ليس بإمكان أحد أن يعرف بدقة حجم التغيير الديموغرافي الذي حدث في سورية، وما زال، خلال سنوات الأزمة – الحرب. لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة دانت، في تقريرها مطلع الشهر الجاري، تهجير مدنيين ومقاتلين من شرق حلب عقب الحسم العسكري فيها، ووصفته بجريمة حرب.
لكن هذه ليست إلا واحدة من عمليات تهجير كثيرة أدت، وما زالت، إلى تغيير ديموغرافي واسع النطاق. جغرافية التغيير معروفة بدرجة أكبر من حجمه. فقد شمل مناطق خاضعة لسيطرة مختلف الأطراف، وفق ما رصده تقرير معمَّق صدر عن «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» في كانون الأول (ديسمبر) 2015، وما زال الأهم في هذا المجال. خلص التقرير إلى أن التحركات السكانية الواسعة النطاق ليست مجرد نتيجة ثانوية أو عابرة للحرب، بل يعود كثير منها إلى استراتيجيات تطهير عرقي واعية تنفذها الأطراف كافة.
ويعني ذلك أن التغيير الديموغرافي حدث في اتجاهات عدة منذ بداياته الأولى التي يُرجح أنها كانت في حمص أوائل 2012، وحتى عمليات التهجير والنزوح الأخيرة من شرق حلب، وبعض المناطق المحيطة بالعاصمة، ومدينة الباب ومحيطها، وريف حلب، والرقة. كما بدأت قبل أيام عملية تهجير قسري جديدة من حي الوعر في حمص.
وعندما تحدث التحركات السكانية، سواء كانت قسرية مفروضة بالقوة أو طوعية هرباً من الموت والدمار، في مختلف الاتجاهات، فهذا مؤشر على ضخامة حجمها. وحين يطول أمد الأزمة، ويتواصل تهجير السكان ونزوحهم من منطقة إلى أخرى على أساس الهوية، فهذا مؤشر ثانٍ على ضخامة حجم التغيير الديموغرافي الذي لن تتوفر وسائل قياسه بدقة إلا بعد انتهاء المعارك.
وربما تكون ضخامة هذا الحجم وراء حديث الرئيس فلاديمير بوتين للمرة الأولى، في آخر شباط (فبراير) الماضي، عن أخطار التغيير الديموغرافي. فقد قال، خلال لقاء مع ضباط الأسطول الشمالي الذين شاركوا في مهمات عسكرية في سورية: «نشعر بقلق شديد نتيجة الفصل الطائفي، وانتقال مجموعات من أماكن إلى أخرى على خلفية إثنية». وليس معتاداً أن يتحدث رئيس شعبوي يظن أنه «يُصلح الكون» عن أخطار مترتبة على عمل يشارك فيه بدور أساسي.
لذا ينبغي أن نتأمل جيداً مغزى حديثه الذي يدل على أن الشرق الأوسط يشهد الآن «جراحة» ديموغرافية جديدة تبدو الأكبر إلى أن تتيسر معرفة حجم التغيير السكاني الذي حدث، ويحدث، في العراق.
وعلى رغم أن حجم التغيير الديموغرافي في سورية لم يتضح في شكل كامل بعد، تفيد معطياته الراهنة بأنه يفوق ما حدث في فترة تأسيس إسرائيل. تحدث «الجراحة» الديموغرافية الراهنة في سورية بـ «مشارط» كثيرة، فيما أجرى «مشرط» واحد «جراحة» 1947-48 التي أدت إلى نزوح وتهجير نحو مليون فلسطيني من حوالى 530 مدينة وقرية.
