ان سماحة المرجع اليعقوبي في هذا الكتاب قد توسع في هذه النقاط (التي اشرنا اليها في الحلقة الاولى)، وهي أفكار قابلة للتنفيذ والاستفادة منها لكل من يسعى للإصلاح والتغيير الايجابي كما عبر (دام ظله). بعد هذا نلتقي بعنوان في الكتاب هو (حاجة الحوزة العلمية إلى التحديث وان صلاح الأمة بصلاح الحوزة العلمية). فابتدأه بهذه الرواية عن الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) انه قال: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله ومن هما؟ قال (صلى الله عليه واله وسلم): الفقهاء والأمراء) والمرجع ينطلق من هذه الرواية لتوضيح فكرته عن الإصلاح والتجديد وما هي علاقة الفقهاء مع المجتمع أو الأمراء مع المجتمع أو الفقهاء والأمراء . وهذا التغيير والإصلاح يجب ان يبتدئ أولاً من كيان هذه المؤسسة فيتغير الجميع استنادا إلى أن فاقد الشيء لا يعطيه والكمال لا يأتي من الناقص والنور لا يأتي من الظلام، وإنما ينبع من الكامل والنور ينبعث من النور وهكذا فالتغيير يجب أن يكون من الداخل كي نغير أو يتغير الخارج بالتبع: (( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) فيقول المرجع (دام ظله) شرحا للعلاقة بين الفقهاء والأمراء: (والذي افهمه إن علاقة هذين الصنفين بفساد وصلاح المجتـمع ليست بمرتبة واحدة من حيث العلية والمعلولية، ففساد العلماء علة لفساد المجتمع فيكون فساد العلماء متقدمـا برتبتين على فساد الأمراء وكـذا صلاحها طبعا…) أي أن العلماء إن صلحوا صلح المجتمع، والمجتمع بصلاحه يصلح الأمراء لان: (الأمراء حصيلة ونتاج المجتمع نفسه، فتحصل من ذلك ان فساد العلماء هو سبب فساد المجتمع أما فساد الأمراء فهو كاشف عن هذا الفساد لإنه اثر من آثاره)، وأما المقصود من فساد العلماء فان المرجع يبين ان مفهوم الفساد يمكن تصور معنيين أو شكلين له فيقول :
(الأول: التقصير في أداء المسؤوليات من إرشاد الأمة وتوجيهه …)، والمسؤوليات كما عرفناها عديدة ومتنوعة لا يغتفر التهاون والتكاسل عن أدائها لان هذا معناه ظهور الأمراض المجتمعية والفكرية والعقائد والثقافات الغريبة عن مجتمعنا، وترك الأمر دون ممارسة هذه المسؤوليات يؤدي إلى أمور لا يحسن عقباها وقد رأينا كيف اخترقت بعض الحركات المنحرفة فكريا وعقائديا أبناء هذا المجتمع مستغلين هذه الفجوة ونشروا سمومهم التي انجذب لها بعض من شبابنا، ولا ينفع القول إنهم من الجهّال أو العوام كما يحلوا للبعض تبرير ذلك لان هذا الوصف لهم نتيجة لعدم ممارسة العلماء لدورهم في توعية هؤلاء فيجب إيصال الصوت إلى هؤلاء وغيرهم وتوعيتهم . وكلامنا هذا على مستوى العموم والمجموع لا المصاديق والأفراد لإنه كما هو معلوم هناك من يؤدي دوره كاملا تجاه الأمة لكن المشكلة تكمن ان ليس الجميع هكذا.
