روسيا لم يكن ينتظرهم أحد , وهكذا حاول سيريوحا ان يتدبر حياته , وحاول الحصول على جنسية روسيا الاتحادية , ولا زال لحد الان – رغم مرور 20 سنة تقريبا على محاولاته – لم يحصل عليها , وهو يعيش الان في قسم داخلي خاص بوزارة الداخلية لهؤلاء الذين لم يحصلوا لحد الان على الجنسية , وكله أمل بالحصول على الجنسية الروسية قريبا , وعندها كما قال – ( سيبدأ حياته من جديد !!!).