19 ديسمبر، 2024 6:58 ص

سيادة القانون…. وقانون العشيره

سيادة القانون…. وقانون العشيره

عندما يشرع المرء بالكتابة ومن فرط إحساسه بالمسؤولية ، فهي محاولة منه بان يحدث ثقب في الظلام الناتج عن حالة التناقض والارتباك التي تسيطر على المجتمع بإفراده وقياداته السياسية والاجتماعية ، والإطلالة من خلال ذلك الثقب على حقيقة الأشياء وجوهرها الصافي النقي الذي أمرت به كل الأديان السماوية والنواميس الاخلاقيه . بان نسير بمقتضاه ونبني مجدنا ونستخرج رزقنا ونحمد الخالق . ومن باب مواجهة الخطر خير من الخوف الدائم . نقول إن حالة الارتباك والتناقض التي تسود مجتمعنا في الزمن الراهن لها مسببات عديدة ونتائجها معروفة . حيث قالوا قديما من يزرع الطيب يحصد الورد ومن يزرع الريح يحصد العاصفة . ولغرض تسليط الضوء على واحدة من الإشكاليات في حياتنا الراهنة التي هي وليدة التناقض والتخبط ، تلك هي مسألة سلطة المدينة وسلطة القرية . والقرية كما هو معلوم تسير بمقتضى مجموعة أعراف (وسناين) تراكمت عبر الزمن الذي غابت به سلطة الدولة ، لتصبح أرثا فكريا وقضائيا يحكم بموجبه بين القبائل قضاة وعوارف وفريضة . ويستند إليه شيخ العشيرة في فك الخصومات وحل المنازعات بين إفراد عشيرته أو العشائر الأخرى ،دون الحاجة أي الرجوع للدولة وقوانينها العلمية الحديثة إلا نادرا . وهذه القوانين والأعراف تنشط وتضعف في أزمان متفاوتة ومختلفة تبعا لقوة الدولة وهيبتها ، او ضعف الدولة واضمحلالها. فمنذ قيام الحكم الوطني وتتويج الملك وتجنيد ( الشبانة ) واستخدام ( الصاحب ) للعصي الغليظة في ترويض بعض الرؤوس المتمردة ( في نظر الصاحب ) ، وتقريبه لشيوخ العشائر وإبقاءه لقانون العشائر العثماني . ومن ثم تقريب شيوخ العشائر سواء من إسقاط الديون المترتبة بذممهم أو إعطائهم رواتب ، أو توظيف أبناءهم بالوظائف الحكومية أو الجيش في الفترة اللاحقة ما بعيد الحكم الوطني . فنشط الشيوخ وساد قانون القرية حيث إن القانون الذي يحكم حياة المدينة في مملكة العراق التي لم تزل تحت الانتداب البريطاني أو مكبلة بالمعاهدات الجائرة ، كان ذلك القانون مزيجا من بقايا النظم التركية أو القوانين الهندية أو الانكليزية والمصرية ، أو هي خليط من هذا وذاك .لذلك تسيد شيخ القبيلة ونشطت ( السناين ) والأعراف التي كان يحتكم إليها البدوي أو الشاوي في الأزمنة الغابرة . الى إن تمكن العراقيون وبعد عناء وتضحيات كبيرة ، وضغط شديد على السلطة البريطانية من تقليص بنود بعض المعاهدات الجائرة وقبول العراق عضوا في عصبة الأمم وبدايات لتشكيل نواة للشرطة العراقية التي لا يقبل فيها الفرد إلا ضمن مواصفات عمرية وجسمانية ، من حيث الطول واللياقة والقوة ومدى قربه من شيخ العشيره . وبعدها يخضع الى تدريبات صارمة على أيادي الانكليز، ومن ثم تدريبات فكرية على أيادي بعض الوطنيين من المواطنين . فتم بناء جهاز شرطة جسميا ومهنيا وقانونيا يستطيع كجهاز تنفيذي إن يقضي على كل بؤر الشر والفساد ، رغم سذاجة تسليحه وبساطة وسائل تنقلة . ومن منا لم يذكر أو لم يسمع إن شرطيا واحدا يمتطي صهوة حصانة إذا دخل قرية يفر