23 ديسمبر، 2024 3:11 م

سيد قطب: ناقدا أدبيا

سيد قطب: ناقدا أدبيا

صدفة، وجدت كتابا يحمل عنوان (مهمة الشاعر في الحياة وشعر الجيل الحاضر) من تأليف “سيّد قطب” ، على أرصفة شارع الرشيد في حيدرخانه بغداد العباسية بالقرب من شارع المتنبي. استهواني عنوان الكتاب واسم مؤلفه ورخص ثمنه فاشتريته.
بعد قراءتي الأولية له ، تبين لي أن الكتاب هو عبارة عن محاضرات ألقاها المؤلف عام 1932 عندما كان طالبا في المراحل الأخيرة من دراسته طرق التدريس والتربية في “دار العلوم” المصرية، وهذه الأخيرة تشبه تماما “دار المعلمين العالمية” في بغداد ، ثلاثينات القرن الماضي ، التي تم تغيير أسمها الى “كلية التربية” لاحقاً. طُبِعَ الكتاب في العام 1934 ، وأعادت “منشورات الجمل” التي يمتلكها الشاعر العراقي “خالد المعالي” المقيم في (كولونيا) ألمانيا، عام 1996، بغلاف جميل من تصميم الشاعر (المعالي) نفسه، والنسخة التي بين يدي هي طبعة “منشورات الجمل”.
       قبل أن أتناول الأفكار النقدية الأساسية التي ناقشها المؤلف في كتابه والتي وجدتها مفيدة ومتقدمة وجريئة ، أجدُ من الضروري، إيجاز القارئ ، بشيء عن المؤلف، وهو المعروف بنشاطاته (السياسية الإسلامية) ، مؤكدا أن الكتاب (المحاضرة) كان قد تم تأليفه قبل انضمام (سيّد قطب” الى “الإخوان المسلمين” ، وأن مقالتي هذه لم تناقش أفكار الرجل (الإسلامية) أو منهجه ( السياسي)، لا من بعيد ولا من قريب، لأنني لا اتفق مع منهجه وآرائه السياسية جملةً وتفصيلاً، بل أعرضُ وأناقش أفكاره النقدية الأدبية فقط .
       تقول المصادر أن ” سيّد قطب ابراهيم حسين الشاذلي” ولد في قرية (موشا) في محافظة (أسيوط) في 9 تشرين الأول 1906، وتم إعدامه في 29 آب 1966، عمل معلماً ثم حصل على الليسانس في طرق التدريس والتربية عام 1933، وحصل على بعثة في نفس اختصاصه الى أمريكا لمدة سنتين عاد منها 1950، وانضم الى جماعة الإخوان المسلمين في نفس العام، وعاش الأزمة التي شهدها (التنظيم) عام 1954 والتي استمرت وأدت الى إعدامه، كما أوضحنا، عام 1966.
       برز في مطلع حياته كناقد أدبي ، إضافة الى تعبيره عن أفكاره بخصوص الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر عبر مقالات عديدة ، أذ كان ذو توجه (ليبرالي)، وانضم الى حزب (الوفد) المصري ثم تحول الى (الدين السياسي )، الأمر الذي دعاه تقريبا الى ترك كل نشاط أدبي.
       أبرز مؤلفاته الأدبية، ديوان شعر بعنوان الشاطئ المجهول 1935، وكتاب طفل من القرية 1946، وهو سيرة ذاتيه، النقد الأدبي أصوله ومناهجه 1948، التصوير الفني في القرآن 1945، مشاهد القيامة في القرآن 1948، اما كتابه (في ظلال القرآن) فقد بدأ بنشر مقالاته منذ عام 1951 ولغاية 1964 ويقع في (30) جزءاً ، جمعَ فيه خلاصة ثقافاته الفكرية والأدبية وتأملاته القرآنية. إضافة الى ذلك نشر العديد من الكتب (الإسلامية) ، حيث زارت مؤلفاته على عشرين كتابا.
       ما أعجبني في هذا الكتاب (مهمة الشاعر في الحياة) هو جرأة الأفكار النقدية التي طرحها المؤلف التي وصفها أستاذه (محمد مهدي علام) بـ “الجرأة الرشيدة” التي تعتمد على مبدأ الاستقلال بالرأي. تمثلت تلك الجرأة في قسوته على شاعر كبير له معجبيه ووزنه ، في الساحة الشعرية في ذلك الوقت، وهو (احمد شوقي)، اذ أن “سيد القطب” كشفَ (سقطات) وقعَ فيها شوقي لم يجرؤ احد غيره على كشفها.
