لا أعرف من أين جاءت هذه التسمية للسوق الذي كان قلب مدينة سامراء النابض على مدى قرون , وربما يكون من الأسواق التي خطها المعتصم عند شروعه ببناء مدينته التي أرادها أن تسر الناظرين , إذ تشير كتب التأريخ أن المعتصم قد أشرف بنفسه على تخطيط المدينة وجعل لكل حرفة سوق.
وقد أمضيت بعضا من طفولتي في هذا السوق , فكان ساحة لعبي ومسرح نشاطاتي وميدان تفاعلاتي مع الحياة, وكنت أسعى فيه على دراجتي الحمراء ذات الثلاث عجلات , وأردف شقيقتي في المقعد الخلفي في أكثر الأحيان.
وقد إختزنت ذاكرتي نبضات الحياة اليومية في السوق المزدحم بالناس والعاج بالحركة والنشاطات الإنسانية المؤثرة. فهو نهر صاخب بأمواج البشر القادمين من كل مكان, كأهالي سامراء وسكان ضواحيها والبدو والسياح والزائرين من مختلف الجنسيات والدول.
وكان السوق مركز المدينة وقلبها الإقتصادي الفعال, حيث الدكاكين المتلاصقة تتراصف على جوانبه والبيع والشراء في ذروته.
وكم زرت السوق وتجولت فيه والتقيت مع بعض الأخوة الذين يوقظون ذكرياتي ويحدثوني عن طفولتي في السوق , وتأملت بيتنا وبيوت الآخرين , والحاج مهنا والوقفة وتجولت أتفحص الدكاكين وأقارن بين أيام كانت تبعث البهجة والحياة وبين ما هي عليه اليوم.
فكلما زرته تتوافد صور تلك الأيام فأشعر بأني أشم رائحة أهلها وأستحضر وجوههم وكلماتهم وضحكاتهم ورعايتهم لي وعنايتهم , فقد كنت ولدهم المدلل جميعا وبلا إستثناء , وكم سمعتهم يقولون لي ” إبني تعال شيخلصنا من حامد إذا صار عليك شي” , لكني كنت أأنس بهم وأحبهم ويأنسون بي ولا يتخيلون بأني غير موجود معهم , فقد أصبحت جزءا منهم وهم جزء مني , وكم كرهت الليل لأنه يمنعني من التمتع بالوجود بينهم.
وكانوا يقدمون الرعاية والتوجيه لي ويحسبونني إبنهم , فحفظوا إسمي وحفظت أسماءهم وتولعت بهم وتولعوا بي. وتعلمت في السوق الكثير من الدروس , فقد كان مدرسة وجدت نفسي فيها وأنا في ريعان طفولتي , مما أثرت على تفكيري وأغنت خيالي وفتحت مداركي وتصوراتي , وزودتني بصور وحالات إنسانية ذات قيمة في صياغة إتجاهاتي وأساليبي في الكتابة والشعر والإبداع. ولا أظن جميع مَن في السوق قد غابت عنهم صور طفولتي بينهم , حتى بعد أن أصبحت طبيبا , كانوا يرونني ذلك الطفل الذي كان يذكّرهم بصدق الحياة وجريان مياهها رغم العقبات والسدود , فكانوا يبتسمون ويحيونني بوابل من الذكريات الجميلة.
وكلما عدت إلى السوق أجده مدرستي وجامعتي الحقيقية , فلا يمكن لأية مؤسسة تعليمية أن تزودني بدروس حية يومية ومتجددة حفزت خلايا دماغي بأكملها , لأن ضخ المعلومات والصور والحالات في دماغي كان متدفقا وسريعا وثريا.
وقد إرتبطت بالسوق روحيا ونفسيا وفكريا , فقد أمضيت أروع ثلاثة سنوات من باكورة عمري فيه.
وكلما نويت الكتابة عن السوق تنثال الذكريات وتعيق قدرات تنظيمي للأفكار وصياغة الحالات اللازمة للخروج بإنتاج جيد. وفي هذه المرة قررت أن أكون جديا وحاسما , وبرغم أني بعيد عنه فإنه حضر بذكرياته المتدفقة.
