(1)
حين ألتقيتُ الصديق الشاعر هاشم شفيق في المربد الأول ،بعد غياب ٍ تجاوز ربع قرن ، أهداني ونحن في غرفته في فندق المربد ..(مئة قصيدة وقصيدة/ ط1/ 2003) وأخبرني انه لايحمل معه سوى هذه المجموعة الشعرية، كان ذلك بتاريخ 5/4/ 2004 ، لم أهملها، لكن يبدو ان درجة الاتقاد في الكتابة، تأخرت كثيرا وتحديدا عشر سنوات ، خلالها أهداني الشاعر في زيارته التالية كتبا أخر ، وكتبتُ عن كتابه الشعري(حميميات) نصا مشعرنا وهو منشور في مركز النور.. ومن خلال تكرار قراءتي أقول ان (مئة قصيدة وقصيدة) لاتخلو من جرد شعري ،لما لم ينشر في مجموعات الشاعر الغزيرة ،فالقصائد هنا تتوزع بين 1986 -1999..وكذلك ستستعين قراءتي الانتاجية بالمجموعة الشعرية (هاشم شفيق على الطريق)..من أجل تفعيل عنوان القراءة ..
(2)
المستحيل هو الممكن لدى الشاعر هاشم شفيق ..وتمكين الشاعر هو شحن الملفوظ بخيال طفل وعينيّ ميتافيزيقي، أو
(تأتي القصيدة ُ
من دمعة ِ الفيلسوف ِ
وإطراقة ٍ للحكيم ِ/ص41- الشعلة) واشكالية هاشم، ليست عبر الكلمات أي ليست مع الكم بل هي دائما مع الكيف..يتضح ذلك في قصيدة (كلمات )
(أجدُ الكلماتِ
بزاوية البيت
مرمية ً مهمله
أجد ُ الكلمات ِ
وراء الجدارِ
على الرفّ في المزهرية ِ
أبحثُ عنها وراء الخزانةِ والباب
بين الأرائك ِ
تحت الوسادة ِ
خلف الستائر
أبحث ُ في صورة ٍ
وإطار معلّق
وأبحثُ في جرّة ِ الكحل ِ
في قلم للشفاه ِ
وفي المنتهى
أجد الكلمات بحديقه
وفي شارع جانبّي
على الشجرات
أرى الكلمات ِ
على ريش قبّرة ٍ
فوق ماء السّحاب
أجد الكلمات هنا
في ضباب الطريق
وفي غابةٍ أجد الكلمات ِ
ولكنني أحترس
حين أمدُ يديّ إليها
أراقبها
وأقول لنفسي
ماأصعبَ الكلمات /ص35- 36) ومن جانب ثان، يرى هاشم الى القصيدة كخليط في البدء، بدايتها من هلام ثم تغطس حيث الشاعر يعمّق نفسه في عروج أزرق كما هو الحال في قصيدة (الشعلة) فالأهم بالنسبة للشاعر ان تصعد القصيدة في الروح( تصاعد الكلمات
من العمق
من داخل ٍ لايرى
ومن شعلة ٍ باطنيّه /ص42)..
(3)
في هاتين القصيدتين ،أعني (الكلمات) و(الشعلة)..أرى وظيفتين للقصيدتين ،ويمكن أعتبارهما من نوع القصيدة المفكرة بذاتها ، فالقصيدتان تشتغلان على ماقبل النص، من خلال الاعلان عن كيفية تصنيع القصيدة ، وكأن القارىء، يرى فيلما تجري فيه كيفية صناعة الفلم ذاته وهذه الوظيفة هي الاولى والأهم ثم تليها الوظيفة الثانية ،أعني الوظيفة المألوفة للقصيدة وهي الامتاع والمؤانسة…ولايتوقف الشاعر عند هذا الحد ..