    إن هذه الجرأة ربما كان مصدرها ان الناقد “سيد القطب” كان شاباً وطالباً في مراحله الأخيرة من الجامعة، إضافة الى حماسته نحو التجديد ومساندة ما يسميه ب (جيل الشباب الناشئ) من الشعراء في حينه . سأُّؤجل ملاحظاتي واستنتاجاتي الى نهاية المقالة حول المفاهيم والأفكار النقدية الواردة.
     كانت أفكار سيد قطب، منتظمة حسب منهج واضح ، أذ  يبدأ بفصل قصير يناقش فيه مسألة الشعر وعلاقته مع الفنون الجميلة الأخرى والفلسفة: يرى ان الموسيقى هي الأولى في عالم الفنون الجميلة لأنها ” تخاطب العاطفة بأقرب وسيلة، وبواسطة مُبهمة غير محدودة”، ثم يلي ذلك “الغناء” ، “ويجيء الشعر في المرتبة الثالثة”، ثم يتلوه التصوير فالنحت او يتقدمان عليه اذا لاحظنا غموضهما عنه في التعبير”. ويخلص الى القول: “الشعر الذي يغرق في النظريات المحدودة، والحكم الجافة ليس شعرا” وان ” الشعر الذي يخاطب السمع والبصر، مقتصرا عليهما، لايعدو ان يكون شعرا سطحيا”. ” الشعر هو الذي يحدثك في أعماق نفسك، ويصف لك الشعور الحساس وصفا غامضا مبهما، يدعْ لشعورك ان ينطلق، ولخيالك ان يتيه لأنه لايضع إمامك مقاييس وحدودا.”ص12.
      يناقش المؤلف مسألة من المسائل المهمة وهي العلاقة بين الشعر والفلسفة او بعبارة ابسط (الشاعر والفيلسوف): يرى أنه لا يوافق على عبارة (اعذب الشعر أكذبه) والتي  ” يفهم منها الناس ان الشعر والدجل شيء واحد ، وان الشاعر والمهرج اسمان لمسمى!”.
     يشرح مفهومه بقوله :”الشاعر أعرف بالحقيقة من الفيلسوف”. ولكنه يختلف عنه في التعبير لأنهما يختلفان في إدراك هذه الحقيقة، وفي طريقة إدراكها”، مؤكدا ان الفيلسوف “يأخذ مكانه في معزل عن الحياة”، اما الشاعر”فينغمس في الحياة، يحس بإحساسها او يشعر شعورها، ويتفاعل وإياها، ثم يتحدث عنها بما يحس”، وينتهي بالقول “ان الذي يشعر ، اصدق من الذي يشاهد. وان كان الثاني يلوح ادق في التعبير” لكنه يستدرك: “ان الشاعر يسرح في جو غير محدود، اما المشاهد “الفيلسوف”.. لديه وسائل قياس وعدة الوزن والكيل في جوه المحصور المعلوم”.ص13.
      في الفصل الثاني من كتابه، يناقش”سيد القطب” سؤال مركزي هو : من هو الشاعر؟. يقول”الشاعر الحقيق بهذا اللقب، هو الذي يحس بالحياة إحساسا عميقا، ويترجم عنها للأحياء. هو الذي صاغته الحياة ليكون واسطة بينها وبين أبناءها الآخرين”، مشددا على ان “تتوافر فيه صفتان أساسيتان : الاولى ” ان يكون إحساسه بالحياة أدق وأعمق من إحساس الجماهير”، والثانية “ان يعبر عما يحسه تعبيرا أسمى من تعابير الجمهور مظهرا في تعبيره هذا نفسه، تأثراتها بما شاهدتْ وأحستْ. لا أن ينقل لنا الصور كما تراها سائر العيون ” ، ويشير الى بعض القطع الشعرية لشعراء  شباب (في زمنه 1932) اجادوا التعبير.
