8 أبريل، 2024 11:24 م
Search
Close this search box.

سياسة الوعود بين إنصاف العدالة وتبادل الاعتراف

Facebook
Twitter
LinkedIn

استهلال:
“أنا أكون لأني قادر على الوفاء بالوعد”1[1]
يبدو من الجهل القول بأن بول ريكور لا يعرف السياسة من جهة التفكير والممارسة ، فهو قد ترأس قرابة عقد كامل الحركة المسيحية الاشتراكية من سنة 1958 إلى سنة 1969 التي انتمى إليها روكار ميشيل، كما أنه تدخل في الحرب التي اندلعت بين المدرسة الجمهورية والمدرسة الكاثولوكية واقترح جملة من الحلول الجريئة والمبتكرة ولكنها لم تجد طريقها إلى التنفيذ ، ثم انه قد ترأس الفدرالية البروتستانتية للتعليم وتم تعيينه من أدغار فور الوزير الأول عميد كلية نانتير وبعد موافقة غير مباشرة من شارل ديغول وهي مسؤولية سياسية تحملها في وزارة التربية ولقد قَبِلَ هذا التعيين ضمن منظور تخيلي للمؤسسة ودورها في حوكمة الادارة واصلاح الجامعة2[2]. إن التردد المنهجي الذي وجد فيه بول ريكور نفسه بين الهرمينوطيقا والفنومينولوجيا وبين فن القصص السردي والمعرفة التاريخية لا يمكن تخطيه وفهمه إلا بالاعتماد على الفنومينولوجيا الهرمينوطيقية التي تجمع بين التأويل والوصف وبين النقد وإعادة التشكيل وبين تفكيك اللاّمعنى وإنتاج المعنى حول العالم. كما أن تناول مسألة الوعد عند السارد الفاعل لا تخلو من مغامرات تخترق الأنساق ورهانات تضرب في الآفاق لما يقتضيه الكلام عن الوعد من استدعاء للمستقبل على حساب الحاضر والاستنجاد بحكم الحارس والتعويل على الضمير تحليا بالمسؤولية وتعبيرا عن الالتزام طلبا لشهادة الآخر الموعود أمام فعل الواعد. والحق أن الكل يرغب في الاعتراف من الكل ولا أحد يقتدر على تحقيق الرغبة من طرف واحد بشكل تام، والمفارقة تكمن عندما تتسبب العدالة نفسها من حيث هي ممارسة قانونية ذات أرضية سياسية في تأخير الاعتراف وتكرس الازدراء والتفاوت والتهميش وتُبقِي الحقوق الديمقراطية مجرد وعود وأقوال. لكن يمكن التمييز بين وعود مكتوبة ووعود شفوية وبين وعود صعبة التحقيق ووعود سهل المنال وبالتالي التشبث بالوعود هو نوع من الحلم اليوتوبي والسخرية من الوعود هو تعبير عن وعي تاريخي وحس ناقد. في الواقع ان الوعود الأكثر صلابة هي المرتبطة بالقناعات الوثوقية مثل وعود الدين والايدولوجيا والعلم والأعراف بينما الوعود الأقل صلابة تبقى مجرد ظنون وتخمينات مثل الوعود الاقتصادية والسياسية والعاطفية ، ولذا يتراوح قطع الوعد بين الاتفاق على موعد والالتزام بالعهد وإبرام العقد والوفاء للحب. بهذا المعنى تكون وظيفة الهرمينوطيقا النقدية هي الحكم والتمييز بين وعود تأسيسية مصيرية يفترض أن يتم الوفاء والالتزام بها ووعود ترقيعية التفافية يجب كشف حيل السلطة في نطاقها وبؤر الرغبة في لغتها.

يراهن هذا المبحث على فهم الايتوس السياسي المعاصر ضمن المنعطف القانوني للرد على التوتر القائم بين الديني والمدني عبر تأويل الوعد لكي يكون ممرا آمنا من العدالة إلى الاعتراف عبر وساطة السرد.

القسم الإشكالي:

كيف يحترم المرء الوعد الذي قطعه على نفسه؟ ماهي الشروط التي يجب أن تتوفر لكي ينجز ما وعد ويصبح حرا وينعت بالمصداقية ؟ وإذا امتنع عنه ذلك أليس عدم الوعد أفضل من وعد لا يتحقق؟ هل يعد المرء بالكثير من أجل تحقيق القليل؟ ما وجاهة التباطؤ في قطع الوعود من أجل الحرص على الوفاء بها؟ ألا يمثل الإخلاف بالوعود رذيلة وخروج عن الأخلاق المروءة؟ ماهو العقاب المناسب للإخلاف بالوعد؟ أين يمكن تنزيل الصفح أو الغفران في هذا السياق؟ وأي قيمة للوفاء بالوعود مع الأعداء؟ أليس من البلاهة الإكثار من الوعود دون تجسيم ووفاء؟ وبأي معنى يكون من أعطى وعدا بمثابة من قيد نفسه بالالتزام به؟

لكن من يعد من؟ بماذا يعد؟ أي ماهو موضوع الوعد؟ ولماذا يقدم وعودا؟ ومن أجل ماذا؟ وماهي الوسائل التي يعتمدها؟ أي بماذا تقطع الوعود؟ وماهي التبعات الحاصلة عن الالتزام بالوعود أو عن الإخلاف بها؟ وهل النقص في الاعتراف ناتج عن التلاعب بالعدالة أم إساءة استخدام الذاكرة والتنكر للوعود المقطوعة؟ وكيف يحوز تسجيل الوعد على الحدود الرابطة بين الهوية السردية والهوية الإيتيقية على مشروعيته؟

