اتسمت هذه الفترة من تاريخ منطقة الشرق الاوسط بصورة عامة والعراق بصورة خاصة بالمزيد من التوترات التي احدثتها التدخلات الواضحة والصريحة للقوى الاقليمية والدولية بشؤون دول المنطقة بشكل عام ودون حصر بالاخص تلك الدول التي لم تزل تعيش حالة من الفوضى السياسية وفراغ سياسي سيادي لاتحسد عليه، ومع تزايد الصراع بين تلك القوى الخارجية على دول المنطقة، اوجبت العملية العسكرية التي قامت بها الولايات الامريكية المتحدة تجاه بعض قادة الشيعة التابعين للحرس الثوري الايراني والحشد العراقي الشيعي الموالي تماماً لايران، اوضاعاً خاصة، حيث بلغ التوتر اقصاه، وتلى ذلك تصريحات وتهديدات ايرانية والاحزاب والمليشيات التابعة لها سوى داخل ايران او وخارجها لاسيما في كل من العراق وسوريا ولبنان وحتى اذناب ايران في فلسطين ” حماس ” ، فضلاً عن الموقف الدولي الذي وجدناه غير متوافق وغير واضح فيما يخص شرعية العملية لانها بلاشك ارضت الكثير من الدول باعتبار انها قضت على احد رموز الارهاب في المنطقة ككل، كما انها قصت اجنحة الحشد الشيعي العراقي وجعلت قادته الباقين يعيشون حالة من الفزع والذعر، ولم يكن خافياً على احد بأن تلك العملية كانت ردة فعل امريكية طبيعية تجاه ما كان قد قام به بعض قادة الحشد الشيعي والموالين لهم بالتوجه الى السفارة الامريكية في بغداد واقتحامها ، فكان ان جاء الرد الامريكي بشكل اكثر فعالية واعمق واكثر تأثيراً ليس فقط على العراق انما على ايران واتباعهم في المنطقة كلها.
نتج عن هذه التوترات عدة امور منها ماجرى داخل البرلمان العراقي الباحث عن السيادة الوطنية حيث خضع ممثلي الاحزاب الشيعية ” غالبيتهم ” للمنطق المذهبي الشيعي الموالي لطهران فبدل ان يبحثوا عن حلِ لمشاكل الشعب الخارج منذ اشهر للشارع في مظاهرات عارمة، وجدناهم يرددون ” نعم نعم سليماني ” في اشارة الى الجنرال قاسم سيلماني الايراني الذي استهدفته الطائرات الامريكية في تلك الضربة القاصمة للظهر فاردته مع ابو مهدي المهندس العراقي احد قادة الحشد الشيعي العراقي واخرين كانوا معهما، فضلاً عن قيام ايران باظهار عنترياتها من خلال اطلاق عدة صواريخ على ما سمته قواعد امريكية لاسيما في حدود اقليم كوردستان حيث اصابت تلك الصواريخ بعض الاماكن القريبة من مطار ” هه ولير ” الدولي ، ومناطق اخرى بالقرب من ناحية برده ره ش الكوردية ، دون ان تسفر عن اية اصابات، كما انها اسقطت متعمدة احدى الطائرات الاوكرانية المدنية التي قضى فيها 176 شخص، وفي خضم هذه الاجواء المتوترة، والصراع المحتدم، وجدنا الاحزاب الشيعية العراقية الموالية لايران يطالبون بعقد جلسة للبرلمان بهدف التصويت على اخراج القوات الامريكية من العراق، واجبار الحكومة العراقية على رفع مطلبهم بشكل رسمي للجهات المعنية على المستويين الدولي والامريكي، وتلى ذلك تصريحات وتهديدات تتوعد القوات الاجنبية على ارض العراق، مع عدم نسيان بان ذلك العمل اللاسياسي – باعتباره حدث تحت ضغط ايراني صريح – احدث شرخاً في البنية السياسية والاجتماعية في العراق الفيدرالي، فكل من نواب الكورد والسنة لم يشاركوا في جلسة التصويت، مما يعني بوضوح ان الحاضرين كانوا ممن تم توجيههم من قبل ايران.