السوق في ذاكرتي
عبارة عن شارع ضيق طويل يمتد من الشمال (باب السور) إلى الجنوب (ينتهي بشارع الإمام ) ويقطعه شارع آخر من الشرق يمتد إلى (شارع الشواف) وعند نهايته يسكن إبن خال والدي فليح حسن العباس , وإلى الغرب (الوقفة ومحطة البنزين العائدة لمحمد الساجي , وكان فيها السيد محمد العياش صديق الوالد, وكنا نجلس على التخت معه مساءا عندما يجالسه أبي) , وقرب نهايته بيت خالة أبي فضيلة العباس ومن أولادها حميد. وهناك شارع آخر بين هذا التقاطع والسور ينتهي بشارع الشواف وفي هذا الشارع مسكن خال والدي شامل العباس , الذي كنا نزوره كل جمعة , وفي نهايته محل السيد حميد العزت إبن خال والدي.
وكان بيتنا إلى الشرق من (حجي مهنا) مقابل علوة ومسكن الصهرين أحمد وزهدي (دهدي) الدوري , وإلى جوارهما القصاب (علي الداوود).
وبيتنا يحتل جزءا كبيرا من السوق ما بين الشارع الممتد من الشرق إلى الغرب وحتى ( دربونة النجاجير أو البودراج) , وهو عبارة عن بيتين سكنّا في إحداهما والآخر سكنته عمتي قبيلة وإبنتها الوحيدة وزوجها , وكانت حاجة ورعة تسكن أيضا إسمها الحاجة مريم , وهي قصيرة القامة متوسطة البدانة مبتسمة الوجه.
وكان الحَمام (الحقي) الحني اللون والأبيض الرقبة يزدحم على (التيغة) ما بين البيتين.
ومن باب بيتنا وحتى دربونة النجاجير تتراصف الدكاكين المتدفقة بالحركة والحياة.
وجارنا الغربي (ملا محمد) الذي كان الحائط ما بيننا , قد أصابته (النزيزة) التي تعني هناك سوء في تصريف المياه مما يدفع إلى الرطوبة , وفي سامراء نقول ( الحائط طاعن أو يطعن). وكان ذلك الحائط سببا في إنتقالنا من البيت وفعلا سقط مع الأيام وتهدّم.
باب السور
كان لايزال يحوي معالم بناء وأقواس من سامراء القديمة بعد أن هدموا سورها , وهو عبارة عن ساحة ذات حركة إقتصادية واضحة , وفيها العديد من الجمال والحيوانات الأخرى التي تقل أبناء البادية إلى المدينة , وكأنه محط رحال البدو خصوصا الذين يتبضعون من السوق , كما أن الساحة المحيطة بحجي مهنا كانت أيضا مربضا للجمال , وكنت أرقب البدو وكيف ينيخون الجمال ويعقرونها ويتعاملون معها, ويربطون الأحمال على ظهورها.
وكانت والدتي تقول لي ” إذا تذهب إلى باب السور سيسرقونك البدو”
البزارة
عند مدخل السوق (جهة باب السور) وعلى الجهة الشرقية كانت بزارة حجي سالم , وهو رجل متوسط القامة ذو لحية بيصاء , وكنت أذهب مع أبي الذي يتحدث مع جميع مَن في السوق , وعندما نصل البزارة أو الدباسة , يأخذنا الحاج سالم إلى الداخل , فأنظر كيف تتم صناعة الدبس , وأرى الأحواض وأشم البخار المتصاعد , فيعطي أبي وعاءا مغلقا من الفافون وضع فيه دبس وهو يقول ” دبس جديد لا زال حار لم يبرد بعد”. وكان الدبس لذيذا بحق , وما أطيبه عندما يكون على رغيف الخبز الحار , أو ممزوجا بالدهن الحر.
بيوت أذكرها
بيت الأميل , بيت طايس , بيت العبدي , بيت الهندريز, وبيت الأستاذ حسن عبود الذي درسني في الإبتدائية وهو قريب من باب السور, بيت مجيد الأعرج , بيت عباس الإحمود , بيت فضيلة العباس , بيت مهدي الصباغ , بيت شامل العباس وفليح حسن العباس , وبيوت الخطيب , وبيت عبد الرزاق – اللطيف البدري مدير مدرسة سامراء الأولى وكان صديق والدي , وأذكر أن بيته كان من أحدث البيوت وذو سياج وحديقة صغيرة .