وأما الفهم الثاني للفساد فهو كما يقول المرجع: (انحراف رجال الدين المتصدين للمجتمع وتغير نواياهم وأهدافهم من ربانية مخلصة إلى دنيوية محضة وحب الدنيا رأس كل خطيئة)، وهذا لا يقل خطورة عن الفهم الأول ان لم يكن الأخطر فكيف يمكن تصور (عالم) فاسد ونريد منه ان يصلح ويهدي الناس… النتيجة طبعا انه سينشر الفساد والرذيلة تبعا لما يملكه وهو جل ما عنده. ويستخلص المرجع (دام ظله) نتيجة: (انك إذا رأيت مجتمعا صالحا فأعلم ان من ورائه علماء صالحين واعين متحركين مخلصين، وان رأيت مجتمعا فاسدا فاعلم ان سبب ذلك خلّو علمائهم من واحدة أو أكثر من هذه الصفات أي الإخلاص والصلاح والوعي والعمل بل هم ليسوا علماء حقيقة)، وان سمّوا بهذا الاسم، لذا تراهم غالبا أما أن لا يكون لهم أي تأثير إيجابي واضح ــ بل تأثيرهم خلاف ذلك ــ أو أنهم لا وجود لهم يذكر… والحوزة هي التي ترعى وتهتم وتصقل هؤلاء العلماء منذ بدايات مراحلهم الدراسية فيها إلى أن يصلوا إلى أعلى المراتب العلمية، وهذا الاهتمام إن شابه شيء ما فأن هذا ينعكس على أفراد هذه المؤسسة، ولان أهل مكة أدرى بشعابها فيقول سماحة المرجع (دام ظله): (فكم من الصفات المذكورة تهتم بتربيتها الحوزة الشريفة في ظل نظامها الحالي؟ استطيع أن أقول ان فيها تقصيراً كبيراً من عدة جهات فهي تهتم بإعطاء حشد من المعلومات النظرية الخاوية من الحس الروحي الذي يشدًّ إلى الله سبحانه ومن الحس الاجتماعي الذي اعني به كيفية التعامل مع الواقع المعاش ورفعه إلى مستوى التطبيق الكامل للشريعة لا الهبوط بالشريعة إلى مستوى الواقع وتكييفها وفق متطلباته.). وهنا ابتدأ المرجع(دام ظله) بالنقد المباشر للمؤسسة وإنها هل تؤدي دورها الأساس في ترسيخ هذه الصفات المقومة لطالب الحوزة ويتساءل عن ذلك ثم ينقد اتجاه معين يقنن الشريعة حسب ما تراه الأمة لا رفع الأمة إلى مستوى ما تراه الشريعة ويعزو هذا التقصير وهذا الاتجاه إلى انه: (ناشئ من عدم وضوح وغفلة عن الهدف الحقيقي وكما نعلم فان الهدف هو الذي يرسم الطريق ويحدد معالمه).
وبعد هذا النقد لما فعلته الحوزة تجاه طلابها في ظل نظامها الحالي علينا أن نعرف ما هي الأمور الأساسية التي على الحوزة أن تهتم بها تجاه أفرادها فيقول المرجع (حفظه الله تعالى) إنها ثلاثة: “الاتجاه العلمي والاتجاه الأخلاقي والاتجاه الاجتماعي والحركي”، والأول والثاني واضحان ونكتفي لإيضاح الثالث بما قاله سماحته: “الاتجاه الاجتماعي والحركي: فلا بد من خلق الوعي لدى الحوزة بمشاكل المجتمع والمؤامرات والدسائس التي تعصف به والفتن المحدقة به تحت شتى العناوين وأسلوب مواجهتها وتحصين الأمة من الوقوع فيها وتنبيهه إلى أعدائه الحقيقيين والتحرك نحو المجتمع لا الانعزال عنه وإرشاده وتوجيهه باستغلال كل القنوات المتاحة لذلك كالكتب والمنبر الحسيني والخطب والمحاضرات والندوات واللقاءات”.