بيد أن التحدي الأول تفرضه الصلة بين الوعد من حيث هو قيمة أخلاقية ومبدأ معياري يستخدم في تنظيم العلاقات بين الأفراد والمجموعات والهرمينوطيقا من حيث هي نظرية في تأويل النصوص المكتوبة والأقوال الشفوية الموروثة والأعمال الرمزية التي تندرج ضمن الفن والتاريخ والدين والحياة وأيضا بوصفها تجربة لغوية تهدف إلى استخلاص المعنى وفهم الحياة البشرية ومعرفة غير المعروف فيها.

التحدي الثاني يفترضه استدعاء الفلسفة السياسية بغية النظر في قيمة إيتيقية والتأكيد على فكر سياسي مختلف والتركيز على الزوج المفهومي المتكون من الاعتراف والعدالة والأول من أجل علاج الازدراء والتأكيد على الكرامة والمشاركة والثاني من أجل الحد من التفاوت والاقتراب من المساواة والإنصاف.

التحدي الثالث هو المخاطرة التي تقوم بها الفلسفة عندما تقدم وعودا وتتناول من جهة المبدأ مسألة الوعد وذلك للخطورة التي يكتسبها هذا المفهوم وما يترتب عن الإخلال به من تداعيات سلبية وتبعات مجهولة ، إذ يفترض تسلسل للوعود إلى ما لا نهاية أي وعد قبل الوعد المتعهد به ووعد آخر بعده ضمن علاقة الأنا بالآخر والنحن بالهم، وهناك وعود على مستوى الأقوال تريد أن تتحول إلى أفعال ملموسة ووعود مكتوبة تنتظر التحقق بإخراجها من دائرة الافتراضي الممكن إلى دائرة الواقع المتعين، بالإضافة إلى وعود دينية مبلغة يتم التخلي عنها عبر مسارات للعلمنة والتحديث ويتم استبدالها بوعود سياسية وحقوق مدنية3[3].

فما الفرق بين الوعد بالمعنى الإيتيقي والعقد بالمعنى السياسي؟ وهل يتم التخلص من الشراكة الاقتصادية والميثاق الديني؟ وكيف يمكن الاستفادة من الانعطاف الإيتيقي في الدراسات الفلسفية في الوفاء بالوعود؟ ما قصة الوعود التي لا نجد لها أثر في الواقع؟ ألا يتنزل الوعد ضمن التلازم التداولي بين القول والفعل بحيث لما يتم التعهد قولا فإن الوفاء يكون فعلا؟ولما لا يلتزم بها من قطعها على نفسه ولا تعرف طريقها؟ ماهي الوعود التأسيسية التي تميط الهرمينوطيقا عنها اللثام باشتغالها على الموروث الديني؟ والى مدى تتعرض الفلسفة للمساءلة عندما تطرق باب الوعد؟ وماهو الخطر الذي يمثله الوعد على الساحة السياسة؟ وهل المطلوب هو سياسة خالية من الوعود أم يفترض أن تلتزم السياسي بالوفاء بالوعود التي تعهد بها؟ وبأي معنى يشيد كل من الاعتراف والعدالة (التعارف العادل) الطريق الملكي نحو مجتمع غير شمولي؟

يمكن تجاوز هذا التباين الظاهر بين المصطلحين بالانتباه إلى وجود خيط رابط رهيف بين هرمينوطيقا الذات والقدرة على الوعد وبالتفكير في المفارقة الأولى التي تدعو إلى الاحتراس من إطلاق الوعود دون تروي وبينة من القدرة على الوفاء بممارسة تأويل الوضعية ومعرفة فضاء التجربة وفهم أفق الانتظار.

الإشكالية المركزية: هل حركة الوعد التي يقطعها الإنسان على نفسه هي شكل من أشكال التمثل الذاتي للذات أم أنها استجابة للذات نفسها في المستقل واستجابة للذوات الأخرى و العلاقات المستقبلية معها؟

في هذا السياق يتنزل سؤال ما الإنسان؟ الذي طرحه كانط ، في إطار بحثه عن تعريف نقدي للفلسفة الكونية ، في نهاية سلسلة الأسئلة التمهيدية: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا يجب علي أن أفعل؟ وما الذي يجوز لي أن آمل؟ ، هذه الأسئلة الثلاثة ليست وحدها القادرة على التمهيد للسؤال الحاسم ما الإنسان؟ بل يجب ألا تبقى أسئلة ثلاثة متنوعة وأن يظل الجواب مقيد بالضرورة بسلسلة من المراحل التمهيدية (المعرفة والأخلاق والدين) وإنما يمكن التركيز على السمة الحاسمة التي يتضمنها الضمير أنا je في كل واحدة من هذه اللحظات الثلاثة: أنا أعرف، أنا أفعل، أنا آمل. يتحقق كل ذلك عن طريق البناء غير المباشر والتطوري لمعنى أنا الذي تتحرك ضمنه مصادر الفلسفة الأنثربولوجية بقسميها التحليلي اللغوي والفنومينولوجي التأويلي4[4].