وهناك بيتان يؤدي إليهما مدخلان طويلان , أذكرهما لأنهما في الليل عندما نمر من أمامهما أشعر بالخوف , لأن الممرين مظلمان , وعرفت فيما بعد أن أحدهما كان بيت عائلة الدكتور كمال السامرائي ,الذي إلتقيته في أواخر عمره , عندما كانت مستشفاه في مرحلة البناء , وكنت مقيما في مستشفى إبن رشد في ساحة الأندلس ببغداد, وكان يأتي إلى المستشفى ويجلس في المكتبة ويرقب مستشفاه من النافذة , وكان يحلم أن يعيش حتى يراها قد إكتملت. وكنت أستمتع بأحاديثه فهو موسوعة ثقافية لا تقدر بثمن.
وصف البيت
بيتنا واسع يتألف من طابقين ومبني بالطابوق الفرشي والغرف (معقودة) ومبنية على الطراز العباسي القديم حيث الزخارف والأقواس والرفوف والأواوين والروازين والشبابيك الجميلة والأبواب الخشبية المزركشة المنحوتة والأطواق وفيها (رزة) وهي قطعة من الحديد المتصل بسلسلة وتكون ذات مسحة فنية جميلة.
وباب البيت من الخشب الصاج المرصع بالحديد , وهو مقوس حيث ومطوق مثل الأبواب العباسية القديمة ويننهي عند السوق بعتبة , وفي الداخل بالمجاز وعلى الجانب الأيمن من المجاز هناك بئر ماء مطمور بالحجر , وكان في السابق هو مصدر الماء , وبيوت سامراء القديمة فيها آبار , وإلى اليسار غرفة صغيرة جميلة الطراز ذات رفوف وأواوين وملبوخة بالجص.
وينتهي المجاز بباحة الدار حيث حوض الماء الذي يحيط الحنفية أو (المزملة) وعلى الجانب الأيمن الدرج (السلّم) الذي يأخذنا إلى السطح الشمالي وتحته الكنج, وعلى يمينه غرف صغيرة مخزن ومطبخ ومن ثم الحمام والمرحاض وهي تمثل الجهة الجنوبية من باحة البيت. وعلى اليسار عدد من الأواوين العباسية ودرج مسقوف بأقواس يأخذنا للطابق الثاني حيث توجد غرفتان للنوم وهما من أجمل الغرف بهندستها الداخلية , وفنها المعماري الأصيل المطعّم بالزخارف والفسيفساء. وهناك طرمة أمام الغرفتين وأعمدة (دلك)من الخشب المزخرف والمنحوت تنتهي من الأعلى بأقواس رائعة الجمال , ومن الأسفل بقواعد أجمل تتواصل مع التيغة ذات الزخارف الجصية الأخاذة.
وفي باحة البيت من الجهة الشمالية هناك طرمة واسعة تنتهي بغرفة كبيرة وإلى جانبها مكان جلوس صيفي محاط بحيطان مزخرفة , وإلى الشرق من الطرمة هناك غرفة أخرى وأخرى وممر مقوس ومدخل السرداب الذي تفنن البنّاء (الأسطه) في صياغته , ليكون رائعا وفيه ثلاثة فوهات لجلب الهواء العليل كل واحدة تسمى (البادكير) , وهي ممرات للهواء من أعلى الدار إلى قاع السرداب. وكانت باحة البيت من الطابوق الفرشي المربع الشكل.
باب البيت
عند عتبة البيت ومن الجهة الشرقية , كل صباح كان (حجي شكوري) يضع كرسيه ويجلس عليه معظم النهار وكأنه لا يأكل ولا يشرب ولا يقضي حاجة , وكنت مولعا بالحاج شكوري. فهو رجل كبير ملتحي يضع (كشيدة) خضراء على رأسه حول (عرقجين أحمر) كالذي يلبسه المغاربة والتونسيون, ويرصعه بالدبابيس ذات الرؤوس الملونة وبأشكال جميلة.
وقد تولعت بلعبة أخذ الدبابيس من كشيدة حجي شكوري , فهو بطيئ الحركة ويمسك بعكازه وبمسبحته الطويلة , وأنا من خلفه وجانبه أتحايل عليه وأنزع الدبابيس من كشيدته , وهو ينهرني قائلا ( أكعد لا تفل الكشيدة) , وكم فللت كشيدته فتسقط على كتفيه والأخرون يتندرون ( هاي شنو حجي شكوري وين الكشيدة) , فيجيبهم ( شسويلة لإبن حامد يتسلة بكشيدتي).