وإما الإجابة عن السؤال الذي طرحه المرجع بأنه كم من الصفات التي اهتمت الحوزة بتربيتها فيجيب عنها: (واستطيع القول بأسف ان النقص والتقصير حاصلان في جميع هذه الاتجاهات: أما الثاني والثالث فالاهتمام به معدوم بالمرّة وأما الأول فلا نبخس علماءنا حقهم إذ نقول أن الرقي والازدهار العلمي تواصل على أيدي المحققين بما يرفع رؤوسهم ويجعلهم في القمة لكن ذلك لا يعني عدم وجود ثغرات ونقائص تحتاج إلى إصلاح …)، وهذه الجوانب أو الاتجاهات الثلاثة ليست كل ما هو مطلوب وإنما هي الرئيسيات منها، وقد أشار سماحته إلى ذلك بقوله: (وليست الحاجة إلى التطوير والإصلاح مقتصرة على هذه الجوانب بل لها موارد أخرى). بعد هذه الإشارات التي اسماها سماحته بهذا الاسم وهي إشارة كما قال إلا أنها لا تستوعب كل عملية التغيير والاصطلاح وتبقى مجملة ما لم توضع الاقتراحات والحلول لمفاصل هذه المؤسسة ومن عدة جهات هي:
أولا: مناهج الدراسة وأعطى عليه ملاحظات:
1 ــ قدم المناهج الدراسية.
2 ــ عدم استساغة الصياغة وأسلوب العرض.
3 ــ ان مطالبها غير مرتبة ترتيبا فنيا دقيقا.
4 ــ انها غير متدرجة في مستوى عرض المعلومات بحسب مراحل الدراسة.
5 ــ دخول مطالب علمية زائدة على أصل العلم.
6 ــ إهمال الدروس الأساسية في تكوين شخصية العالم الديني العلمية والاجتماعية.
وقد أفاض سماحته في كل نقطة من هذه النقاط وبين السلبيات والايجابيات وطرق العلاج.
ثانيا: الجانب الأخلاقي:
وبالنسبة إليه فقد أهمل تماما على مستوى الدراسات الحوزوية اللهم إلا الجهود الفردية للطالب نفسه، ورغم أهميته وكونه مقوما ذاتيا لكل طالب فقد اعرض عنه إلا ما ندر هنا وهناك لبعض العلماء الذين استثمروا أيام توقف الدراسة أو بدايتها أو مناسبات معينة فيعطي فيها بعض هذه الدروس وأوضح الأمثلة القريبة على ذلك ما قام به الشهيد محمد باقر الصدر والشهيد محمد محمد صادق الصدر (رحمهما الله تعالى)، وما قام ويقوم به الشيخ المرجع (حفظه الله تعالى)، إلا أن هذه لا تقاس مع ما هو مطلوب ولا مع ما يعطى من كم هائل من الدروس العلمية، فيقول سماحته: (وهو جانب مهم أوْلته الشريعة كل اهتمام، بل جاء في الحديث: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وقد سمي العمل على تطهير النفس من أدرانها وتهذيبها وتحليتها بالفضائل بـ(الجهاد الأكبر) في النصوص الشريفة) حتى أن سماحته يقدمه على العلوم الأخرى ويعتبره واجبا يأثم تاركه بخلاف الجوانب الأخرى فيقول سماحته: (وهو واجب عيني ان كان طلب العلوم الأخرى بما فيها الفقه كفائيا)، ويشير سماحته إلى ان أي شخص عليه أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة كي ينعكس ذلك على قوله وفعله لان دين الإسلام هو دين الأخلاق الفاضلة وكلما ازدادت مسؤولية الفرد ازداد أهمية اتصافه بها، فكأن العلاقة طردية تتناسب مع الموقع والمسؤولية الملقاة عليه وتشتد أكثر فيما إذا كان موقع الشخص في أعلى المراتب العلمية في الحوزة، لذا يقول سماحته: (وينبغي الالتفات إلى ان الشخص كلما تعاظمت مسؤوليته وجب ان تكون درجة تكامله بمقدارها)، وطبعا المرجع وقبله أستاذه السيد الصدر شعروا بأهمية هذا الأمر لذا حاولوا بذل الجهد لتغطية بعض جوانب هذا النقص من خلال الإشارة إلى الكتب المهمة في هذا الجانب والحث عليها وقراءتها والتدبر في سيرة النبي واله (عليهم جميعا سلام الله) وكذلك الكتب التي ألفوها في هذا المجال ككتاب فقه الأخلاق للشهيد الصدر وقناديل العارفين للشيخ المرجع والمحاضرات المتفرقة المسموعة والمقروءة. . . يتبع في المحلقة القادمة.