والحق أن “الجواب السالب للسؤال حول من أنا؟ يحيل ليس فقط إلى السلبية بل أيضا إلى عري السؤال في حد ذاته”5[5]،هنا يجب استبدال أنا بالشخصية التي تكون في صورة محايدة من أجل التعبير عن الذاتSoi نفسها التي يمكن وصفها تخيليا. لعل السؤال الفلسفي من أنا؟ (qui suis-je ? ) يفيد السؤال: من يقدر على ماذا؟ Qui peut quoi ? الذي تم طرحه في اللاحق لتعديل الأسئلة التالية: من يريد ماذا؟ (qui veut quoi ?) من يقدر على الكلام؟ من يقدر على الفعل ؟ من هي الذات التي تقدر على تحمل تبعة أفعالها بالمعنى الأخلاقي؟ ومن يقدر على الوعد؟ (qui peut promettre ?) هل من الممكن توضيح القدرة على الوعد من خلال دراسة الأسئلة التالية من حيث هي تمثل خيطا ناظما: أي نوع من الفعل يتضمنه الكلام عن فعل الوعد؟ ومن يطرح أسئلة مليئة بالوعد؟ وأي رابط يمكن أن تشييده بين الوعد وفعل قطع الوعد؟ وماذا يعني التصريح بالمسؤولية تجاه الوعود؟ والى أي مدى تتحقق المسؤولية فرديا وجمعيا؟

في هذا الإطار ينطلق الجواب الذي يضعه ريكور قيد للاختبار من فكرة الإنسان بلا صفات:l’homme sans qualités ،القول بأني لا شيء ينبغي أن تحافظ على شكلها المفارق: لاشيء يعني أنه لاشيء بالفعل يمكن إضافته إلى الأنا ، فمن هو الأنا عندما يقال عنه أنه لا شيء؟ انه بالتحديد ذات محرومة من نجدة الهوية mêmeté 6.[6] لقد تم المرور من أنا مَن يريد Je suis celui qui veut إلى أنا مَن يقدر Je suis celui qui peut، فالوعد إذن هو حركة أو فعل يتم استكماله بواسطة فاعلين من الناس هم الواعد والموعود والشاهد عليهما.

القسم المفهومي:

1-الوعد promesse هو الإخبار عن عمل أمر معين في المستقبل وهو من الأمور التي لا يفعلها سوى الأوفياء من الناس الذين يخلصون النية ويتخلصون من النفاق ويتحلون بالالتزام. بذلك يسمح الوعد بأن يقوم الأنا بإخبار شخص ما بأنه سيقوم بعمل ما في المستقبل من أجله، ويعتبر الوفاء بالوعد من الأخلاق الحميدة التي يجب التحلي بها. لكن الخطورة أن يكون عناد الإرادة عند تصلب الأنا هو المرض الخفي للوعد. لقد اقترن الوفاء بالوعد باحترام المواعيد واستيفاء العهود وأداء الأمانات إلى أهلها وتقدير كرامة الإنسان. من الناحية الاصطلاحية الوعد الصادق هو كلام الشرف والتواصي بالحق والتناصح بالصبر والالتزام بالتطبيق وتحمل المسؤولية. فالإنسان يتميز عن غيره من الكائنات بتقديم الوعود والإصرار على تحقيقها وبالتالي هو قادر على تقديم الوعود والاتجاه نحو الوفاء بها ولكن عندما تذهب وعوده سدى ويفشل في الالتزام نظرا لكثرة العراقيل وتزايد الرغبات والموانع فإنه يعزف عن التصريح بالوعود لتفادي الإخلاف والوقوع في الكذب والنفاق.

2- الاعتراف reconnaissance : المحنة التي لا يمكن التعرف عليها من طرف الكل وما لا يمكن الاعتراف به épreuve de méconnaissable ،غير أن الذات القادرة على الاعتراف soi capable de reconnaissance، قد تحقق المعجزة الصغيرة في الاعتراف إذا ما كان تعيين الهويةreconnaissance-identification يغادر المعروف من الذات وقد يبلغ مستوى عال بالاعتراف بغير الذات عينا Reconnaitre soi-même comme un autre.

3-العدالة justice : التركيز على فاعل العدالة: العادل، وعلى واجب العدالة، والإنصاف هو العدالة التوزيعية7[7]، والاقتراب من فكرة دوائر العدالة عند مايكل والزر بالقول بوجود حالات متعددة تطبق فيها العدالة وفق وضعيات مخصوصة والتقليل من أهمية القواعد العامة والقوانين الكلية ومراعاة الروابط الاجتماعية والنظام الرمزية التي تتقاسمه المجموعات والمنطق الداخلي الذي تدرك به كل مجموعة انتمائها للكل8[8]. لقد كشف ريكور عن وجود علاقة قرابة بين المبدأ الثاني للعدالة عند رولز حول التوازن المعقول والقناعات الأكثر أهمية ووصية الحب والتي ساعدته بأن يجازف بإظهار الشكل المتخفي لتقديرها النفعي9[9]. كما يسعى ريكور إلى تأكيد الفعل التعاضدي للحب والعدالة وذلك بتوجيه مسار الأخلاق لا إلغائها من أجل تصحيح مسار السياسة بإعادة قاعدة العدالة ضد ميلها النفعى باستخلاص المضمون المعياري للحب واعتبار التعريفات التراثية الدينية الثلاثة : النظرة المتساوية والتضحية بالنفس والمعاملة بالمثل صورا للحب تسبق العدالة. هكذا يحاول ريكور إيجاد توازن في الحياة اليومية على الصعيد الفردي والقانوني والاجتماعي والسياسي قابل للممارسة يصل إلى حد الإدماج الثابت بين الرأفة والسخاء في القانون الجنائي وقانون العدالة الاجتماعية ولقد تحفظ على وجود نظرية تداولية للعدالة10[10]، ورأى أن تكون العدالة الوسيط الضروري للحب بينما لا يستطيع الجب أن يدخل دائرة الممارسة والأخلاق إلا تحت مظلة العدالة11[11].