(4)
في قصيدة (حاجة/ ص119) يتقدم بقفزات كنغر نحو تحقيق حلمه الشعري :
(الآن أريد الأبد َ
أريد ُ المجهول َ الكامن َ
خلف الآفاق ِ
فهذا الجبل ُ المتربُ
قرب يديّ
لكني أحتاج الآن َ
الى قيراط ِ خيال ٍ
والى أوقيّة ِ فانتازيا
الآن بهذا الليل ِ المغبرّ
المائل ِ لزوال ٍ محتوم)…هذه القصيدة معلقة بين قوسي : الأبد / الزوال .لكن مابين القوسين هو المستحيل الممكن ضمن إرادة الشاعر !! وها أراني مع شوبنهور كامن في روح هاشم اللائبة فالعالم بالنسبة لمؤلف (العالم إرادة وتخيل) يرى فاعلية الادراك لاتتجاوز مديات سطح العقل البشري ،لذا فهو يبحث عن تلك القوة الحية الملحة ،الكامنة وراء العقل الواعي ،حيث تقبع الارادة الشعورية أو اللاشعورية…/ دكتور معوض 101.. والعلاقة بين قوسيّ القصيدة، وفق قراءتي المنتجة أراها تقترب من العلة والمعلول..ويمكن أعتبار القصيدة من قصائد الليل :
(الآن بهذا الليل المغبرّ) والليل هنا يتصف بثلاث صفات
*ليليتهُ ..أعني سواده
*غبرته
*ميلانه لزوال محتم..
إذاً من وعي الشاعر هاشم شفيق بآنية الزمن وحتمية الافول فلسفيا أنبجس ماء القصيدة وتفتحت وردتها وغمرتنا بأريجها..ويمكن أعتبار السطرين الأخيرين في القصيدة هما النواة المولّدة لسيرورتها..ونلاحظ ان القصيدة لها شكل الدائرة فهي تبدأ : الآن وتنتهي : الآن وهذه الآنية بمثابة قوسين يحتويان إرادة الشاعرومخياله ،فهو يريد ويحتاج..وبين أريد وأحتاج تنتظم رغبة الشاعر..والآن الثالثة لها وظيفة تجسير بين الآنتين والتجسير يقع في السطر السادس من القصيدة : وثمة مثنوية للإرادة ومثلها للحاجة :
(أريد الأبد َ
أريد المجهول الكامن خلف الآفاق
أحتاج الآن
الى قيراط خيال
والى أوقية فانتازيا )
والتساؤل هنا ضمن ميتافيزيقيا الشعور، إذا كان الجبل المترب قرب يدي الشاعر ، فما السر الكامن وراء الإرادة / الحاجة ؟ترى قراءتنا ان القرب بالنسبة للشاعر يعطل التلقي لديه ويجرّد الشاعر من قوى التخييل والغرائبي.. تلك القوى التي تجعله يخبرنا :
(أحياناً أغسل ُ وجهي بصخور
وأنظف ُ وجهي برمال
أفرك روحي بحصىً
لأشذبها / ص122- الاول والتالي)..