جرت كل هذه الاحداث بشكل سريع واخضعت المنطقة لقلق متزايد وخوف من ان تندلع الحرب بين امريكا وايران على ارض العراق، ولكن بلاشك ان الامر لم يكن الا مسرحية اخرى تهدف القوى الاقليمية والدولية من خلالها الى ترسيخ مصالحها بشكل اكثر على حساب شعوب المنطقة، وليس بغريب ان تخرج الشعوب للشارع ويبقى الساسة خلف المنصات المحمية ينددون ويحرضون ويشيعون الفتنة بين اطياف الشعوب انفسها، كما انه ليس بغريب ان تخرج اذناب ايران في المنطقة لتعلن عن نفسها بشكل رسمي وتهدد الجهات التي تساند تواجد القوات الامريكية في العراق وفي المنطقة بشكل عام، منادين بحماية سيادة الوطن، والعمل على اخراج المحتلين للحفاظ على سيادة الدولة، والمناداة بالسيادة الوطنية المطلقة والى غير ذلك من الشعارات التي التحفت بها تلك الاحزاب الموالية لايران داخل العراق لتحريك الشارع العراقي، الذي وجدناه في ساحة التحرير اكثر ثبات وايمان بان هذه الشعارات لايراد منها سوى تفريغ الساحة لايران لكي تتحكم اكثر بكل موارد العراق، اي انها كانت بنظرهم كلمة حق يراد بها باطل، فمن يريد سيادة الدولة لايردد في جلسة رسمية للبرلمان نعم لاحد قادة الحرس الثوري الايراني.
ولقد جعلتنا تلك الشعارات التي اطلقت تحت مسمى السيادة الوطنية، سيادة الدولة، السيادة المطلقة، الى النظر للموضوع بشكل اخر، ولعلنا من خلال الاسطر القادمة نعطي ملخصاً عن مفهوم السيادة، باعبتارها كما يراها ” محسن افكيرين ” تعتبر فكرة السيادة والاعتراف بها للدول من المبادئ المتفق عليها في ميثاق الامم المتحدة والاتفاقيات الدولية التي تصب في ذات الصدد، كم يرتبط مبدأ السيادة في قانون الامم المتحدة (القانون الدولي العام) مع انبثاق الدولة القومية الحديثة بعد معاهدة وستفاليا 1948 التي اقرت مبدأ السيادة (سيادة الدولة) باعتبار انها سلطة الدولة العليا والمطلقة على اقليمها – اي حدودها – ، اي حق الدولة في ممارسة وظائفها وصلاحياتها واختصاصاتها داخل اقليمها القومي دون تدخل من اية دولة اخرى (القانون الدولي العام)، وفي سياق الحديث عن الدولة يقول: ” محمد بلعيشة ” اصبحت الدولة، وبحكم الصلاحيات الممنوحة لها، تتمتع بالسيادة التي تحدد علاقاتها بالدولة الأخرى؛ في فصل كل ماهو خارجي عن كل ما هو داخلي، واعتبرت القوانين والتشريعات التي سنتها الدول أثناء منشئها – سواء كان المنشأ ثورة أو انقلابًا أو انتقالًا- أن التدخل في شأنها الداخلي يعتبر أمرًا مرفوضًا يستدعي التصعيد والرد، وأصبح أمر التدخل في شؤون الدول، وإن خرقت المواثيق أو القوانين أمرًا صعب الحدوث، ان لم يكن مستحيلًا.( الدولة في الشرق الاوسط من القومية الى الهوية).
فالدولة بلاشك كيان، وبناء استراتيجي، تضمن للمواطنين الأمن و الانتماء، وعبر العصور تطورت وفق متطلبات الفرد وفكره، لكن في الشرق الأوسط عصف بمفهوم الدولة وسيادتها، وساد منطق المرجعيات الدينية والعرقية، بدلًا من الدولة «الويستفالية»؛ لتشهد تصعيدًا يمكن توصيفه بالـ«حرب الباردة الشرق أوسطية»! توجهت من خلال هذه المنطلقات الجماعات العرقية والإثنية لتحمل مسؤولية بعض وظائف الدولة في تحقيق الأمن والمطالبة بالانفصال؛ وبالتالي الإنقاص من شرعية وسيادة الدولة في المنطقة ، وكما يقول “طلال العيسى”: ان النظر الى مسألة سيادة الدولة وفق المذهب التقليدي يعطي الدولة حق الابتكار المطلق على اقليمها وشعبها دونما رقيب ولاحسيب على هذه السيادة ولكن الاخذ بالمذهب الحديث المعاصر الذي ينظر الى فكرة السيادة بواقع ما يشهده العالم من متغيرات بدأ يفرض نفسه حيث لم تعد هذه السيادة مطلقة بل على الاغلب لاتزال كذلك فقط على الاوراق او في نصوص المعاهدات والاتفاقيات الدولية بمعنى ان هذه النصوص مع مرور الزمن ماتت واصبحت مجرد حبراً على ورق، حيث نجد في ميثاق الامم المتحدة ابرز مظاهر التدخل في شؤون الدول والتي تحد من السلطات والصلاحيات السيادية للدول الذي جعل صلاحيات واختصاصات هذه المنظمة تشمل بالاضافة للنواحي السيادية والامنية والمجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها التي كانت تعتبر تقليديا من صميم الاختصاص الداخلي للدول ، ولقد استخدم حروشيوس مفهوم السيادة في كتابه قانون الشعوب ليدلل ان كل دولة تملك قرارها بنفسها وبذلك تصبح الدول متساوية السيادة وبذلك اكد على ان الدولة لها الحق في شن حروبها بدون مبرر او التنازل عن جزء من اقليمها او ضم اقليم من دولة اخرى وكل ذلك يعتبر هملاَ مشروعا في ظل مفهوم السيادة المطلقة، والواقع ان فكرة السيادة تقوم على انها مفهوم قانوني سياسي، بالمقصود بالسيادة : ان الدولة هي التنظيم السياسي الاجتماعي الذي يحق له وحده دون غيره ان يحتكر ادوات القوة التي يحتاجها، بما في ذلك ادوات القمع والاكراه لفرض سلطته على مجمل الاقليم الذي يشكل حدوده السياسية، وعلى الافراد الذي يقطنون هذا الاقليم.( السيادة بين مفهومها التقليدي والمعاصر).