4-الهرمينوطيقا Herméneutique :l’art de comprendre

تكمن الهرمينوطيقا في نظرية أو فن الترجمة، والتأويل: لرسالة، أو حلم، أو أعراض لأمراض، أو قانون، أو علامة، أو نص. تتطلب هذه الملكة التأويلية للنصوص نظرة ثاقبة مثل تلك التي يتم بها تأويل خريطة. دعونا نسمي هذه الملكة معنى الاستفهام في النص والتفريق بين أسئلته ، أي الملكة التي تمكن الذات من تخيل وجهات نظر مغايرة لوجهة نظرها الأصلية وتتصور أسئلة أخرى مختلفة عن السؤال الخاص بها. فكر الرمز، علم التأويل، التأويلية، منهج التفسير، الفلسفة التفهمية، فن الفهم. يجمع من خلال فلسفة التأويل بين نظرية المعرفة ونظرية الوجود وبين الارتياب والإقرار وبين العوالم الرمزية وعالم النصوص وبين فهم الذات والمنعرج اللغوي وبين الإبداع الدلالي والتحبيك السردي وبين حكمة التعقل ونظرية الفعل. في الواقع البحثي والمعرفي ليست الهرمينوطيقا عند ريكور هي التفسير الديني exégèses bibliques وإنما تتناول مسألة التأويل بشكل دائري بين التفسير والفهم وتهتم بالأسس والغايات التي تتضمنها النصوص والعلامات النفسية. بهذا المعنى الهرمينوطيقا في البداية اهتمت بتحليل للرموز ثم تناولت بالدرس مختلف الاستعارات وبعد ذلك عرجت على تحليل القصص التاريخي والادبي وتأويل السرديات وعلى إثر ذلك انتقلت إلى نقد الأحداث التاريخية وتعقل الأفعال البشرية والظواهر الذاكرية والتجارب السياسية.

القسم التحليلي:

الخطوط الكبرى للتحليل الهرمينوطيقي للوعد:

لم يبلور بول ريكور تحليلا فلسفيا مرموقا (على شاكلة الوصف الفنومينولوجي أو التجربة التأويلية) عن مبحث الوعد إلا في المؤلفات التي كتبها بعد عام 1990 زمن”عين الذات غيرا” باعث هرمينوطيقا الذات وحينما دون سيرته الفلسفية ورحلته الوجودية بأسلوب شيق ضمن كتاب “مسار اعتراف”عام 2004. صحيح أن الكتابين تناول نفس المبحث: الوعد promesse وضمن نفس ورشة الهوية الشخصية، ولكن الاختلاف كان بينا في طريقة المعالجة والسياقات والرهانات حيث جعل ريكور في الكتاب الأول مفهوم الوعد في تعارض مع الطابعcaractère وفي الكتاب الثاني وضعه وجها لوجه مع الذاكرةmémoire .

– التحليل الأول: الوعد والطبع:

الوفاء بالوعد هي النظرية الخارقة التي أبدعها ريكور في كتاب “عين الذات غيرا” وذلك عندما حرص على ربط إثبات الإنية وتحقيق كينونة الموجود بامتلاك القدرة على الوفاء بالوعد والالتزام بتنفيذ الأقوال. وإذا كان المرء يشهد الكثير من التغيرات منذ طفولته إلى كهولته مرورا بزمن الشباب فإنه يقوم بتطوير عدد من طباعه وعاداته وأذواقه في مأكله وملبسه ويذهب إلى حدود استبدال مواقفه السياسية والأخلاقية. وقد يتاح له تغيير ملامح وجهه من خلال عمليات التجميل ويمكنه أن يغير كل شيء من ذاته إلا كيانه، إذ كيف يشتغل في هذه الظروف من اجل المحافظة على شيء معين فيه يمكنه من التمييز بين الحق والباطل؟ ومن أنا في هذا التنوع بحيث يمكن الاعتماد عليّ ؟ وكيف أكون أصون ذاتي وسط التغيرات التي أحياها؟

ما يحافظ على هوية الذات متماسكة وسليمة بالرغم من تغيرات الزمن هو إعطاء وعود عن طريق الكلام، لأن عملية التصريح بالوعد من خلال القول هو التعهد بالالتزام به في فترة لاحقة والوفاء بصورة ملموسة في المستقبل من جل الغير الذي قلت له ذلك12[12]، فالغير لا يمكنه التصرف إلا عبر الوعد الذي تعد به الذات13[13].