وكان الحاج شكوري جزءا مهما من أيامي في السوق, وكنت متحيرا كيف يبقى جالسا طول الوقت كالتمثال.
ومقابل الباب علوة الدوريين أحمد وزهدي وبجانبه القصاب علي الداوود الذي أذهب إليه عند الصباح لإستلام اللحم أوقية (سوبية) , وهي جزء قريب من الرقبة والكتف, وكنت أرقبه كيف يقطع اللحم على عمود قصير من جذع الشجر يصل طوله إلى الحزام ويستخدم الساطور ويضرب بقوة. وكان الرجل بدينا ويضع جراوية على رأسه وكان أولاده يساعدونه أيضا , وبعد أن يقطع اللحم ويزنه بميزانه الشاقولي ذو الجفنتين , وهو معلق في سقف الدكان ويتميز بثلاثة أشرطة من الجلد تمسك بكل جفنة.
وكان الرجل يترك العظام وغيرها أمام الدكان حيث تتصارع عليها ليلا الكلاب السائبة والقطط , وعندما يأتي في الصباح تكون قد خلت (تنكة) فضلات القِصابة.
وبجوار البيت على يمين الباب حيث يجلس الحاج شكوري تبدأ المحلات بمحل صغير لصناعة الفراوي , وكان فيه إبراهيم أبو الفراوي , وهو آنذاك شاب مفتول العضلات , وكنت أجالسه وأرقب كيف يصنع الفروة من جلد الغنم وخصوصا جلد الخروف , وكانت أدواته بسيطة لكن إنتاجه متقن ومرغوب , خصوصا من أبناء الريف. وكنت متحيرا ومفتونا ببراعته , حيث يقص الجلد بمقصه الكبير ويبدا بخياطته قطعة مع قطعة بيده حتى ينتهي بصناعة فروة ذات جاذبية وإتقان.
وكنت ألتقي به بعد أن أصبحت طبيبا , وكان يذكّرني بطفولتي وأذكّره بأنه وعدني بفروة لكنه صنع لي شيئا صغيرا يشبه القميص , وبلا أردان لا أذكر إسمه لكن ربما يسمونه باللهجة السامرائية (يلك). كان الرجل طيبا دمث الخلق تعلمت منه الصبر والقدرة على صناعة الأشياء , لأنه يحيل الجلود المنضودة في الدكان إلى بدلة جميلة تسر الناظرين , فما أن ينتهي من فروة حتى يتم شراؤها بسرعة.
وإلى جانبه محلات أخرى أذكر منها محلات الحدادة حيث النار الملتهبة والمطرقة النشطة , وعندما نستمر في الجهة الجنوبية وحتى دربونة النجاجير , هناك محلات لبيع الخضراوات والحاجات المنزلية من الطعام كالرز والسكر وغيرها من الأطعمة المجففة. ومحلات أخرى أذكر منها محل الحاج حسن العباس ويبيع الفواكه وبالأخص التفاح اللبناني وبعض الحاجات الأخرى , وجاسم الدلوش الذي يبيع الشكولاتة
( جوكليت وملبس وحامض حلو وأصابع العروس وأبو الهيل والحلقوم وأنواع أخرى من الشكولاتة). ومحلات لبيع الأقمشة والأعشاب الطبية والحاجيات المنزلية.
وكذلك محل الحاج زيدان وهو قريبنا من جهة والدتي , وكان الرجل قصيرا كثيف اللحية ثاقب البصر , وكان يتعامل معي كأنني من أولاده , فيعطيني بعض الحلوى خصوصا الجوكليت التوفي الذي كنت أحبه. وقد إنتقل محله بعد ذلك إلى سوق مريم وإستمر حتى أخر العمر , وقد حزن كثيرا على ولده عباس الذي قتل في شمال البلاد , وكنت أراه والهموم تسحقه بشراسة وقسوة , وأحيانا أجد في محله بين فترة وأخرى أخوالي علي وصالح الخلف.
وكان السوق مسقوفا في ذلك الوقت وسقفه جميل لكنه تداعى مع الأيام ولضعف الإدامة , وإنتقال السوق إلى سوق مريم والسوق الكبير حول الصحن. وكان السقف يمتد من منتصفه الشمالي وحتى بداية جزئه الجنوبي وكذلك في الفروع الأخرى التي ذكرناها لمسافة محددة.