على الرغم من وجود قوانين خاصة ومفاهيم سياسية خاصة تؤكد على وجود ما يسمى بسيادة الدولة، الا ان تلك المفاهيم وتلك القوانين ليست الا غطاء واضح للدول اصحاب المصالح في المنطقة للتدخل بشكل واضح وتحت غطاء قانوني في شؤون الدول الاخرى، حيث ان هذه المفاهيم غير المتوافقة بين ما هو تقليدي ومعاصر، وبين ما هو مكتوب وما هو ماقعي ملموس، جعلت الشعوب تعيش حالة من الهذيان السياسي ولم تعد تعرف بشكل واضح ما هو سيادي مستقل وما هو سيادي مصلحوي وما هو سيادي تابعي، وبذلك دخلت شعوب المنطقة باكلمها في دوامة من موجبات المصطلحات التي لاتخدم سوى مصالح القوى الاقليمية والدولية دون اية اعتبارات لشعوب المنطقة، وهذا ما فرض وجهة نظر اخرى، حيث وجهت انتقادات كثيرة الى نظرية السيادة، حيث نجد بان هناك من يدعو الى استبدال مصطلح السيادة بمصطلح الاستقلال، فقد ذكر” هاشم بن عوض” ان السيادة مصطلح غير قانوني ولايشير الى اي معنى ثابت، ولكنه تعبير عاطفي بشكل كلي، كل شخص يعرف ان الدولة ذات سلطة، ولكن التأكيد على السيادة يؤدي الى المبالغة في سلطتها وتشجيعها على اساءة استخدامها.( السيادة بين مفهومها التقليدي وظاهرة التدويل).
وحين ننظر الى دول المنطقة من هذا المنظور الاستقلالي نجد عمق الهوة بين ما هو مدون ورقياً وبين الواقع العياني، فالعراق كأنموذج لايمكن ابداً ان نؤمن باستقلاليته لا ورقياً ولا سيادياً ولا واقعياً، لكونه ليس الا مستعمرة ايرانية من جهة، وساحة نزاعات بين القوى الاقليمية والدولية من جهة اخرى، ويفتقر الى اي نوع من انواع السيادة، فقراره السياسي ليس بيده، وتشريعاته لايتم تصديقها الا بمباركة اقليمية او دول ذات المصلحة، بل حتى انه يمكن ان نرى انموذجاً اخراً داخل ما يسمى بالسيادة الوطنية العراقية وهو ان العلاقات الخارجية التي تتبناها لاتقف على حاجات الشعب انما بما تفرضه عليه القوى الاقليمية كتركيا وايران، وهذا بالضبط ما حدث في موقف حكومة بغداد تجاه اقليم كوردستان أبان عملية استفتاء استقلال كوردستان 25-9-1917، حيث وافقت بغداد على دخول القوات التركية لعمق اراضي الاقليم التابع دستورياً لبغداد لضرب حزب العمال الكوردستاني المنتشر بشكل كبير في المناطق الحدودية، بالمقابل ان تعلن تركيا معاداتها للاقليم والاستفتاء، في حين موقفها مع ايران واضح حيث ان الاخيرة وافقت على اغلاق المنافذ كلها بطلب من بغداد، بالطبع الامر ليس لان ايران خاضعة لبغداد ولكن لانها التي تعمل على وضع المسار الذي يجب ان تسير عليه بغداد، وبالتالي فان مفهوم السيادة المطلقة او الوطنية ” الاستقلالية” لم يكن موجوداً في اية مرحلة من مراحل تاريخ العراق المعاصر، لانها لم تكن سوى اوامر خارجية تطبق داخل اروقة السياسة العراقية، وهذا ليس رأي شخصي انما هو واقع ملموس والناظر بعمق وبدون مذهبية او طائفية او عرقية قومية سيرى مدى خضوع العراق تحت تأثيرات هذه الجهات الاقليمية والدولية.