      ينتقل بعد ذلك ، الى نقد مفاهيم البعض الذين يقدسون ( الماضي ) وشعره ، ويرفضون ( الحاضر ) – في زمنه — ، حيث يصف أولئك الملتزمين ب ( الماضي ) بأنهم ” يقيسون الشعر بمقياس القِدَم كالنبيذ . “
     ولايؤمنون بحقيقة بأنه ” ليست للفنون مقاييس محدودة ، وتعاريف معلومة ” .  ويستمر في نقده للذين يريدون للشاعر أن يكون “مصوِراً ” : أذ يؤكد
    أن هذا المفهوم يُعَّدُ ” غلطة كبرى ” ، لأن الذين يريدون ” من الشاعر أن يكون مصوراً ناقلاً فقط ، انما يخرجون به أولاً عن طبيعته الأولى ، طبيعة الشاعر مصوِّر العواطف ، أو المناظر كما يراها هو  لا كما تراها سائر العيون ، هم ينحطون به ، ثانيةً ، الى مرتبة صغار المصورين ، الأمر الذي لا نطيق أن ننزلَ الشاعر الى مستواه كما يريدون .” . وينتقد بعض الشعراء الذين يعمدون الى ” التشبيهات الحسيّة ” أذ ” يعطونا عدة أشباه للشيء الواحد ، لا تزيدنا به تعريفاً ، وليس بينها وبينه من صلة الا ماتراه العين اللون والحجم والشكل ، أو ما تسمعه الأذن من النغم والرنين “. وضربُ مثلاً على ذلك ، قول الشاعر ( أبن المعتز )في تشبيه ” الهلال “:  
انظر أليه كزورق من فضة            قد أثقلته حمولةٍ من عنبر    ٍ
ان صورة ” الهلال ” عند ” أبن المعتز ” ، — حسب سيد قطب – هي ” نسخة من صورة الهلال لا علاقة بينها وبينه في طبيعتها الأصلية غير ما تراه العين من البياض والسواد ” . ويُضيف ، ” كذلك التشبيه المشهور :
   فأمطرتْ لؤلؤاً من نرجسٍ وسقتْ         ورداً وعضتْ على العناب بالبردِ 
 انما يحشر لنا مجموعة لأشياء بيضاء وحمراء ، ليس بينها من علاقة الا  علاقة الألوان . وألا فأية علاقة بين الدمع واللؤلؤ ، بين العناب والأنامل ، وبين السن والبرد . ألا علاقة العين المجردة وهي علاقة سطحية بين المشبه والمشبه به” . ويذكر أمثلة أخرى في وصف ( السفن ) و( البدر )في أبيات مختلفة للشاعر أحمد شوقي ، تنطبق عليها مقولته في ( التشبيهات الحسية )ص25 .ويبعد عن الحقيقة حين يجدها . وهو
      في فصل اخر ، يتناول المؤلف موضوعاً مهماً وأساسياً في الشعر ألا وهو ( الخيال ). يرى : ” أن الخيال صلة بين الأنسان و اَماله البعيدة ، التي لا يحققها له الواقع ، فيبعثُ أليها بشباكٍ من خياله ، يُدْنيها منه ويقربه أليها ” . لكنه يضيف ، ” ليست مهمة الخيال أن يشتطَّ ويبعد عن الحقيقة حين يجدها.  وهو يصنع ذلك يفقد طبيعته ، التي هي ربط بين الفكر والحقيقة التي لم يهتدِ أليها بعد ، أو بين الأنسان واَماله المترامية ” . لذا فأنه يُعرِّج الى موضوع الشعر والحقيقة ، لوجود علاقة بين الخيال والفلسفة والحقيقة ، أذ يقول : ” ان الشعر الذي يُعَبر عن الحقيقة ، قد يفقد شاعريته و موسيقاه، ويصبح فلسفة مجردة جافة ، لا دخل  فيها للشعور الا بمقدار ……………….ولكن الحقائق التي يُعبر عنها الشعر ، من نوع اخر غير الحقائق التي تعنى بها الفلسفة  ، وهي حقائق الأحساس الخفي ، التي قد يختلف في تقديرها كل فرد عن الاخر .” .ويذكر نماذج شعرية لشعراء يعالجون هذا المفهوم بطريقة شعرية ناجحة حسب رأيه .