على الرغم من التغيرات ، فإن الذات تظل قادرة على الوفاء بوعده لعدة أيام وأعوام وعلى طول حياتها وحتى في ظل غياب الغير الذي كانت قد قدمت له وعدا بالكلام من أجل الالتزام بالمبدأ وإرضاء الضمير. فالهوية لا يمكن تصورها دون أن تحرز على دوام زمني مقبول. لهذا انصبت كل مجهودات ريكور حول تحيين نموذجين من الدوام في الزمان يختص بهما شكلان من الهوية الشخصية يشار إليهما بالعينه والذاته. بطبيعة الحل الهوية العينية هي هوية تطابقية عددية تتحرك وفق نموذج الطبع بينما الهوية الذاتية هي هوية مركبة من العديد من الأبعاد وتغير جملة من المتغيرات وتجد في الوعد رمزها الإبداعي والمحرك الذي تفجر به قدراتها على الخلق والتطور والتجديد وإعادة تشكيل الذات والتوجيه نحو المستقبل وفق اختيارات سديدة.

اللافت للنظر أن مصطلح الطابع سجل حضوره منذ الكتابات الأولى بول ريكور وخاصة أطروحة فلسفة الإرادة من خلال قسميها: الإرادي واللاإرادي والإنسان الخطاء، ولقد تم تصويره في صورة معارضة لقطب آخر، إذ كان قد شكل البعد المتناهي من الشخصية وطبيعته غير المختارة وبالتالي كان قد رسم حدودا لشكل من الهوية هو تحديدا الهوية العينية وكان قد تسبب في بقاء الذات هي عينها. في هذا المقام نجده قد صرح: ” هذه الجوانب المختلفة للتناهي –منظور، حب الذات المنبثق من الذات ، الإدمان والقصور- تجتمع كلها في الطبع…إن الطبع هو الانفتاح المتناهي لوجودي ، مأخوذا ككل.”14[14] أما في كتابه “عين الذات غيرا” فإن ريكور يعيد تأويل مفهوم الطبع بما يسمح له بربطه بالاستعدادات المكتسبة والرموز الثقافية وذلك لكي يقوم بإزالة خاصية الثبات التي يتصف بها وينزع عنه الاستقرار وينسب ما يسمه من بعد كلي.

-التحليل الثاني: الوعد والذاكرة:

في القطب المقابل يوجد الوعد، ومعه أصبح بالإمكان اقتران الفعل بالقول تصديق لعبارة أوستين : أن أقول هو أن أفعل”، وبأكثر دقة: أن أعد هو أن ألتزم في الغد بانجاز ما قلت اليوم بأني سأفعله. بيد أن إمكانية الوفاء بالعهد المقطوع عند الكلام المعطى تشير إلى استمرارية في الزمان لنوع آخر من صيانة الذات حيث تظل في تجردها تصارح نفسها بالتغير والتبدل عوض أن تطابق مع الهوية العينية للأشياء. على هذا النحو يقوم ريكور بحجز مصطلح الإنية ليمنحه للهوية الذاتية التي لا تقبل أن يتم اختزالها في الهوية العينية. لكن لا يمكن اختزال مشكل الوعد في قضية صيانة الذات من خلال حفظ كيانها من التغير وإنما يتم منح هذا القول إلى آخر ، أي كل قول معطى هو مقيل إلى آخر وبالتالي يحقق منفعة الآخر. إن هذه البنية الحوارية هي التي تحفظ الوعد من المخاطر التي تستهدف والتي نبه منها كل من نيتشه ودريدا.

إن الوعد بماهو التزام بالمستقبل يصلح غير المتوقع ويتفادي الطارئ والمفاجئ والمداهم ويمكن أن يصير حسابا أو برنامجا يكشف من خلالهما عن إرادة صلبة وعنيدة والوسيلة الوحيدة التي تجنبنا هذا الخطر هي قلب نظام الأولوية بين الذات الواعدة ومنفعتها. إن الالتزام تجاه الغير يسبق ويؤسس الالتزام بإتمام الفعل. من هذا المنطلق يتحرك الوعد ضمن مطلبين أساسيين: الأول هو ضمان استمرارية الإنية عبر محافظة الذات نفسها على هويتها بالاستجابة لمطالب الآخر، والثاني يشهد على انجاز الإنية عبر وساطة الغيرية. في “مسار الاعتراف” يعمل ريكور على جعل الذاكرة تساهم في بقاء الهوية العينية دون أن تتناقض مع الدور المسند في السابق إلى الطبع ولكن يشير إلى أهمية البعد الزمني للطبع والزمانية الخاصة بالوعد. إذا كان الطبع هو الموضع الذي يترسب فيه الماضي الشخصي وتحرص الذاكرة على صيانته من التلاشي فإن الوعد يهتم بمعاصرة كل مبادرة تجعل من المستقبل أمرا ممكنا وتتيح إمكانية ولادة ثانية للذات عينها.