منها كل الشباب سواء كانوا مطلوبين للخدمة ( الإجبارية ) للجيش أو لم يكونوا ، حتى إن رئيس القبيلة يحتفي به أيما احتفاء ، كونه يمثل هيبة الدولة وسطوة القانون الذي راح يسيطر على ويلغي الى حد كبير قانون العشيرة وسناينها وأعرافها الى إن أصبح قانون الدولة وهو السائد دون منازع . والغريب في الأمر إن نسبة الريف الى المدينة كانت تتراوح بين ( 75- 80 % ) من نفوس العراق ونفوس المدينة تشكل النسبة الباقية ، ولكن الذي يحصل إن قانون المدينة إي قانون الدولة هو السائد وهو المعمول به ، ولم يمارس إي قانون أخر الى جواره وخاصة بعد أن قامت ثورة 14 تموز عام 1958 م ، وسيطرت عليها الجهات السياسية المعروفة ، التي ضغطت على عبد الكريم قاسم بان يحد من سلطة الشيخ على الفلاح ، وتقليص نفوذه في المقاطعات الزراعية وتقليص المساحات المخصصة له ، بل وتضييقها وبث نوع من الوعي بين صفوف الفلاحين بأنهم الشريحة الأهم في المجتمع بعد الطبقة العاملة . وعليهم إن يرفضوا سلطة الشيخ ، الأمر الذي جعل العديد من شيوخ العشائر يغلقون مضائفهم أو يتركونها لغيرهم ويلجأون الى المدن لتسقط عيشهم من خلال اشتغالهم ببعض المهن المتواضعة مثل فتح الحوانيت أو العمل بالدولة كحارس أو فراش وما الى ذلك أو شرطي ، هنا أيضا استمرت حالة سيادة قانون القرية بالتدهور بل والاختفاء . وكان الكل يلجأ الى القانون لحل المنازعات أو الإشكالات أو التناقضات ، في حين إن قوانين الدولة شهدت تطورا تشريعيا على هيئة قفزات نوعية ، تبعا لما حصل في العالم من تطور وتقدم . ومن اللافت للاهتمام أن الهجرات الكبيرة التي حصلت في الريف العراقي باتجاه المدن وسكناها في إطراف المدن ، وميلاد قرى وقصبات بل وإحياء جديدة مثلما حصل في بغداد والبصرة والموصل وكبريات مدن العراق الأخرى. إن تلك الإعداد المهاجرة لم تؤثر في القانون المدني بل خضعت له ولكن تأثيرها كان بفعل التزاحم مع ابن المدينة ، ينصب في انخفاض أجور العمل ورداءة العمران وقلة الخدمات الناتجة عن ميلاد تلك الإحياء بسبب الهجرة وبطء الخدمات البلدية ، إضافة الى التأثير على الجوانب الاقتصادية الأخرى المتعلقة بارتفاع الأسعار من خلال الطلب المتزايد على السلع والخدمات التي أوجدها المهاجرون ، والعرض القليل في إنتاج تلك السلع والخدمات . الأمر الذي سبب إرباكا في حسابات الاقتصاديين والجهات المسؤولة عن تخطيط المدن بل إرباك لخطط طويلة الأمد الموضوعة من قبل الدولة لتطوير هذه المدينة او تلك، من حيث فرص التعليم والخدمات الصحية وخدمات الأمن وانتشار الجريمة وبعض حالات الانحراف الخلقي ، سيما والمهاجر الى المدينة جلب معه اغلب عادات الريف من حيث عدم الاهتمام بنظافة المكان وطبيعة تربية الأطفال والنظرة الى الأشياء الحضارية ووزنها بعين متخلفة . واستمرت وتيرة سيادة القانون المدني بالتصاعد حتى بعد انقضاء حكم عبد الكريم قاسم وفترات الإرباك السياسي التي أعقبت ذلك الحكم ، والمتمثلة بانقلابي شباط وتشرين 1963م والحكم العارفي ، وحكم البعثيين مرة أخرى . حتى إن البعثيين في بدايات حكمهم بعد 1968م أصدروا اوامرا بإلغاء الألقاب ، فلا يجوز