      أما علاقة الشاعر ب ( الكون ) واحساسه به ، فقد تناولها المؤلف بطرقة موجزة مؤكداً على نظرية ” وحدة الكون ” ، سواءً من وجهة نظر ” علمية ” أو ” صوفية “، ويستشهد بأبيات وقصائد ل ( أبن الرومي ) وشعراء  أخرين ، من جيل المؤلف ، تؤكد الأحساس بالصلة بين الأنسان والطبيعة الى حد كبير ، حيث أنهم    أشركوا ” الكائنات جميعاً – حية وميتة –، ومنشأ ذلك كله أحساسهم بوحدة الكون ……………..فنظروا أليه نظرة المحيط بالأطراف ، المتعمق في القرارات “.
      ويخلصُ سيد قطب في مناقشته ” الخيال الشعري والمبالغة ” الى الخلاصة التالية : ” وليس معنى الخيال هنا ،أن يبالغ الشاعر وهو مدرك لمبالغته ،غأن ذلك شأن المُهرجين . ولكنه يبالغ بطبيعته ، ودون شعور منه بمبالغته ، لأنهأ أ شد حساسية وأدق شعوراً، فهو يتلهف لما يريد، وهو يتألم للاصطدام __– وما أكثر الالام ، أذا كثرتْ الاَمال – وأنه لصادق في تلهفه ، كما هو صادق في تألمه على السواء ” .
     ويختم الفصل بالدعوة الى ضرورة ما سماه ب ” تناسق الخيال ”  بحيث تكون أخيلة القصيدة جميعها متناسقة ، والظل الذي تطبعه الصورة المُتخيلة ظلاً كاملاً ، متلائم الأجزاء ، لا نتوء فيه ولا تعارض.وبعبارة أخرى ، أن تكون وحدة الشعر هي القصيدة  لا  البيت – أو الشطر –كما غالى بض المتقدمين ” . مؤكداً أن دعوته هذة تتفق و ” طبيعة الجمال ” لأن ” الجمال لا يعترف بالأجزاء ، بل ولا أتصور وجوده في الأجزاء كل على حدة ‘فالجمال تناسق الأعضاء ، أو هو قوة تنتج عن هذا التناسق .” .ويعطي أمثلة يناقشها تفصيلياً عن ( تعارض الأخيلة )وعدم تناسقها من قصيدة احمد شوقي عن ( أبي الهول ) ص 44 -48 ، أضافة لنماذج لشعراء ( شباب ) ، يبرز فيها (تناسق الأخيلة ) حسب تعبيره .
     في فصل أخر ، يستعرض المؤلف اراءه بشأن ” ذوق الشاعر “ومدى  ” أثر البيئة ” في ذوق الشاعر وشعوره وخياله ،أذ يرى ، أن ” الشاعر الحقيقي …. لابد له من ذوقُّ أرقى من الأذواق ، ذوق يستطيع الملائمة في الأحساس والتناسق في التعبير ” ، مشيراً الى ” أن تنافر الأخيلة والصور ، قد يكون راجعاً الى البيئة الطبيعية ، والى درجة الثقافة التي تهذب الأذهان والإحساسات ……. والى الحالة الاجتماعية ، وما فيها من أرتباط بين الأفراد ، أو تنافر وشرود . ” . منتهياً الى القول ، ” كل هذه عوامل تؤثر في نفس الشاعر وذوقه،وبالأخص في ناحية أئتلاف المعاني وتناسق الأخيلة ، وهذه نظرية أكثر ما تكون وضوحاً في الشعر الجاهلي . وهي في البوادي أظهرُ منها في الحواضر .” . ويستطرد في شرح ظروف بيئة الشعر الجاهلي أو ما يصطلح هو علية ( الشعر الصحراوي )، جاهلياً كان أو غير جاهلي ، لينتهي الى القول ،ان البيئة الصحراوية  توحي الى الشاعر ” بخيال متنافر  لا أرتباط بين أجزاءه ” ، لذا ، ” لا نرى عجباً أن يكون الشعر في هذه الفترة ،مشرد الخواطر ، مشتت الأخيلة تكاد كل شطرة – لا كل بيت – تكون  وحدة قائمة بذاتها .” ، مُستثنياً بعض النماذج الشعرية ، من هذا الحكم ، عاداً ذلك بسبب حالة ” نفسية عارمة “تحدث عرضياً لبعض شعراء البيئة الصحراوية ، الا أنه يعود ثانيةً ليصفَ أحساس غالبية هؤلاء الشعراء بأنه ” ساذجاً وخالصاً “بسبب ظروف البيئة نفسها، مؤكداً على أنه يعني بمصطلح ” الشعر الصحراوي “” : ” ماقيل في البادية ولم يكن جاهلياً ” ، ذاكراً بعض الأمثلة ص52 ،53 .