من المعلوم أن الوعد عند ريكور يعد إلى جانب الذاكرة وبدرجة أقل الصفح أحد الأقطاب التي تعول عليها الذات من أجل أن تصل الهوية الشخصية إلى مرتبة الاعتراف بذاتها وبالتالي يمثل الوعد هنا البعد الزمني للاعتراف بالذات ويتأسس في ذات الوقت على تاريخ الحياة للذات والتزاماتها تجاه المستقبل لمدة طويلة. لكن إذا ظهر تعارض واضح للعيان بين الهوية العينية la mêmetéوالهوية الذاتية l’ipséité كيف يتم إيجاد واسطة بينهما؟ وكيف يتسنى للهوية الشخصية التي تتميز بالدوام في الزمان أن تعيد تشكيل نفسها بالاستقطاب لغيرها وبالانفتاح على العالم والتطور تحت تأثير التجارب والاستفادة من تغيرات التاريخ؟

يعهد بول ريكور إلى مفهوم الهوية السردية القيام بهذه المهمة ولكن هذا النمط من الهوية من حيث هو نمط سردي يجد في صورة الشخصية البارزة personnage الأسلوب المناسب لانجاز الذات على أحسن وجه. على خلاف مفهوم الطبع الذي تعود الأدب الكلاسيكي على تعريفه بكونه تصور الذات لنفسها وفق نموذج المماثل يقوم ريكور بتوظيف مفهوم الشخصية التي لا تتحدد بماهو كائن فيها بل بما تقوم بفعله في الحال. عندما تشترك الشخصية في الحبكة بطريقة نوعية من جهة وتنخرط في سلسة من الأسباب والنتائج بطريقة مغمورة وحاملة معها ماضي موروث وطبع معين تتفرد به فإن السرد يحوز على القدرة التي تمكنه من منحها مبادرة من أجل الشروع في القيام بسلسلة من الأحداث وانجاز أفعال من جهة أخرى. إذا كانت الذات هي التي تقوم بالفعل فإنها تغوص في نسيج يفيض عليها ويسبقها ولكن يسمح لها بأن تمزق هذا النسيج وتخرج لكي تشيد شيئا آخر، فيمثل “السرد تاريخ هذا المرور من الواحد إلى الآخر”، ويكون ليس فقط تاريخ هذا الانتقال بل الموضع الوحيد الذي جرى فيه والشرط الوحيد الذي يجعله ممكنا. إذ كيف يمكن تجميع الحياة التي تتكون من فترات متقطعة وعناصر المتعددة وتجارب مشتتة في أمر واحد سوى السرد؟ ألا يمكن للشخصية التوسط بين قطبي الدوام في الزمن لجلب حل سردي للهوية الشخصية؟ وهل يمكن التعويل على الوعد في عملية ثبت الهوية الذاتية والالتزام بالعدالة؟

تحتل ظاهرة الوعد مكانة أساسية في المشروع الفلسفي عن ريكور الساعي إلى بناء هرمينوطيقا للذات، ولقد وضعه في كتابه “الذاكرة ، التاريخ ، النسيان” في قرابة مع مفهوم الشهادةTémoignage أين نجده يقول:” إن الوعد قبل أن يكون وعدا هو وعد المحافظة على الكلمة وبالتالي يتفادى الوعد الذي يعد نفسه. فما الفرق بين la promesse de tenir parole و la promesse elle même promise؟

هذه هي الخطوط الكبرى للتحليل الهرمينوطيقي للوعد كما قدمها بول ريكور في قسم كبير من مؤلفاته ، فكيف يمكن قراءة عمل فني يصف ما يحدث عندما يضع عدد من الممثلين تخيليا وسط حبكة شخصية تقطع على نفسها وعد ويكون ذلك هو فعلها الأول؟

الرهانات العملية: تقاطع الاعتراف والعدالة: في التعارف العادل بين الإنية والغيرية عن طريق الوعد. لقد بحث مؤلف الإنسان الخطاء من خلال فلسفته السياسية والقانونية عن منزلة العادل في المدينة وانتبه إلى أن أزمة المشروعية التي تعاني منها الديمقراطيات الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تجد طريقها إلى الحل والانفراج وأن المطلوب هو إعادة تثمين السياسي عن طريق الاهتمام بمسألة الحق ومحاولة التأليف بين قدرات الذوات على استهداف الخير المشترك والأخذ بعين الاعتبار الوضع الهش الذي يكون عليه الأشخاص وتعرض المؤسسات إلى إمكانية التعطيل وإيجاد تقاطعات بين التوجهين من أجل ممارسة الحكم واتخاذ القرار الذي يؤول العادل في الوضعيات الخاصة ويقوم بتوزيع ما يستحقه كل واحد حسب حكم القاضي ومطلب المواطن بما يسمح بإعادة بناء رابط اجتماعي متين في مدينة مابعد صناعية ملتهبة15[15].

لقد صاغ ماكس فيبر مجموعة وعود العالِم عبر إتقان التركيب بين التفسير والفهم في دراسة الظواهر الإنسانية بغية توخي الفردانية المنهجية التي تلازم الحياد الأكسيولوجي على الصعيد الإيتيقي وترد الكيانات الجماعية إلى إنشاءات متفرعة عن تفاعلات بشرية وتقف على تلاشي سحرية العالم وطالبة الخلاص والإنقاذ من المعقولية التاريخية التي لا تزال تمثل أداة تحرر وفعلا مقاوما للإغراء العدمي الذي تمثلته النظريات النقدية 16[16]. بيد أن حارس الوعود حسب أنطوان غربون الذي قدم له ريكور يظل متمسكا بالمؤسسات القانونية للدولة الديمقراطية من أجل مواجهة التناقض الصارخ بين أزمة الشرعية التي تقلص نفوذها على الحياة العامة وظلم العدالة التي قوننت الحياة العامة والخاصة قصوويا وارتكبت الكثير من التعسف والقسوة17[17]. لكن ما طبيعة المؤسسات العادلة؟ وكيف انتقل ريكور من مفهوم العدالة إلى معنى العدالة؟