فقد أصبح رقم المليون هذا متواضعاً بقياس ما يحدث في سورية، حتى من دون إضافة ملايين الذين نزحوا أو هُجروا إلى بلدان أخرى. فمثلاً، بلغ عدد النازحين والمهجَّرين إلى محافظة إدلب فقط حوالى سبعمئة ألف في الخريف الماضي، وفق تقدير مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة. وليست إدلب إلا واحدة من محافظات كثيرة حدث فيها تغيير ديموغرافي نزوحاً منها أو إليها، وما زال. استقبلت إدلب نازحين ومهجَّرين من مناطق سيطرة النظام بالأساس. أما النازحون والوافدون إلى هذه المناطق فهم أكثر لأن معظمها ظل الأوفر أمناً طوال سنوات الحرب. لكن بعضها شهد تغييراً ديموغرافياً ممنهجاً عبر تسويات قسرية تضمنت إخراج سكانها أو معظمهم، واستبدال آخرين بهم، ما جعلها طائفية خالصة. كما شمل التغيير في بعضها نزع هويتها السورية، على نحو ما رُصد في أحياء داخل العاصمة وبالقرب منها. أما مناطق سيطرة «حزب الاتحاد» الكردي وحلفائه فاستقبلت بدورها أعداداً من الكرد نزحوا إليها من مناطق أخرى، فيما نزح منها أعداد من العرب. كما نزحت من محافظتي الرقة ودير الزور، حيث سيطر تنظيم «داعش»، على أعداد كبيرة من الأقليات الدينية والسُنة غير المتدينين.
لكن ما يبعث على الألم والحسرة في المقارنة بين «الجراحتين» الفلسطينية والسورية أن الأولى كانت أقل قسوة على رغم ارتباطها باحتلال استيطاني استغل رفض العرب قرار الأمم المتحدة في شأن التقسيم، وسعى إلى الهيمنة على أكبر مساحة ممكنة في فلسطين، وبلغ ذروة توسعه خلال حرب 1948 وبُعيدها.
ومما يزيد الشعور بالألم أن أياً من أنصار الأطراف المتورطة في «الجراحة» الراهنة لم يتخذ موقفاً نقدياً تجاه جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية تُرتكب فيها، فيما يسجل التاريخ أن بعض اليهود في فلسطين استنكروا جرائم أقل قسوة خلال «جراحة» 1947-48. كما أن قسماً يُعتد به منهم دانوا بعض الجرائم التي ارتكبت إبان مذبحة دير ياسين.
وفضلاً عن تيار «المؤرخين الجدد» الذي أجرى مراجعة نقدية قوية للرواية الإسرائيلية السائدة، التزم بعض المسؤولين الصهاينة شيئاً من الموضوعية في كتاباتهم عن جرائم التهجير في فلسطين، مثل نائب رئيس بلدية القدس السابق ميرون بنفنستي في كتابه «التاريخ المطمور للأرض المقدسة منذ 1948» الصادرة ترجمته العبرية عن جامعة كولومبيا عام 2000. وهو لم يتردد مثلاً في وصف بعض عمليات التهجير الممنهجة بأنها تطهير عرقي.
فأين ذلك من مواقف أركان نظام بشار الأسد وقواته والميليشيات التي تدعمه، ومن قادة القوات الروسية ورئيسهم الذي يُحسب له أنه انتبه أخيراً إلى أخطار التغيير الديموغرافي، ولكن من دون امتلاك شجاعة الاعتراف بمسؤوليته عن بعض هذا التغيير الذي ترتب على قصف متوحش قامت به طائراته، وعن تسويات رتبها ضباطه، وما زالوا، في بعض المناطق وتضمنت نقل أعداد من سكانها إلى مناطق أخرى على أساس الهوية.
وهكذا بات ضرورياً البحث جدياً في التداعيات السياسية لهذه «الجراحة» الديموغرافية الكبيرة، وآثارها في مستقبل الشرق الأوسط، وأن نستعيد في الأثناء مقولة الزعيم الفرنسي شارل ديغول الأثيرة التي تفيد بأن «على من يديرون أزمات كبيرة، أو ينخرطون فيها، أن يضعوا أمامهم الخرائط ويدرسوا خطوطها وألوانها قبل أن يُحدّدوا اتجاهاتهم».
نقلا عن الحياة