في أيام زمان أهلنا العرب الكرام , كانت السياسة اسلوب خطاب بمفهوم يقبض بعنان أي مشهد يقف بساقين عوج أمام أعين الناس , فيقوم الفاعل وهو السياسي بإصلاح هذا الأعوجاج . والسياسيون العرب كانوا يتبعون منهجآ في إزاء ذلك يقولون فيه ” أن كل مشهد محتاج الى القبول , فالحَسَب محتاج الى الأدب , والسرور محتاج الى الأمن , والقرابة محتاجة الى المودة , والمعرفة محتاجة الى التجارب , والشرف محتاج الى التواضع , والنجدة محتاجة الى الجد ” .
إذن على السياسي أن يبدي للناس المفزعين اليه بحوائجهم بوجه حَسِن ولا يستعين عليهم بالتثقيل , فالناس أثناء الأحتجاجات لاينتظرون من السياسي أن يملأ ركابهم بثمار الجنة فيوجب عليهم الأنتظار الى حد الهزال , بل عليه وهو الخازن للمعرفة والتجارب والقريب والشريف والمنجد أن يكون أديبآ في خطاب الرد عليهم وبليغآ فيأمر بما يصلح لهم ذلك المشهد , ويرد عليهم النظر بالعين نفسها التي فزعت اليه .
أما في أيام اللئام واللئام معذورون , نرى السياسي يتنوع كأصناف التمر أو التين والزيتون , فمنهم من هو خاضع الرقبة والرأس للغريب على حساب القريب فيجرحه ويرده من دون ان يكرم حتى وجهه عند الرد . ومنهم من هوأملس العقل , خاضع لهوى جماعته لا يرى الأستقامة إلا بهم فيصطنع الأعذار بالوعد الكاذب والتحضير لحق زائف يحتال عليه بالألفاظ .
ومنهم المكتنز بالكلام الفارغ , لايرد على صراخ الجياع بلسان الضمير والفؤاد ولا يخاف أن يكسر الله رقبته من ثقل وعود الإصلاح المرمية فوقها . ومنهم من تمسّ الناس منه الجفاء والإغفال ومن أشباهه الذين أتخذوا مناصبهم تجارة ليملأوا قراب بطونهم بالمال الحرام , فلا يملك الناس غير اليأس منهم والغنى عنهم .
من هؤلاء تنشأ سياسة دولة بعربة تجرها جياد المأساة والمهزلة فتجري بلا عنان في ميادينها وفي ميادين كل بلد وأمة , فتنضح دموع القهقهات واليأس من تغيّر الحال , وترى مشاهد أحوال الدنيا حتى في البلاد الغنية تسوء والسياسي منبوذآ عن الناس , والناس من سوءآت الأمور يحصون السلام والمعروف والجود ويسيؤن الظن بالخالق وبقوانين الحياة .
أما أشباه هذا السياسي الذي اتوا مؤخرا , فهم يَعِدون الأستعانة بمال الحرام خير مستعان والتفريط به مصيبة , فتراهم بين مصلح فارغ اليدين وفاسد يرى الفساد حقا يحميه من هزال الدنيا ويد المكروه فترى المرضى بسببه في المشافي مهملين بلا نصيب من البِرّ يظهره لهم أومن دواء , أما فقيرهم فيسأل فيمنع , وترى الحق في سد الفاقة يُطلب بالأحتجاج المخضب بالدماء , فلا الفاسد يخاف من يد الله ولا من اقدار الزمان فيصلح , ولا المسيء يصرع لؤم نفسه فيعود بقلب سليم ليصيب شيئآ من رحمة الله .
من هؤلاء تنشأ المأساة فينضح الدم بالأحتجاج واليأس من عسر الحال والكفر من الفاقه , ويحبس العلماء في دنيا ضيّقة فيتعجلهم الفقر ليكفروا بالآية “سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا ” ليسهل التحاقهم بالأرهاب وإنتسابهم الى سجون الهوان التي لا يشفع لها كل مافي الأرض .
ومن نواظر جواد المهزلة الى التعليم , ترى المناهج المقررة تاتي في الاحد لتتغير في الاثنين من دون ان تلقى اي ترحاب لشدة انقباض نشاط التلاميذ منها لانها في كل مرة تعود كداء لا دواء له والطالب الراغب بالتعليم لم يعد يرغب بها فيتوقف نمو عقله ليمنعه من الاستمرار بالدراسة ليبدأ دور المأساة , فيسأل الطالب الصغير أهله وحينما يكبر يسأل من حوله الناس حاجته فيهزل مستقبله ولايرقى حاله إلا بالأحتيال من وهن الدَين فيضل طريقه ويندب حظه العاثر.
ومنهم من يطلّق مدرسته طلاقآ بائنا ويلقي بسبع حصاة عجاف عليها وعلى قائمة الهيئة التدريسية المستبدة والمنهومة بجموح العصبية المتلازمة مع الهراوة التي ورثوها من المهنة في تدريس اليتامى وفقراء الأذى والهوان في عهود مضت هالكة أمام أعينهم وأسلافهم . فيذهب هذا الطالب ليفرغ مافي جيب أمه وأبيه من مال على مدرسة أهلية تُسمِع بالمناهج نفسها من له أذنان لتنبت في عقله نباتات المعرفة , فيسلّم عليه المدير والمدرس بود وأحترام من دون أن يكلفه أحد بما لايجد .
أما دولة هؤلاء السياسيون فهي ترى مسرح التعليم محمولآ على جواد المهزلة وترى نسبة إرتفاع الأمية والبطالة في أزدياد ولكن من دون أن تطرف مقلتها أو شفتها بسؤال وليأكل الجميع النوى المحروق , فهي منشغلة بالجباية ولاتضرها الجهالة او تنفعها المعرفة .
