من المهم التمييز بين الادعاءات والوقائع، وخاصة التمييز بين عوائد الإضرار بإسرائيل بدعوى المقاومة، والإضرار بالمجتمعات العربية أيضا بدعوى مقاومة إسرائيل، على نحو ما تبين في سياسات إيران وحزب الله في السنوات الماضية.
يبدو أن إسرائيل اعتادت أن تضرب في سوريا، سواء على الحدود التي تحرص على إبقائها بعيدة عن التأثّر بالصراع السوري وبالجماعات المتصارعة من كل الأطراف، أو داخل سوريا وفي محيط عاصمتها دمشق بالذات، مستهدفة في ذلك تواجد الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، بما في ذلك مستودعات وقوافل أسلحة خاصة بهما؛ كما حصل مؤخرا في الغارة الإسرائيلية الصاروخية على مواقع تتبع حزب الله قرب مطار دمشق الدولي.
في المقابل يصرّ النظام السوري على انتهاج سياسة “النأي بالنفس” إزاء هذه الاعتداءات، وكأنها تجري في بلد آخر، إذ لا تصدر عنه سوى بعض التصريحات والوعيد، بحيث أضحت عبارة “النظام يحتفظ بحق الرد في المكان والزمان المناسبين” مدعاة للتهكّم لكثرة ما أطلقها عقب كل اعتداء إسرائيلي على أراضيه، بما في ذلك على مواقع عسكرية من ضمنها طلعات جوية فوق القصر الجمهوري. وهذه كوميديا سوداء لأن هذا النظام لا يكتفي بتكرار تلك العبارة فقط، المتضمنة لعدم الرد، وإنما يصرّ أيضا على استعراض جبروته بإفراطه في انتهاج الحل الأمني في مواجهة أغلبية السوريين، الذين يقصفهم بلا رحمة منذ سنوات بالبراميل المتفجرة والصواريخ وقذائف المدفعية والدبابات لكسر تمردهم ولمجرد توقهم إلى الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية. بيد أن الغارة الأخيرة قرب مطار دمشق، مثل العديد من الغارات التي سبقتها والتي استهدفت قوافل إمداد ومستودعات أسلحة وقادة لحزب الله قرب دمشق في الأعوام الماضية، تعني مسألتين:
الأولى مفادها أن سوريا أضحت بمثابة ساحة تتواجد فيها قوى أخرى، إيران وحزب الله وميليشيات عراقية تتبع الحرس الثوري الإيراني، وتركيا، وقوات نخبة أميركية وبريطانية وفرنسية، أي أن النظام بات فاقدا للسيادة بالمعنى الفعلي وأن لإسرائيل حصّتها أيضا في ملف الصراع السوري.
أما الثانية، فهي تفيد بأن هذه الغارة، التي كانت سبقتها ضربة إسرائيلية قرب تدمر قبل شهر وضربة أميركية منذ أسابيع لمطار الشعيرات قرب حمص، تبدو كمؤشّر عملي على سياسة جديدة أميركية وإسرائيلية قوامها تحجيم نفوذ إيران وميليشياتها، في سوريا والعراق وربما في لبنان أيضا، لا سيما أن هذه الضربات جاءت مدعومة بتصريحات هامة في هذا الاتجاه من الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومن أركان إدارته.
الفكرة هنا، على الأرجح، أن مرحلة السماح الأميركي (وضمنه الإسرائيلي) لتمدد إيران في المنطقة قد انتهت أو حققت أهدافها أميركيا وإسرائيليا، وهذا ينطبق على أذرعها الميليشياوية العراقية واللبنانية، الطائفية والمسلحة. وتفسير ذلك أن إيران ما كان لها أن تعزّز حضورها في العراق لولا أن ذلك حصل بالغزو الأميركي للعراق (2003)، وبالتسهيل الأميركي لها في المرحلة الانتقالية. وأن السكوت الأميركي على التمدد الإيراني في سوريا والعراق ولبنان، وعلى البرنامج النووي لطهران، إنما كانت غايته تحديدا استدراج إيران للتورط والاستنزاف في البلدان المذكورة، وتاليا توظيف هذا التورط في تقويض البنى الدولتية والمجتمعية لبلدان المشرق العربي، الأمر الذي قدم خدمة كبيرة لإسرائيل. وهذا ما حصل فعلا، وبالنتيجة فقد أدت السياسات التي انتهجتها إيران إلى إثارة النعرة الطائفية المذهبية، وشق وحدة مجتمعات المشرق العربي بين شيعة وسنة، الأمر الذي لم تستطعه إسرائيل منذ قيامها؛ وهذا هو معنى أن المهمّة انتهت.
أي أن الطرفين الأميركي والإسرائيلي يريان أن على إيران أن تعود إلى حجمها الطبيعي خلف حدودها، وأن على ميليشياتها أن تنزع سلاحها أو أن تكف عن زعزعة الاستقرار في البلدان التي تتواجد فيها.
المعنى أن التسهيل الأميركي والسكوت الإسرائيلي على تغلغل إيران في المنطقة كانا محسوبين، أولا لجهة عدم السماح بخلخلة أمن إسرائيل وإبقائه عند حدود خلخلة أمن المنطقة، أي دولها ومجتمعاتها، فقط. وثانيا أن كلفة مقاومة إسرائيل عبر حزب الله وادعاء مصارعة الولايات المتحدة، هما أقل ضررا أو كلفة بالقياس مع العوائد التي تنجم عن ذلك من النواحي السياسية والعسكرية والأمنية بالنسبة إلى إسرائيل والولايات المتحدة، وهو ما حصل.
من المهم مراقبة ما يجري على صعيد الوجود الإيراني في سوريا، وضمن ذلك وجود حزب الله، إزاء روسيا والولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل، كما من المهمّ مراقبة معادلات القوى بين هذه الأطراف. كما من المهم أيضا التمييز بين الادعاءات والوقائع، وخاصة التمييز بين عوائد الإضرار بإسرائيل بدعوى المقاومة والإضرار بالمجتمعات العربية أيضا بدعوى مقاومة إسرائيل، على نحو ما تبيَّن في سياسات إيران وحزب الله في السنوات الماضية.
نقلا عن العرب