محل الحاج عواد
كان الرجل يبيع الحاجيات المختلفة وكذلك الحلوى , وكان دكانه مزدحما بالزبائن وأولاده يعاونونه , وبقي عواد في السوق طويلا بعد أن ضعف دور السوق وأظنه بقي في محله حتى نهاية العمر.
المقهى
كانت في السوق مقهى في الركن الذي يصل بين الجزء الجنوبي والشرقي من الشارع مقابل ركن بيتنا , وكانت ذات حياة صاخبة , حيث نستمع إلى أغاني أم كلثوم في المساء , وأحيانا يقرأ طالب السامرائي المقامات فيها, وقد إستمرت المقهى حتى منتصف الستينيات.
علوة الدوريين
وهما الحاج أحمد وزهدي الدوري , وكان السيد أحمد قصير القامة والسيد زهدي طويلها , وكان بيتهم مجاور للعلوة ومقابل بيتنا , وكانت العائلتان تسكنان في البيت ذي الطابقين , وكانوا أناسا طيبين يحفظون حقوق الجيرة , وما رأينا منهم إلا المحبة الطيبة والتقدير. وكان البيع والشراء في العلوة متواصلا طول النهار.
علوة طعمة وحميد
الأخوان طعمة وحميد يديران علوة في السوق وبقيا على وفائهما للسوق حتى نهاية العمر.
علوة عباس الإحمود
كانت العلوة في نهاية الشارع تقريبا قرب (الوقفة)
القصاب عبداللة
رجل ضعيف البنية أشيب , لكنه نشيط وكان يذبح الشاة أمام المحل في بعض الأحيان وكنا نرقبه , وكان محله في القسم الذي ينتهي إلى شارع الإمام في الجهة المقابلة لبيتنا قريبا من محلات النجاجير. وكنت أشتري اللحم منه أحيانا , وفي الفترة الأخيرة صرت أأخذ اللحم منه يوميا مما أغضب القصاب علي الداوود.
القصاب علي الداوود
رجل بدين قليلا ومفتول العضلات , ومحله مقابل باب بيتنا تقريبا , وكان يعمل يوميا من الصباح حتى الظهيرة. وكان يترك الفضلات أمام الدكان حيث تتجمع القطط والكلاب في الليل وتحصل الصراعات بينها على الطعام , وكنت أرقب القطط المجتمعة حولها عند لمساء , فقد كانت الغرفة التي ننام فيها ذات شبابيك تطل على السوق. وإنتقل الإثنان (علي وعبدالله) إلى سوق مريم وواصلت الشراء منهما.
قادر الشعيب
هذا الرجل محله في السوق في الجزء الشمالي على الجهة اليسرى وأنت تذهب نحو السور , وكان الدكان عميقا , أي دون مستوى السوق يكثير واظنه كان يتصل ببيته , لأن هناك بابا داخل الدكان يتصل بالبيت وربما يكون جزءا من السرداب.
وقد تعلقت به كثيرا , وكنت أتشاجر مع والدتي إن لم أذهب إليه عند الصباح لجلب الحليب منه , وكنا نشتري منه بُطلين يوميا. وكنت أذهب إليه بدراجتي فيضع البطلين في مقعدي الخلفي وكان البطل (قنينة) مسدودا بتمرة. وكنت أعطيه عشرة فلوس أو عشرين فلسا عن كل بطل. وكان يبيع الحلويات والنعناع وبضاعته لذيذة وطيبة , ودائما يعطيني شيئا من النعناع اللذيذ الذي أدمنت عليه , والحساب على الوالد.
وقصتي مع السيد قادر الشعيب , أن لديه بنات صغيرات يجلسن معه في الدكان (حفيداته) , وقد تعلقت بهن كثيرا وأحببت التقرب إليهن واللعب معهن , حتى ذكرت والدتي ذلك لوالدي , فأخذني إليه مازحا وهو يقول
( أريد أخطب أحد البنات ) فضحك الرجل وقال وماذا تقصد ( قال وهو يشير إليّ , هذا الولد مغرم ببناتك ويريدهن جميعا , فضحك رحمه الله وقال يتدلل) , ومضى والدي والسيد قادر الشعيب يمزحون معي , ومضى الرجل يمزح معي حول الموضوع طويلا بعد ذلك, وكلما ذهبت إليه في الصباح يضحك وصار يناديني (نسيبي تعال). كان أبا حنونا طيبا هادئا أزوره كثيرا ليس من أجل الحليب والنعناع , ولكنه صار يعرف لماذا.