(5)
حين يقول السياسي في خطبته إنه غسل الجبل والحجارة والثلج والرمال والحصى والرياح والظلام والذرى والكهوف…حين يقول السياسي كل هذا في خطابه السياسي ،سينال سخرية المشاهدات والمشاهدين وستكون خطبته نكتة الموسم ..والسبب ان الخطاب السياسي له وسائله في إقناع الحضور وهي وسائل ميدانية ..أما الشاعر الحقيقي فمطالب بتوظيف قدراته بتقشير المفردة من القاموس وشحنتها على مقياس الانزياح الدلالي..وهاشم يوقد قصيدته من شرارات شتى، شرارت غير مشروطة بأي شرط، فهو يلتقط المهمل والمغبر والشاحب والهارب من لحظته ولكن لايجد الأمر سهلا وفي قصيدة(الكلمات ) يضع بين عيني المتلقي مواده الخام في إنتاج قصيدته ، وهذا يعني انه لايكفي توفر مواد انتاج القصيدة ، على أهمية هذه الوفرة..،المهم هو الكيف الانتاجي وليس الكم، أعني تقنية صوغ القصيدة وليست كلمات القصيدة : وهذه الوظيفة يمارس بمهارة مائزة هاشم شفيق في قصيدة (الجبل/ص97)
( الجبل
غسلت ُ الجبل
غسلتُ الحجارة والثلج َ
ثم غسلت الرمال َ
غسلت ُ الحصى
والرياح َ التي علقت في الشجر
غسلت الجبل
غسلتُ ظلام الجبل
أنرتُ الممرات والطرق الجانبية َ
وسط الجبل
أنرت ُ السراديب والمرتقى
والمخابىء في عطفات الجبل
غسلتُ القمم
غسلتُ الذرى والكهوف لهم
كي يمرّوا ضحى
في نهار الجبل
24-2- 1996 )
يشتغل الفعل الشعري للقصيدة على الاحالة التكرارية لفاعلية الغسل بصيغ الماضي (غسلتُ) وتتكشف الوظيفة الشعرية لهذا الفعل في نهاية القصيدة ،فهو فعل استباقي يمهد / يبرر: فعل (غسلتُ) المتكررثمان مرات يفصل بين التكرار السادس والتكرارين الأخيرين ،إحالة مزدوجة لفعل (أنرتُ) ..وهنا سأعقد اتصالية تماه بين الفعلين : غسلتُ / أنرت فكلاهما ينشدان الضوء، فنحن نغسل الملابس لنعيدها مضيئة من خلال نظافتها وللغسل وظيفة التغيير والتجديد لدى هاشم شفيق :
(لعلي أسبرُ غور الأشياء وأغسلها
برؤىً وتصاويرَ جديده / ص177- قصيدة – المخبوء) ولتأكيد قولنا ان الإنارة والماء لها نفس الوظيفة نلتقط هذه العينة الشعرية ..
(فهل أغسل ُ الكلمات ِ الصديئة ،
أغسلها بالضياءِ
لكيما أُنظّفها
من غبارٍ نتأ؟ /ص47- قصيدة – الكلمات أيضا)
وللفعلين ( غسلت ُ/ أنرت ) في قصيدة الجبل شحنة إحتفائية بالقادمين وليس القادمات يتأكد ذلك ب:(لهم) و(يمروا).. وسيكون ذلك بتوقيت أجمل ساعات النهار (ضحى)..وهذا الاحتفاء الشعري ليس مستوردا من اللغة الاجنبية إنه سجية عراقية متداولة أجتماعيا في استقبال الأحبة القادمين بعد طول غياب ،وهنا يومىء الفعل الشعري الى ماقبله الى خارج النص ،هناك من طال غيابه عن الوطن ، وقد حان وقت عودته ولكن هذه العودة ليست طبيعية، هي عودة الى الوطن أشبه بالتسلل صوبه بسب شمولية القمع في تلك الفترة والحصار الذي أعلنته أمريكا وحلفاءها ضد الشعب العراقي..وسيكون التسلل عبر شمال العراق المرموز له بالجبل والثلج..العودة الى تاريخ نشر القصيدة يعين القارىء في تفهم قراءتنا المنتجة، وقد ثبتنا التاريخ في نهاية القصيدة.. وحين يعود سيكون بأستقبال الشاعر
(رماد العودة / ص88- هاشم شفيق على الطريق)
(ربع قرن ٍ
مضى في المنافي
وها أنذا للعراق أعود
متاعي زهيد ٌ
وملكي قليل ٌ) ثم يختم القصيدة بعد عدة اسطر بالقول الشعري
(وهأنذا أقرأ الآن
هذا الرماد َ
وأخطىء في العد
ثم أعيد)..
(6)
الشاعر في الانسان هاشم شفيق ، لم يكتف بفعل الغسل والإنارة، هاهو يتماهى في الموجودات يتضح ذلك في قصيدة أخرى..