      وتأسيساً على هذه المفاهيم النقدي التي فصلها المؤلف ، ينطلق للأبحار في توضيح بيئة ( بلاد العرب ) وعلاقتها بالشعر ، حيث يؤكد أن ” البيئة العربية ، بيئة طفلة ، لا تركيب فيها و لا تنوع ، وهي لا تحتوي الا لوناً واحداً من ألوان الحياة . فهي اذن ستخلق احساساً ذا لون واحد ، لا يحيط الا بجانب من جوانب الشعور ” ، لذا فانها لا تُقارن ب ” البيئات المزدوجة المركبة التي تجمع كثيراً من ألوان الحياة المختلفة المتشابكة ” . ._ويضرب مثلاً حول هذا الرأي بالأشارة  الى ” الشعر العربي نفسه ، أيام الدولة العباسية ، حينما تفتحت جوانب الأحساس بتنوع المناظر ، وتركُّب الطبيعة ،وأرتقاء ألوانها ” . موضحاً، أن أموراً جديدة حصلت في الدولة العباسية ،اضافة الى البيئة الطبيعية ، أبرزها، ” ماذاعََ من علوم الثقافة المعربَّة والمؤلفة ، والأختلاط بالامم المجاورة ….” ، مشيراًالى أن هذة العوامل ، ساهمت في خلق ” خيال مركب ، وأحساس عميق ” عند ا لشاعر العبلسي” . وأنسجاماً مع هذا المفهوم الذي تدرجَ بالشعر العربي من ” البساطة الى التركيب  ومن السطحية الى التعمق ومن التنافر الى التاَلف “، ينتقل بأشارته الى الشعر العربي في الأندلس ، الذي ساهمتْ بيئة الأندلس الطبيعية وظروفها العامة في جعله شعراً عميقاً واسع النظرة في وصفه ، عكس البيئة الصحراوية التي كانت ” مخوِّفة  مقطوعة ، لا يطمئن سالكها أليها ، بل يعاديها وينفر منها ” ، ويعطي أمثلة عديدة
للمقارنة مع تحليلها ص 56،57، 58 ._
في فصل اخر ، يناقش الكاتب قضية (التعبيرات الشعرية)  . أبتداءاً يقرر المؤلف، بوعي نقدي ثاقب ، بأنه لا توجد هناك ” ألفاظاً بعينها ، أو تراكيب خاصة ، تليق بالشعر ، وأخرى لا تليق ” ، ويشنُّ هجوماً لاذعاً على أولئكَ الشعراء الذي يستخدمون ما يسميه ب ” الأساليب البراقة ” التي ” كانت سبيلاً لأخفاء ضعف الشعور  ونضوب الأحساس عن أعين الجماهير ، با أعين كثير من المشتغلين بالأدب وأستطاعت بفخامتها الزائفة ، أن ترفع الى مصاف الشعراء العِظام دجاجلة مُهرجين “
       ينتقل بعد ذلك، الى مفهومي “التعبير الشعري والتعبير النثري” ليخلص الى القول، أن التعبير الشعري من ناحية “تصويره للمعاني والاخيلة” يتميز عن التعبير النثري في هذه الناحية، “فيحسن ان يكون مجملا لا مفصلا، بحيث يُريكَ جانبا من المعنى او الصورة. ثم يدع لذهنك ان يستلهم بقيتها… وهذه ميزة الشعر عن النثر”. ويعطي امثله شعرية ص 64 -65.
