في مشهدٍ مسرحي عراقي قديم، يتذكره الكثير منا، قام بأداءه الفنان العراقي القدير محمد حسين عبد الرحيم، في مسرحية (الخيط والعصفور)، حيث ذهب لزيارة اخته وأولادها، ولم يجلب معه أي شيء يذكر لهم من حلويات او فواكه او خضار او أي (صوغة) كما هي عادة العائلة العراقية حين تقدم على زيارة أحد، فأخذ الاخ يذكر لأخته ما شاهده في الطريق او في السوق، من فواكه ولحوم وأسماك وخضار، وأنه أراد ان يجلب لها ولأولادها من خيرات الله الواسعة، ولكن كلما يذكر لها حاجة او مادة تقول أخته مجاملة له : (لا خويه انت منيلك ) ويرد عليها بعصبية قائلاً: ( خل ياكلون ما دام خالهم طيب )، وفي النهاية لم يجلب الاخ لأخته شيء يذكر من كل تلك الخيرات، وكان مجرد كلام معسول أشبع به سمع أخته، والذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع.
هذا هو حالنا اليوم في العراق، يخرج علينا المسؤول، من اعلى درجة في الحكومة الى ادناها، يسطر علينا قائمة المشاريع والانجازات، والحزم والاصلاحات، والخطابات والبيانات، ولافلام والبطولات، التي ما أنزل الله بها من سلطان، (…سنقوم بكذا ..ونعمل كذا.. وأنجزنا كذا.. ونسبة الانجاز كذا..وتم القضاء على كذا..وفي قبضة العدالة كذا..) ولكنه مجرد كلام فارغ لا صحة له ولا مصداقية، فالمسؤول اليوم ( من وزير او مدير او سياسي او اداري ) أكثر خلق الله كذباً ونفاقاً على وجه الارض، فهو لا ينجز للوطن والمواطن شيئاً يذكر، وان عمل فلمصلحته الشخصية فقط، اما المصلحة العامة فهي في خبر كان، فقد عمل المسؤول اليوم على فلسفة جديدة، تقوم على ان المصلحة العامة انما هي تحقيق مصلحته الشخصية، فما دام هو يتنعم بالخيرات والفائدة وشهوات الدنيا وزينتها، فالشعب سُيسر ويفرح ويشبع من ذاته، لأن حضرة المسؤول انتفع اولاً وأنتشى وسعد في حياته، وغاية الشعب هي سعادة السيد المسؤول وتحقيق رفاهيته وشبعه، فهو فوق الجميع، والشعب في خدمة المسؤول ما دام المسؤول في عون نفسه.
لا ادري كيف تسير الامور في العراق اليوم، ليتني استطيع استكشاف الامر والمستقبل عند (فتاح فال) او (قارئة فنجان) او (استخارة في قرآن)، ليت هناك حكيم يخرج علينا بحكمته ينبأنا هل نستعد لبناء سفينة تحمل الشعب العراقي من جراء الطوفان القادم، من القلب الاسود في المنطقة الخضراء او من سد الموصل الذي أكل ركائزه الساسة واصحاب الكتل والاحزاب
المفترسة، وهل سيسعفنا سور بغداد لحمايتنا من ذلك الطوفان، والخطر القادم وسيول الجرذان، لنصعد الى اعلى قمة فيه ليعصمنا من الماء المختلط بالزيت الاسود، لتتمكن وزارة ورجال الموارد المائية والكادر الهندسي فيما بعد لأزالة تلك البقعة الزيتية من قلب بغداد، او تعمل امانة بغداد ورجالاتها على سحب الفيضان والبرك الراكدة من قلوب السياسيين والمسؤولين لتلقي بها في مياه الصرف الصحي، ام ان (صخرة عبعوب) ستكون عائقاً امام تنفيذ تلك المهام العملاقة التي ينتظر الشعب تحقيقها من قبل أبطال العراق ورجاله الشجعان.
أنه لأمر مرعب ومهول حجم الفساد الموجود في العراق، والذي تقوده مافيات الحركات السياسية والحكومية، من وزراء وسياسيين ونواب ومسؤولين وقادة وعسكريين، ان سور بغداد الجديد الذي تنوي الحكومة اقامته حول بغداد، قد أقيم فعلاً منذ سنوات مضت، وتستحق الحكومة الشكر والتقدير والتصفيق عليه، أنه سور الفساد الذي علا بغداد، وأحاطها من كل مكان، أنه ليس سوراً واحداً، وانما سور على سور، ونحن حبيسون ذلك السور، وسنقضي بقية حياتنا داخله، ولا مخرج منه ابداً.
أنه لأمر معيب وغريب جداً ان يخرج علينا المسؤول اليوم ليعلن لنا انه بصدد اقامة سيطرات محاطة بكامرات، او سور يحمي بغداد من الارهاب والمجرمين والفاسدين، ها هي مداخل بغداد مكشوفة ومعرضة لدخول من هب ودب منذ سنين مضت، فلماذا تثقلون اسماعنا وتصدعون رؤوسنا اليوم بكلام لستم انتم بقادرين عليه، ولستم أهله، ها هو الفساد قابع في قلب بغداد فلماذا لا تشهرون سيوفكم واسلحتكم وفلسفاتكم وحزمكم وأصلاحاتكم عليه، لماذا تريدون حماية بغداد من خارجها، وداخلها يظج بالفاسدين والخارجين على القانون؟ انتم تخربون وتنهبون وتفسدون، فمن اين لكم البناء والاعمار والتحصين، نحن على يقين من انكم تفسدون من حيث تريدون الاصلاح، وتخربون من حيث تريدون الاعمار، وتهدمون من حيث تريدون البناء، وتسرقون من حيث تريدون الخدمات، لديكم حسٍ عالٍ لا مثيل له بالخراب، وفلسفة اقوى من كل الفلسفات بالفساد، وتقدمون على قتلنا يومياً آلاف المرات، وتضعون لنا السم في العسل، ولكن هيهات هيهات ان يغفل الشعب عن كل ما فعلتموه به، من حروب وعنف وفساد، وسرقة للحقوق والثروات، واضطراب في الامن وخلق الازمات، وتغذية الخلافات وصراع الهويات، ولقد ادرك الشعب العراقي حقيقة مآربكم السياسية ومخططاتكم الخبيثة التي دمرت بلدنا وأحالته الى جحيم لا يطاق، في ظل سياساتكم الهوجاء، التي جعلت العراق يحتل المرتبة الاولى في الفساد والارهاب والفقر والتهجير والاجرام، وحري بنا ان ندخل موسوعة غينس للارقام الخيالية، في ادارة المشاريع الوهمية، واقامة الخطط الفضائية، والرطانة الاقتصادية، التي جعلتنا في مصاف الدول المتقدمة من حيث الفساد، وابادة العباد، وتدمير البلاد.