إن يكتب فلان بن فلان التكريتي أو الدليمي أو العزي أو التميمي وما الى ذلك ، وإنما يكتفي بالاسم الثلاثي أو الرباعي . وأصبح ذلك من المحرمات لديهم ، وعمموه على تشكيلات حزبهم ومؤسسات الدولة . وبهذه الحالة أصبح قانون الدولة قوي جدا ، والانتماء الى القبيلة انتماء واهيا وضعيفا ، ولا وجود لسلطة القرية . ولكن الذي حصل وبعد الحرب العراقية الإيرانية عندما احتاج البعثيون الى برنامج عسكرة الشعب ، باتجاه إدامة زخم المعركة مع إيران لجأوا الى أساليب تثقيفية غاية في الخبث ، تثير الحمية بين أوساط العشائر وتوقظ العصبية ، وتنمي شيئا فشيئا عملية الانتماء الى القبيلة ، التي هم عملوا على اضمحلالها في فترة ما . ومن ثم تقوية مركز الشيخ وإسباغ العطايا والهدايا على الشيوخ ، ودعوتهم باتجاه لملمة شتات عشائرهم وإحياء قانون العشيرة والسناين والأعراف . الى إن راحت تتصاعد وتطغى على القانون المدني ، فعادت النعرات والعصبيات من جديد . وكان رأس النظام يجتمع بالمشايخ بشكل دوري بل ويزورهم في قراهم ليوطد هذه العملية التي رؤاها تشكل واحدة من الدعائم الساندة لكي لا ينهار نظامه ، واوجد صيغا تنظيميه لهذه العملية المتخلفة اسماها المشجرات ، وعلى كل امرئ إن يعرف قبيلته اي بمعنى رفع ذلك النظام الانتماء الى المدينة أوالى الحضارة والى الدين الإسلامي على الأقل . وهذا كأسلوب كان يعد الشيوخ به لتقوية مراكزهم . وفي هذه الفترة تعطل القانون بشكل عام وأصبح يخضع لمزاج ( رئيس النظام ) على هيئة مكرمات . وهذا ليس موضوع بحثنا . وفي ضوء ذلك التصعيد العشائري انهار المجتمع وتخلخل وتفاوتت الطبقات وتنفس الشيوخ الصعداء . حيث إن اغلب الناس في المدينة قد فارق أجدادهم الانتماء الى القبيلة يحميهم بذلك قوة قانون الدولة ، واستمر الأولاد والأحفاد على نهجهم حتى فوجئوا بالانتماء الى القبيلة بشكل رسمي وهذا مصدر الإرباك . وأننا إذ نذكر هذه الشواهد ، لا نعني التقليل من أهمية المواقف الوطنية لأبناء العشيرة وشيوخ العشائر ولا ننتقص من إسهاماتهم الكبيرة في كل الانتفاضات والثورات وعمليات التصدي للأجنبي ، بدء من الاحتلال العثماني والاحتلال الانكليزي ومقاومته بشكل رائع ، وهذا جانب يختلف عما نتحدث عنه . وفي عملية ما بعد التغيير 2003 وما رافق ذلك من فوضى أوجدها المحتل الأميركي ، الذي يسير وفق منهج نظرية التفكيك . فتمكنوا من تفكيك المجتمع العراقي الى قوميات ومن ثم الى مذاهب وفككوا القومية الواحدة الى طوائف ، وفككوا الطائفة الواحدة الى زعامات ، وراحوا يغذون ذلك لكي يتناحر ويتصارع ويتناقض ويضعف لصالحهم ويحكموا السيادة عليه . وهنا غاب القانون وعاد قانون القرية على أشده وفي أعلى صوره ( كون الأمريكان اعتمدوا التجربة الانكليزية في بدايات احتلالهم للعراق سنة 1914 -1918 م ). وان الصورة التي عاد فيها قانون القرية هذه المرة لم يشهد لها العراق مثيلا ابان كل فترات الاحتلال التي تعرض لها . فأصبحت الأعراف العشائرية والسناين تسود علاقات الناس العامة وتنظم شؤونهم ويتم فض المنازعات بين السكان سواء كانت في القرية أو المدينة عن طريق قانون العشيرة . وامتد ذلك الى القضاء والى دوائر الشرطة والى الوظيفة العامة فانك تجد عندما تراجع هذه الدوائر من يقول لك ( سويها عشائريا ) . وانقلبت المعادلة عما هي عليه في العهد الملكي أو عهد عبد الكريم قاسم حيث أصبح سكان المدن من جراء الهجرة المتنامية يشكلون 80 % في حين إن سكان القرية يشكلون النسبة المتبقية . ولكن السائد هو قانون القرية وأعرافها وموروثاتها ومزاجيتها ، وقانون المدينة هو الغائب بل والمهمل . والعنصر التنفيذي لا يحترم ، بينما في السابق كان يفر من ذكر اسمه من يشعر إن لديه تقصير تجاه القانون . وهذا من عجب العجاب حتى إن الجهات لتنفيذية عندما تحاول تطبيق القانون أو محاولة ممارسة واجباتها على الأقل تواجه بقانون القرية وتهديداته . بل إن افرد الحكومة بدء من السلم الوظيفي البسيط صعودا الى أعلى المستويات عندما تحصل خصومة ما بين اثنين أو أكثر فان عملية ( الكوامة ) تجدها حاضرة في ذهنية هؤلاء، دون التفكير في اللجوء للقانون المدني للدولة . وهذا ناتج في رأيينا عن تسيد أبناء القرية للسلطة في المدينة ، الأمر الذي أدى الى ضعف فعل قانون الدولة ، وتهاون القائمين على تطبيقه من جراء استشراء الفساد الإداري والمالي والصفقات التي تجري ما تحت المناضد خارج إطار التعامل المدني المطلوب . فتصاعدت عملية التسيب والفوضى المرافقة للوظيفة العامة . وازداد جسم تلك الوظيفة ترهلا وأصبحت البطالة المقنعة واضحة للعيان بفعل المحسوبية والمنسوبية والمناطقية والعشائرية والقرابة الحزبية ، دون النظر الى مصلحة الآخرين بتجرد ، ودون وضع مصلحة العراق أولا . وهذا لعمرك هو قمة الإساءة لقانون الدولة وللقيم والثوابت التي أرساها التطبيق القانوني في مسيرة الدولة العراقية السابقة ، وما عرف عنها من رصانة في تطبيقها القضائي ونزاهته . فحدثت عملية نكوص واستشرت قيم خارجة عن القانون، ومورست انتهاكات مدانة تخرق المألوف . وان هذه العملية التي نمر بها اليوم قد مرت بها شعوب عديدة مثلنا ، كمراحل مرتبكة لا بد منها تحدث خلال عمليات الانتقال من حال الى حال ، أو في عمليات الاحتلال والغزو والاجتياح . ولكن الاحتلال الأمريكي لو انه حاول إن يطبق الديمقراطية في بلدنا مثلما هي مطبقة في بلده ، لما حدث ذلك . بل ولم يستمر هذه الفترة كلها ، وربما يطول الى زمن غير مسمى . وإلا كيف تفسر عدم اكتمال بناء الكهرباء التي تعني الاستقرار ونهوض الصناعة والزراعة واستقرار الريف ، ومن ثم سيادة القانون بعد إن يستقر الاقتصاد ويتنامى ويتنوع . أو كيف تفسر عمليات التفكيك والشرذمة التي أوجدها المحتل تحت ذريعة الديمقراطية التي هي عبارة عن ضحك على الذقون كونها لا تشبه ديمقراطيتهم . وكيف تجد تفسيرا لتنامي سيادة قانون القرية وطغيانه على قانون الدولة . الأمر الذي جعل الدولة ترفع شعار ( بناء دولة القانون ) وهذا بعينه يؤشر مدى الانهيار الذي حدث للقانون من جراء إهماله من قبل ابن القرية الذي تسيد على الوظيفة في الدولة . وهذه إشكاليات وأبيك لا نعلم متى تنتهي .حيث ليس من الحكمة التنبؤ في بلد أعاد التاريخ فيه نفسه مرات ومرات .

أحدث المقالات

أحدث المقالات