تدبير المؤسسات العادلة:

“لا يقلل معنى العدالة أي شيء من الاهتمام. انه يفترضه الى درجة أنه يتمسك بالأشخاص الذين لا يمكن الاستغناء عنهم. من ناحية أخرى، تضيف العدالة الى الاهتمام بقدر ما يكون حقل تطبيق المساواة هو الإنسانية جمعاء”18[18]

لقد تحدث فلاسفة السياسة عن الدولة المدنية وعن عقل الدولة الكلي في مقابل عقول الأفراد الجزئية وعن العدالة ولكنهم لم يولوا عناية كبيرة ما عدى قلة منهم بمسألة المجتمع المدني وعن مؤسساته وبالخصوص الأسرة والشغل والشرطة ونظام الحاجات ودورها التوسطي الضروري للمرور من جزئية الفردي الى كلية الدولة من زاوية تحقيق المنفعة الاجتماعية والاقتصادية19[19]. بهذا المعنى يعتبر بول ريكور فيلسوف الإيتيقا التي تقدم وعدا للمواطنين بأن يعيشوا في حياة جيدة ومستكملة مع الغير أو الآخر في المؤسسات العادلة وأن تتوزع العدالة السياسية على مجموعة من الدوائر ولكنه أضاف جملة من الملاحظات النقدية حول صفات العادل والعلاقة بين الرئيس والفيلسوف وقام بالتمييز الإجرائي بين خصائص المؤسسات العادلة والمبادئ المعتمدة والتطبيقات الممكنة20[20].

لقد ركز ريكور على دور المؤسسات في استهداف العدالة وبحث عن استمراريتها في أداء دورها ومحافظتها على اشتغالها الناجع وآدائها لوظيفيتها وفرق بين الجيد والعادل ووضع بين الحياة الجيدة والمؤسسات العادلة وسيطا ضروريا هو الحياة المشتركة للذات مع الآخرين ومن أجلهم.

لكن ماهي العلاقة بين النظرية والممارسة أثناء تطبيق القوانين المنظمة من طرف المؤسسات لكي تكون عادلة بالمعنى الحقيقي للكلمة؟ وألا يجب أن تخضع الممؤسسات للحوكمة الجيدة؟

يقوم ريكور بوضع الحدود التي تتوقف عندها التصورات الإجرائية21[21] لدولة الحق أين يتم تثبيت المعضلات التي تعاني منها الديمقراطية ويحاول تنظيم المواجهات بين التصورات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ضن المؤسسات دون أن يبلغ حلا نهائيا حولها. من المعلوم أن البديل المقترح من طرف بول ريكور عن التصور الإجرائي هو التجاوز النوعي من خلال اليوتوبيا ضمن الاطار الديمقراطي للعادل المفهوم كمساواة دون التخلي عن الكفاح من أجلها. ماذا ينبغي أن يفعل الكائن البشري لكي يعيش حياة جيدة؟ وماذا يجب أن يستهدف لكي يحيا جيدا؟

في الواقع من يريد من السياسي العادل أن يبلور له حياة جيدة ينبغي أن يعيش في مؤسسات عادلة وأجهزة ناجعة وأن يكون إنسانا قادرا على الكلام والفعل والوعد والاختيار والمبادرة وعلى العزوية ويجب أن يحرص على تقدير الذات واحترام المؤسسات وأن يعمل على دوام هذه المؤسسات. كما تتمحور السياسة العادلة عند ريكور حول دائرة الاهتمام بالغير والعناية به ومواساته والاشتياق إليه والتعاطف معه والتأثر به والتواصل معه ومؤازرته عند الضرورة وتقديم العون له عند الحاجة والارتباط به ومع غيره في علاقات شائكة ومعقدة في الحياة الاجتماعية من الولادة إلى الوفاة والتحول إلى رهينة الآخر ومتقبل سلبي أمام حضور الغير دون امتلاك أي قدرة ايجابية. بطبيعة الحال لا يقدر الإنسان أن يعيش حياة جيدة وهو في حالة عزلة ومنطوي على ذاته ولا تجمعه علاقات مع غيره ولا ينتمي إلى جماعة تاريخية ولا يشكل جزاء من البنيات الاجتماعي للعيش المشترك. من هذا المنطلق تساعد الإيتيقا من خلال مجموعة من القواعد الذهبية الكائن الإنساني على التمتع بالحياة الجيدة والمستكملة وذلك باستهداف معنى العدالة وعدم الاكتفاء بمفهومها النظري وشكلها القانوني وبمحبة الخير للغير على نفس منوال محبة الخير للذات والتضامن معه ومساندته عند الشدائد. على هذا الأساس تقف المؤسسة السياسية على نفس المسافة الفاصلة بين الأنا والآخر وتتميز بالحياد والموقف المتوازن من القوى المتصارعة وتتعامل بالتعاطف والمحبة والشفقة والتآزر. إذا كانت فكرة العدالة تفور الإطار القانوني لاحترام الغير من حيث هو مواطن فإن معنى العدالة يمنح الأرضية الإيتيقية للرأفة بالغير من حيث هو شريك والإحسان إليه من حيث هو صديق. بعد ذلك ينتقل ريكور بحذر شديد من سياسة المواجهة والتناظر بين الأنا والآخر في الفضاء المدني إلى سياسة التكامل والتآزر بين المتجاورين في نفس المجال المدني والمتقاسمين لنفس الفضاء العمومي22[22].