( تحولات باب
أنا الباب
في الأصل كنتُ شجيره
وغاب َ خشب
وحين كبرت ُ على غابة الأبنوس ِ
تمردتُ
ثم إنطويتُ على خشبي وعروقي
لأصبح باباً
وها أنذا شاخص ٌ في بيوت العراق ِ
ولكنني الآن عدت لماضيّ
عدت ُ الى الأصل
أخشاب َ ريحٍ وماءً
24-2- 1996)
في هذه القصيدة ،حزمة عالية الجودة من شاعرية أحلام اليقظة ،بحسب باشالار… ترد مفردة باب ثلاث مرات ..الأولى في ثريا القصيدة.. والثانية في السطر الاول (أنا الباب) والثالثة في (لأصبح باباً وها أنا شاخصٌ في بيوت العراق)..في العنونة (تحولات باب) وهو من العنوانات الاشتقاقية، المستلة من داخل النص وهنا تنتهي وظيفة مفردة باب.. في المرة الثانية، ترد الكلمة داخل النص وليس خارجه كما في الاولى والكلمة مسبوقة بضمير المتكلم المفرد (أنا) ومن خلال هذا الضمير سيحصل القارىء على وجيز سيرة الباب منسقة بين ثلاثة أزمنة
*الماضي : في الأصل كنتُ شجيره
*الحاضر : ها أنا شاخصٌ في بيوت العراق
*المستقبل كعود أبدي : ولكنني الآن عدتُ لماضيّ
عدتُ الى الأصل ِ
أخشاب ً ريحٍ وماء..
كقارىء يستوقفني السطر التالي في التحولات
(ولكنني الآن عدتُ..)
ان وجود حرف الاستدراك (لكن) كَسَرَ نسق التحولات وحصر الاستدراك براهنية توهمنا بتوقيت معين (الآن)..لكن الآن غير محدد بظرف زمكاني معين ،بإستثناء وقت صلاحية القصيدة للنشرأعني 24-2-1996والتساؤل هنا كم المسافة بين الباب في هذه القصيدة ورهف آخر(يهتزُ بأنفاسٍ هذا الباب / ص23 – قصيدة معادلة) وتماهيات الكائن الشعري بالموجودات باذخة الثراء لدى هاشم شفيق الذي يقول قولة حق
(سوى الكلمات هنا
ماأمتلكت ُ
وغير الرؤى
ماجمعت ُ
ولم أبن ِ في المنتآى
غير بيت القصيد /ص88- رماد العودة / هاشم شفيق على الطريق)..ان هذه الملكية هي أثمن رأسمال رمزي تجعله يفّعل إتصالية مؤاخاة بين الكائن البشري وجدار أصم بالنسبة لسواه ..
(فهذا الجدارُ أخي
ساهرٌ مثلي الآن َ
يسندني
ثم أسنده
في ليالي الشتاء أريحُ يديّ
ورأسي عليه
فيحضنني بأذرعة ٍ من صخورٍ
فتأسى عليّ رمال ٌ
وتحنو حصاة ٌ
ويدنو من الروحِ
طعمُ الغبارِ
………
إذن فلينم
في النهارات مثلي الجدار /ص29-30/ الأخ)..إن الشعري هنا عبر منظوره في التخيل والغرائبي أجرى عملية أنسنة باشالارية،على موجود ثابت هو الجدار فالشاعر يحاول تجسير علائقه مع الآخر والموجود من خلال شحن المنظور بدفء الحميميات ..التي لايعيقها سوى الشرط الاقتصادي للحياة، فهذا الشرط له ضراوته التي تجرد الانسان إرادة التخيل ، يتضح ذلك في قصيدة( عيش/ ص75)
(عشتُ في غيمة ٍ من زبيب ٍ
وصافحت ُ أكثر من جبل ٍ
وتولّهت ُ بالضوء
حين يمس ُ بياض الحجر
هكذا عشت
مقتسماً في الاعالي
حياة الصقور
ولما هبطت الى الارض ِ
ثمّة َ من صدني
وأنا ذاهبٌ باتجاه الرغيف )…