في الحوار الشيق الذي أجراه الكاتب پلينيو أپوليو ميندوسا مع الروائي الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز يسال ميندوسا:
-اتذكر تلك الطائرة؟
-ماركيز: اي طائرة؟
ميندوسا: تلك التي رأيناها في سماء كاراكاس في الثانية فجر الثالث والعشرين من يناير 1958. اعتقد أن كلينا رآها من شرفة الشقة.
(…)
على متن الطائرة كان الدكتاتور پيريس خمينيس وبناته ووزراؤه وأقرب أصدقائه. كان ملتهب الوجه وقد ثارت ثائرته على مرافقه الذي نسى في عجلة الفرار؛ حقيبة تحمل احد عشر مليون دولار عند قاعدة الطائرة التي صعدوا اليها بسلم من الحبال.
هذا المشهد قد يتكرر في وقت ما بسوريا ، التي تعيش الأسرة الحاكمة فيها، صراعا على تقاسم الثروة، بعد ان كان التفاهم وتوزيع الحصص؛ قائما لعقود، منذ ان أسس الرئيس الراحل حافظ الاسد، للنظام الأبوي المهيمن على كل مفاصل الحياة الاقتصادية والأمنية والسياسية السورية، وربطها بأحكام مع أسرته والمقربين منها، حتى انه لم يفكر يوما، بعد احباط ، محاولة شقيقه رفعت الانقلاب عليه، ان يتعارك الورثة الى حد الظهور العلني لابن شقيقته رامي مخلوف، باكيا من ان ابن خاله بشار يطالبه بأموال لا طاقة له على دفعها.
ومع ان كل السوريين، معارضة أو مولاة، على دراية بحجم فساد المؤسسة الحاكمة، بل ان غالبية التجار، لا يمكنها البيع او الشراء أو الاستثمار؛ مالم تدفع الدية لمخلوف ومن لف لفه، بصفتهم وكلاء ادارة اقتصاد البلاد؛ الا ان ظهور رامي مخلوف شاكيا متوسلا الرئيس بشار حمايته من بطش الأجهزة الأمنية، كان مثل البرق في سماء صافية.
والى ما قبل الحرب الاهلية، التي ما كانت لتقع لولا رعونة صاحب القرار واجهزته الأمنية العنيفة ، والتدخل الخارجي، كان السوريون، ينتظرون ساعة الخلاص من السطوة المالية لزعانف النظام بإسقاطه سلميًا، أو إجباره على ادخال إصلاحات جذرية.
بيد ان الثورة السلمية، انتهت رصاصًا ومفخخات ومواجهات دموية، حصيلتها الى الان اكثر من مليون قتيل وما يزيد على العشرة ملايين نازح ولاجيء ومشرد.
لقد فاحت رائحة الفساد الى حد زكمت انوف حلفاء الاسد، الروس، الذين، وهذا ما لا يريد النظام السوري الاعتراف به، نصحوا منذ بداية الأزمة، ربيع العام 2011؛ بأجراء إصلاحات جذرية لبنية النظام، وتعديل الدستور، وانهاء حكم الحزب الواحد القائد، وغيرها من الخطط التي حملها وفد ضم حينها مدير الاستخبارات الخارجية الروسية، آنذاك ميخائيل فرادكوف ووزير الخارجية سيرغي لافروف، وشخصيات رفيعة أخرى.
ووفقا للمعلومات المتاحة، فان الرئيس بشار الاسد، تعهد بتطويق الأزمة، وإطلاق العنان للإصلاحات والاستفتاء على دستور جديد، لكنه لم يف بوعده.
وبغض النظر عن الأسباب والدوافع وراء التدخل العسكري الروسي في سوريا، والتي اطنب الكرملين في اكثر من مناسبة بشرحها، لكن الثابت، وفقا للمعلومات المتواترة فان القيادة الروسية لم تتوقف يوما عن حض القيادة السورية على المضي قدما في عملية التسوية السياسية، وتنفيذ القرارات الأممية الخاصة بالأزمة السورية، وخاصة القرار 2245 الذي بذلت روسيا الكثير من الجهد في اروقة الامم المتحدة، ولدى مختلف عواصم القرار الدولي، لتثبيته في وثائق المنظمة على انه، دليل التسوية،وخارطة الطريق نحو إنهاء معاناة السوريين، ووقف الحرب وبناء الدولة الحديثة بالتوافق بين كل ابناء سوريا.
لقد سبق الظهور الدرامي لرامي مخلوف، سلسلة مقالات، ودراسات في الصحافة العالمية بما فيها الصحافة الروسية، سلطت الضوء على تفشي ورم الفساد في اجهزة الدولة السورية التي أنهكتها الحرب، وهبطت بغالبية ابناء سوريا الى ما دون خط الفقر.
و كتب الدبلوماسي الروسي المخضرم
الكسندر اكسينيونوك، الخبير البارز بشؤون الشرق الاوسط، مقالا تحليليا، نشرته على نطاق واسع مواقع إعلامية روسية رصينة، يحذر القيادة السورية من مغبة الرهان على القوة، ونبه الى تآكل الدولة بفعل تفشي الفساد، وضعف القوات المسلحة السورية،وبقاء عقلية التسلط في التعامل مع الوضع المتفاقم تأزما في البلاد.
وبدلًا من ان يأخذ النظام، بنظر الاعتبار وبجديه، الرسائل القادمة من موسكو، لجأ مطبلوه الى أسطوانة
” المؤامرة الكونية” .
وغردت شخصية أمنية تحولت الى سفير ،عرف عنها موهبة واحدة التنكيل بالمعارضين السياسيين في سوريا؛ تتهم وسائل اعلام روسية بينها RT بانها “واقعة تحت النفوذ الصهيوني” هكذا!
ومثل هذا السفير القمعي، ومن على شاكلته، سيكونون قطعًا اول الفارين بطائرة يرتقون متنها بحبل، حين تنفجر ثورة الجياع.
ولعله هرّب أمواله من الان الى الخارج، كي لا يقع في خطأ استعجال الدكتاتور الفنزويلي ماركوس پيريس خيمينيس الذي حكم بين عامي 1952-1958 البلاد بالفساد والحديد والنار.
وهرب متعجلًا، وسقطت منه حقيبة بملايين الدولارات على مدرج المطار لم يلتقطها اعوانه الفارين معه!
شكلت هذه المشاهد مادة روائية غنية للروائي اللاتيني غابريل غارسيا ماركيز مؤلف “مائة عام من العزلة” و” خريف البطريرك” وعشرات الأعمال الإبداعية التي شرّحت بمبضع الجراح جسد الدكتاتوريات المريضة بفيروس الفساد والاستبداد.