        أما في الفصل الاخير، فيناقش الكاتب موضوع “شخصية الشاعر”، موضحا، أن الدراسات النفسية اثبتت، “ان الانسان لايستطيع التأثير في غيره مالم يكن ذا شخصية واضحة يعتز بها، ولايفرط فيها. شخصية واضحة تستطيع الاقناع الصامت والاغراء بالمتابعة”، لذا يقرر ان الشاعر هو الذي يصور الصورة والاحساس والمشاعر، “كما يراها هو ويشعر بها، لا كما تراها سائر العيون”، لان الاحساسات النفسية للشاعر، هي مجاملة في التعبير، لان هذا الاحساس هو الذي يتميز في كل شاعر عنه في الآخر، أما الالفاظ والمعاني فهي هباء مالم تتصل بذلك الاحساس ومالم تكن منبعثة عن شعور”. منتهيا الى القول، في مسألة “الذات، والجماعة” عند الاعر، او مايسميه هو بـ “الشاعر وعصره”، فسيد قطب لايوافق الرأي القائل أن “الشاعر يجب ان يكون صورة لعصره، لا لشخصه، وهو لايستطيع ان يكون كذلك”، ويخلص الى القول : “ان تعبير الشاعر  متأثر بالعصر والبيئة وكل ما يحيط به، سواء عبر عن هذا، او عبَّرَ عن احساسه ، لان احساسه ذاته وليد هذه العوامل الى مدى كبير”، “فالشاعر يستطيع ان يعطي صوره لعصره في الوقت الذي يتحدث فيه عن نفسه وخوطره “. ويورد امثلة لذلك لبعض الشعراء ص 74 – 75.
    ملاحظات واستنتاجات
       ابتداء، انا من الموافقين على الراي القائل ان ” مواقفنا من الحياة” هي موقف نقدي على اعتبار ” ان الحياة في حد ذاتها نص كبير وان الموقف فيها يشبه الى حد ما الموقف من الادب”. حسب قول الدكتور يوسف نور عوض/ نظرية النقد الادبي الحديث/ القاهرة 1994 – لذا فأنني ارى ان اراء سيد قطب النقدية الادبية في هذا الكتاب، انما هي حصيلة ثقافته اللغوية والادبية والفلسفية وتجربته الحياتيه العريقة.
        الملاحظة الاولى التي تستوجب التأشير هي لغة الكاتب الواضحة، المعبرة، الدقيقة، الخالية – معظم الاحيان – عن التعابير الانشائية الفضفاضة، او السجع وغيره، مما كان سائدا في نثريات عصر كتابته وهو العام 1932، وقد جاءت تلك اللغة معبرة عن افكار جديدة – في زمنها- بجرأة تحترم الآخر وتشير اليه بما ينبغي ان ياخذ به.
        الملاحظة الثانية، هي دقة اختيار المؤلف لموضوعه، الا وهو “الشاعر والحياة”، وهذا موضوع معقد فيه من التفصيلات الكثير والتدخلات الاكثر، حسب طبيعة الحياة التي يعيشها الشاعر، اي شاعر، وفي اي عصر، اذ ان تشابك تفاصيل الحياة لابد وان ينعكس على الشاعر، الامر الذي يحتاج الى فطنة عميقة بالنفس البشرية، ومعرفة واسعة وثقافة شاملة من اجل تغطية هذا الموضوع نظريا وتطبيقيا.
   وقد فعلَ سيد قطب خيرا، في اشارته التي اختارها، بالرغم من اختصارها وايجازها. حيث ان تشخيصه لمهمة الشاعر، وطبيعة الشعر، بالمفاهيم التي طرحها، هي متقدمة على الزمن الذي كتبت فيه 1932، وتمت صياغتها بلغة واضحة وسهلة، بسيطة بعيدة عن السجع والحشو الزائد.
        الملاحظة الثالثة، وجدت دقة في استخدام المصطلح النفسي، في عموم صفحات الكتاب، وربما هذا ناتج عن دراسة المؤلف الاكاديمية في علم النفس، كجزء من اختصاصه في علوم التربية وطرق التدريس. فكانت مصطلحات: “النفس البشرية، الادراك، الاحساس، الشعور، الخيال،… الخ” وغيرها كثير، محددة، بعيدة عن الاستخدام العشوائي الذي نراه عند العديد من الكتاب سابقا ولاحقا.
       الملاحظة الرابعة، كان شرحه وتوضيحه لموقع الشعر بين الفنون الجميلة والاخرى موفقا، اضافة الى مناقشته لعلاقة الشعر بالفلسفة، وهذا الموضوع الاخير، يعد من المواضيع التي تحفل بها مقالات وكتب النقد الادبي الحديث في وقتنا الحاضر، وهي من المعاضل النقدية التي سعى ويسعى العديد من الشعراء والنقاد الخوض في غمارها، لذا كان سيد قطب سباقا في الاشارة اليها نظريا وتطبيقيا ، مع التأكيد أن هناك اخرين في التراث الفلسفي اليوناني والعربي الأسلامي ، تناولوا ذلك ، في أطار الشواغل الفلسفية و موضوعاتها .