حجي مهنا
عبارة عن بناء مستطيل لا يتسع لوقوف شخص فيه وهو كالصندوق فيه رفوف على الجوانب للشموع , ويرتفع قليلا على تلة في السوق من جهة الوقفة أو ما يسمى بداية محلة البوجول. وتوقد الناس الشموع فيه خصوصا ليلة الجمعة , وكم أوقدت شموعا فيه كل مساء خميس , وكان ضوء الشموع جميلا عندما تومض في المساء, وكنت أجلس فيه أحيانا خصوصا عندما يزورنا أولاد خالتي.
مهدي الصباغ
يسكن إلى الجهة الغربية من بيتنا تقريبا مقابل حجي مهنا , وكان ينشر الغزل أمام البيت بعد أن يخرجها من المصبغة التي هي في مجازالبيت. وكان الرجل مصبوغ الكفين دائما , وكذلك إبنه صباح الذي كنت أراه كلما زرت السوق فيحدثني عن أيام زمان وأسال عن حاجاته.
الحاج محمد عرب
رجل متقدم في العمر لكنه صحيح الجسم ثاقب البصر وحكيم النظر وطيب النفس , ويعمل يوميا بآلاته التي كانت تلهب خيالي , فهو يجلس على الأرض ويصنع أشياء من الخشب ويبيعها للناس. وكانت أدواته وآلاته قديمة لكنه يستعملها بمهارة نادرة , وما ينتجه يدوي متميز وفيه جهد فني وخبرة لا تضاهى. ولو كان في دولة متقدمة لكانت منتوجاته ذات قيمة كبيرة , لكنه كان يبيعها بأسعار معقولة للمحتاجين لها. وما يصنعه يتعلق بالزراعة وما يحتاجه الفلاح والبدوي وأهل الريف في ذلك الوقت. ومضيت أشاهده وأُسلم عليه حتى بعد أن أصبحت طبيبا.
سوق الذهب
السوق يبدأ بعد دربونة النجاجير , وأذكر من صاغته السيد جاسم العجوان بنظارته السميكة , وكان صديق والدي ويجلس عنه ويشتري منه , ويثق به تماما . وكذلك محلات الحاج غضبان وآخرين من حولهما , ولم تكن محلات الذهب تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة , لكنها تكاثرت خصوصا بعد أن مارس حرفة الصياغة أبناء الحاج غضبان , الذين أصبحوا يمثلون فن الصياغة السامرائية. ولا يُعرف الكثير عن تأريخ هذه الحرفة ومن أين تعلمها السامرائيون. وهل أنها من بقايا الحرف التي حضرت إلى سامراء أيام كانت عاصمة الدولة العباسية.
الخاتمة
سوق المعتصم هو السوق الذي توارى عن ذاكرة الأجيال المعاصرة , التي لا تعرف عنه شيئا , لأننا لم نكتب رواية أو قصة أو أي إبداع أدبي يخلد تلك اللحظات السامرائية الطافحة بالحيوية والتفاعل الإنساني الأصيل , وكانت تعكس معدن البشر بهمومه وصراعاته وتحدياته من أجل البقاء والرقاء والإنتصار على الشقاء.
ولازلت أشعر بأننا لم نوفي السوق حقه من التوثيق والإدامة والكتابة.
ولا أدري إن بقي احدٌ من الذين كانوا يعملون في السوق لكي يحدثوننا عن أيامه , فما ذكرته قد إختزنته ذاكرة طفل أمضى ردحا من طفولته في السوق.
وقد دفعني لتسجيل ما أذكره عن السوق , أنني كلما شاهدت أسواق الدنيا القديمة , وكيف قد حافظوا عليها وأداموها , أشعر بالألم والخسران , لأننا ما حافظنا على سوق جميل قديم يحمل لمسات العمارة العباسية بفنونها الأصيلة.
وأرجو أن نتمكن من الحفاظ على ما يشير إلى ذلك السوق ويدل عليه , قبل أن ينمحق تماما.