ولهذا نجد من حدد ماهية “ميثاق مناحي العيساوي” الخرق السيادي الوطني وبحسب المفهوم السياسي من خلال ثلاث طرق: وهو إما اختراقها عن طريق الإغواء “من خلال توقيع الاتفاقيات السياسية والأمنية والاقتصادية والتحالفات العسكرية” وهذا مايحدث حالياً، أو اختراقها بالقوة العسكرية والأمنية “من خلال القوة الصلبة” كما حصل للعراق عام 2003، أو عن طريق اختراق مكونات الدولة الوطنية نفسها من الأسفل والتحكم بقواها الداخلية، وهي السياسة ذاتها التي تتبعها اليوم كثير من الدول الإقليمية ودول الجوار في العراق وسوريا، سواء من خلال دعمها للفصائل أو الحركات الداخلية المسلحة أو غيرها؛ من أجل أن تكون أداة سياسية وعسكرية متحركة وفقاً لأهدافها البراغماتية، وهذا الاختراق الأخير لمفهوم السيادة الوطنية يعد من أخطر أنواع الاحتلال الداخلي؛ لأنه يرتبط بروابط دينية أو مذهبية أو عرقية، مما يهدد الطيف الاجتماعي، ويضرب عملية الاستقرار السياسي في العمق. (مستقبل السيادة الوطنية في ظل سياسة التحالفات والحرب على الارهاب).
والملاحظ لهذه لمفاهيم المطروحة حول السيادة الوطنية او سيادة الدولة سيجد بأن غالبية دول الشرق الاوسط تعيش تناقضاً واضحاً بين ما هو مدون في دساتيرها، وما هو مدون دولياً واقليمياً حول مفهوم السيادة الوطنية، وبين ما تقوم هي به من اعمال سياسية تذهب في كل اتجاهاتها الى الخضوع لمنطلق المذهب الديني او النزعة القبلية القومية، فكلما اشتدت الاوضاع داخلياً حتى تبرز الاصوات الخارجية التي تحرض اجنداتها الداخلية للقيام باعمال تعسفية تجاه المكونات الاخرى سواء من خلال تهميشها او محاربتها لكونها تطالب بحقوقها الدستورية المشروعة، او حتى من خلال ضربها بالقوة العسكرية، وبالتالي ينتج عن ذلك فوضى عارمة تهدد كيان الدولة الفاقدة في الاصل لسيادتها، وتهدد السلام المحلي والاقليمي والدولي معاً، فضلاً عن ظهور مدى ترابط القوى المنتهكة لحقوق السيادة الوطنية وتحالفاتها وتوحيد مساعيها وخطابها السياسي المعادي للمكونات الاخرى الرافضة للخضوع والتذليل، والداعمة للاستقلالية والحرية ، ولعل خطاب حسن نصرالله الايراني قبل ان يكون اللبناني وهجومه على حكومة اقليم كوردستان وعلى احد قادة الكورد البارزيين ” البارزاني ” ليس الا دليل محكم على تخبط هذه القوى ” الموالية لايران ” الخارقة لسيادة الدول الاخرى، والساعية لزعزعة اوضاع المنطقة ( لبنان – سوريا – العراق – اليمن )، كما انه دليل على فقدانهم لكل مقومات المقاومة الوطنية الحقيقية، وتمسكهم فقط بالخطابات والشعارات المحرضة التي لاتسمن ولاتغني عن جوع ، ونجد في رد حكومة اقليم كوردستان على نصرالله الايراني اللبناني ما يثبت الخرق السيادي الذي تمتهنه هذه القوى الموالية لايران ” انك يا من لاتجرؤ على رفع رأسك خوفاً من اعدائك، مالذي يجعلك تتحرش بشعب لارابط يربطك به..”، موضحاً ان الرئيس بارزاني هو رمز صمود أمة وانت ايها الرعديد اصغر بكثير من أن تتطاول عليه..”.