        الملاحظة الخامسة، كان متقدما في وعيه النقدي الادبي لمفهوم “التعبير الشعري”، وضرورة خروجه عن القوالب الجاهزة، مع اشارته الواضحة  لعلاقة القارئ بالنص، وهذه اشارات نقدية متقدمة على زمنها كثيرا، اذ ان معادلة (المؤلف/ النص/ القارئ) هي واحدة من المعادلات التي تعنى بها الدراسات النقدية الادبية الحديثة ، وتفرد لها كتب وندوات وبحوث لمناقشة موضوع (تأويل) النص من قبل القارئ ،وتأثيره على اليات فهم النص وحيثياته ودور المؤلف فيها .
     الملاحظة السادسة، كان متقدما، ايضا، في مناقشة مسألة “الخيال في الشعر” وطرق التعبير عن هذا  الخيال، اذ أدانَ التصوير السطحي البراق في تعابير مليئة بالزخارف والطلاء الكاذب، بحجة (الخيال الواسع). وهذا الامر مانلاحظه في ايامنا هذه عند عديد من الشعراء، خصوصا من يكتب (شعر النثر) ، اذ نجد الكثير من (التهويمات الشعرية) غير المترابطة وغير المتناسقة،عبر انساق لغوية مضطربة فاقدة لحيوتها ومعناها، وايضا تحت حجة (التحليق بالخيال) و (تفكيك العقل) او (الانطلاق نحو مديات غير متناهية)! من اجل الوصول الى (جوهر الشعر)!!حسبما يدعون.
      الملاحظة السابعة، كان رأيه في الشعر الجاهلي، وتطور الشعر العربي بعد ذلك في العصور اللاحقة، خصوصا العباسي والاندلسي، قافزا على عصره بخطوات واسعة، خصوصا تحديده مصطلح (الشعر الصحراوي) ليشمل الشعر سواء كان جاهليا او غيره، مادام نابعا من بيئة صحراوية. ونفس الامر ينطبق على رأيه حول (وحدة القصيدة)، واعتباره (القصيدة) هي الاصل وليس (البيت او الشطر)، وهذه القضية التي اشار اليها هي نفسها تقريبا ما يسميه النقد الادبي الحديث بـ وحدة (المعنى) و (الدلالة) في القصيدة)، وقد اشار اليه (سيد قطب)- دون ان يسمية- منذ 1932.
       الملاحظة الثامنة، كانت ارائه في (الشعر الغنائي) و (الشعر القصصي) و (الشعر التمثيلي)، عميقة ومتجاوزة ماهو سائد في عصره حول هذه المفاهيم، كذلك الامر عند مناقشة (الشاعر والعصر)، اذ انه اشار ، بلغته الخاصة، الى قضية (الجدل) بين (الذات) و (الجماعة/ الاخر)، استند الشاعر حسب المفاهيم النقدية الادبية الحديثة، اذ اقر بتأثير البيئة في الشاعر، وان الشاعر يستطيع ان يعطي صوره عصره في الوقت الذي يتحدث فيه عن نفسه، وهذا وعي متقدم على العصر الذي نشر فيه.
         ختاما، استمتعت بقراءة هذا الكتاب، ولا بد لي من الاشارة ان لسيد قطب كتب اخرى، اشرتُ الى بعضها في سياق هذه الدراسة، ومعظمها يدور حول القرأن الكريم وتفسيره وتوضيح الاعجاز البلاغي فيه، لذا فأن هذه المؤلفات لاتقع في صنف (علم النقد)، بل في  باب علوم ( البيان) اضافة الى (البديع) و( المعاني ) التي  تُشكل هيكل (البلاغة) العربية، فقد تم استبعادها عن اصل هذه المقالة ، لانها لاتقع في صلب عنوانها وموضوعها. كما أن كتابه( النقد الأدبي أصوله ومناهجه) الصادر عام 1948 كان جهداً تجميعياً بهدف اعداد كتاب مدرسي منهجي ، لذا ، برأ يي المتواضع ، لا أعدّه دراسة نقدية نظرية تستحق التأشير، لكنه يستحق الأشادة ككتاب منهجي تدريسي  فيه جهد تجميعي .