ومن غيّ المهزلة ترى الطلبة المُدبرين من المناهج الدراسية المعيقة والمنغّصة ومن متلازمة الأستبداد يتوزعون على المقاهي والأسواق بلا جيش يجندهم لخدمة البلاد ولا مراكز تأهيل مهني فينتسبون اليها ليأكلوا من نعمتة وكأن الدولة ترى التشرّد والفقر أبلغ شيء في صلاحهم .
ومن نتائج تحالف المهزلة والمأساة في نير واحد لبلد رُفعت عنه قيود الدكتاتورية وروح الغدر وسحق الكرامة , أن ترى هذا النوع من البلدان يبني مواقعآ لحكومته بأموال غراء وصفراء يملأون بها حراسهم فيجددون بها سلطانهم وولايتهم على من لا ابن اخت له بها ولا خال ولا نفع يناله غير مجاورتها وهو يغدوا ويروح وأحيانآ يلقي بحاجاته فيها ليسلوا بها ناكثي العهد في الصباح حتى يغلبهم الضجر فيتعثرون بها ولايرفعونها عن الأرض حتى تفسد فتتلقاها القمامة .
ومواقعآ أخرى يبنيها لأحب الأطعمة والمنتوجات الصناعية المخصصة للإستخدام المنزلي ولكن ليس لعامة الناس فهم عاطلون وجاهلون وليسو بأهلٍ لها حتى يموتون , بل لعوائل حكومته الرشيدة لكي يرتادوا اليها ماداموا مشغولين بأستلام الراتب وتحويله الى البلاد الثانية .
والمهزلة أن حكومة هذا البلد تتغافل عن إصلاح شأن المدارس والمستشفيات وشرائح مجتمع عاطل عن العمل بلا عذر يقبل منها غير كلام عقيم تتلطف به فتقول للناس : أبشروا بهذه المواقع فإنها سترفع شأنكم وتشبع بطونكم بفقرات من الأطعمة تضاف لموائدكم غير الماء الحلو والعسل الحر. والمبكي المضحك أن الجدب المقترن بالملح قد وطأ فجاج الأرض مع الأنهار , والأسماك المحتجة على سماع خبر انها بلغت بالبلاد الاكتفاء الذاتي , طفحت نافقة بمرأى ومسمع منها , فزعمت الحكومة أنها طفحت نافقة على سطح الماء بسبب التلوث البيئي فكانت لها مزية السبق في إختراع وإبتكارالمصطلحات , أما السياسي القابع في الجانب الآخر من الحياء فيرى مالا تراه الحكومة فيفضل ان يطبخ اللحم باللبن ليضفي على خدوده حمرة التفاح قبل لقائه في برنامج “نفوق الأسماك .. الدواعي والأسباب “.
والمأساة أن ترى الناس تجر وعود هذه الدولة جمالآ وأفيال بأيديهم وأعناقهم الموثقة بحبال اليأس , فلا غيم السياسي المنتخب الكاذب يصحو ليروا خير النهار ولا شر البلية يضحكهم ليروا لمعة أسنانهم بالمرآة . ومن غوائل المأساة أن ترى الناس مرضى بمرض الوعد الكاذب فيصطفون كل يوم أمام أبواب السياسي المقفلة ليخرج عليهم بوعد جديد يكرم به وجهه , لكنه أشد بعدأ وجوارعن سابقه فيرجعون به الى أطفالهم مع وعد منهم بأنتخابه ثانية ليزيد ذلك الشيطان بسخائه المزيّف وهم يفقهون أنهم أذلاء لعادة تعودوا عليها .
والمهزلة أن يتهافت سياسيو هذه الدولة الذين أضلّوا أخلاقهم وأعجبتهم لعبة السياسة في ظل النظام الأستضراطي الذي أبتدعوه وجاءوا به ليكملوا مامنعه سلفهم وبغفلة من الناس وأبتعاد الدستور , على الجلوس حول مائدة المضاربات تحت سقف القبة الفلكية البرلمانية لنيل المناصب , فيعزلون من لاتنفعهم سمعته بالأستقامة بآخر لايعرف غير سفك الدم ولا يشرب إلا ماءآ من صنع يده ينساب من حرائق تفجير الأسواق والمقاهي والباعة المتجولون ورفاة عمال المسطر وذلك بأجر يأخذونه براحلتهم للإستثمار والتسوق في مقر إقامتهم الثاني .
والمأساة أن هذه الطائفة من السياسيين يلعبون بمستقبل هذه الدولة والناس أمام أنظار مراجع سياسية كبار ملجمين بلجام لايدعهم يفعلون مايقولونه في محاربة غوائلهم , بل يسلون بلعبة أخرى فيعدون العدة لبناء طائفة سياسية جديدة للكذب إيفاء لنذر بإعادة بناء المركبات الفضائية ومحاربة برد الشتاء وقيظ الصيف وإطعام الفقراء بلا طرف حبل يشدون به حيائهم , فيخاطبهم الشاعر البحتري بقوله :
لِسانك أحْلَى من جَنى النَّحْلِ وَكَفُّكَ بالمَعرُفِ أَضْيَقُ من قُفْلِ
تُمَنِّي الّذي يأْتِيكَ حَتى إِذا أنتَهَـــى إِلى أَمَدٍ ناوَلْتَهُ طَرَفَ الْحَبْلِ
وأخيرآ , هنيئآ لهذه الدولة التي يعيب فيها السياسي الكذب والشتم والإتهام والفساد والضن بالوعد وهو لايصدُق ويشتم ويتّهِم وفاسد ويضَنُّ بالوعد وعربته شاهدة في الميادين.