بعد ذلك يعود الى نقد هيجل لكانط في فكرة لااجتماعية الاجتماعي ويعتبر الفعل الأخلاقي بين الأشخاص دون عالم وبلا مجتمع فارغا وغير ناجع ويقوم بتثمين فكرة الأخلاق الاجتماعية23[23] وما تتوفر عليه من شيم ومكارم وأعراف وتقاليد تنظم العلاقات بين الأفراد في الجماعة التاريخية ويعتبر عالم الأنفس الطيبة هو عالم الإرادة الحسنة التي تريد فعل الخير المجرد ولكن ذلك الخير الفاقد للطابع الكلي وبالتالي يقوم الإنسان بفعل الخير دون أن يتمكن البتة من بلوغه بشكل متعين. لقد أرجع هيجل الأخلاق الى المجتمع ضمن علاقة الفرد مع غيره من الأفراد ومن أجل الآخرين في مجتمع مليء بالرغبات والممارسات والشيم العينية وفي عالم تنظمه جملة مؤسسات سياسية اجتماعية أين تتجسد الأفعال وتتخطى عتبة الجزئي والخاص والعيني لكل تعانق الكلي والكوني. لقد راهن ريكور على دور دولة الحق في بناء مؤسسات عادلة وشركات خاصة تشتغل في الإدارة والخدمات وتنظم الجوانب العمومية على غرار مؤسسات التعليم والصحة والقضاء. لقد ساند ريكور هيجل في تعويضه المبدأ الأخلاقي بالأخلاق الاجتماعية ولكنه تساءل عن عدم قدرتها على منع صعود النازية وكشف عن قوة الأخلاقية في المقاومة وتكنها من تأسيس فكرة معينة عن الإنسان العادل خارج إطار النسق السياسي الشمولي الذي اقترن مع الكارثة النازية. إذا كان هيجل يحيل العدالة إلى المجتمع فإن ريكور يفضل إحالتها إلى المؤسسات الشرعية من حيث هي شبكة تنبض بالحياة والفعل ومجال نشاط الفرد الإنساني من حيث هو ذات قادرة على بناء علاقات مع الأشخاص لا على قاعدة المحبة والصداقة حيث يغيب التبادل وتحضر الهدية وانما على قاعدة التوزيع المتوازن والتكامل الحقيقي حيث تتشكل صورة كل واحد ليس بوصفه أي كان وانما من حيث هو الشريك في النسق التوزيعي والذي يكون المستلم للقسمة العادلة24[24]. هل يمكن تأسيس مؤسسات عادلة بالمعنى الحقيقي للكلمة في دولة انطلقت في البناء الديمقراطي؟

تزايدت الشكوك حول علاقة المؤسسات الدستورية والسياسية بالعدالة وظهرت نزعة ريبية إزاء صوابية المؤسسات وفقدت الثقة في بلوغ دولة ديمقراطية قد تبتعد عن القانون وتقع في العنف. في هذا الصدد يفسر بول ريكور الهشاشة الكبيرة التي تتصف بها العلاقة البيذاتية وصعوبة تشييد حياة جيدة مع الآخرين ومن أجلهم بالتنبيه إلى عوامل كثيرة وأسباب عديدة على غرار طغيان النزعة الفردية وفقدان النزعة الاجتماعية وتزايد أشكال الانقسام والتنازع وتراجع التعاونية والقدرة على التفاهم. لقد أثر التعقيد الذي يتصف به المجتمع المعاصر على شروط التواصل وفرص الحوار وإمكانية إيجاد نقاط ارتكاز مشتركة وابرام تسويات بين المواطنين ودفع المستقبل إلى طرح أسئلة شائكة على المهمشين وتحميلهم مهام عويصة ليست من مشمولاتها وبالرغم من إقصائهم قواعد اللعبة. لقد أيد ريكور فكرة المجتمع الذي يتكون من ثقافات متعددة التي نادى بها تايلور ونقد النزعة الكونية المجردة عند هابرماس ورولز التي لا تعرف سوى بالمواطن الذي يقدم الحجج وليس الناس الذين يعيشون حياة طبيعية ووينتمون الى جماعات تاريخية ولهم عادات وتراث رمزي25[25]. غني عن البيان أنه يتعذر بناء مؤسسات عادلة لا تراعي الثراء الذي تتصف به الهوية الثقافية للأفراد على مستوى المضمون والقناعات الدينية والممارسات الاجتماعية التي يقوم بها المواطنين بصورة عادية. كما يقر ريكور بوجود مشكلة فيما يخص الكلي المجرد الذي يزعم إمكانية إلغاء جميع الفوارق بين الهويات وكل الاختلافات القائمة بين الجماعات ويتفطن الى كون التمفصل الفعلي ليس بين الكلي والجزئي بل بين الكلي المجرد والتاريخي ويبرز بصورة لافتة في التعارضات السياسية والاثنية. لقد جعل من قضية الهوية ومبدأ الاختلاف في مواجهة النزعة الكونية ودفع بالنقاش المواطني والجدل العمومي والانخراط في أفعال تواصلية في اتجاه بلورة رؤى متعددة حول المعايير والقيم التي تحدد دوائر الانتماء إلى الجماعة التاريخية

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب