19 ديسمبر، 2024 12:06 ص

سوريا: الحصار والحرب الناعمة تشريع للقسوة وتقنين للوحشية

سوريا: الحصار والحرب الناعمة تشريع للقسوة وتقنين للوحشية

باحث مفكر عربي
مقدمة
بدخول “قانون قيصر” الأمريكي حيّز التنفيذ في 17 حزيران (يونيو) الجاري تكون سوريا قد واجهت موجة جديدة من موجات الحرب الناعمة، ولعلّ هذه الحرب ستأخذ أبعاداً أكثر خطورة وإيلاماً ضد الشعب السوري الذي ذاق الأمرّين ما يزيد على تسع سنوات، فما بالك إذا ما استمرت الحرب الناعمة والحصار الاقتصادي لفترة طويلة ، علماً بأن هذه العقوبات شاملة والتهديدات المصاحبة لها جادّة، وهو ما سيتسبب بأضرار لا حصر لها ليس على صعيد الحاضر المنظور، بل على صعيد المستقبل أيضاً؛
والأمر لا يقتصر على سوريا وحدها، بل سيشمل جارها وشقيقها ” لبنان” الذي سيكون عرضة لأضرار قد لا تقل عن الأضرار التي ستلحق بها، علماً بأن المنفذ البري الوحيد للبنان إلى العالم هو سوريا، لذلك فإن هذه العقوبات ستشمل لبنان بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو ما سينعكس سلباً وبصورة مروعة عليه، غير أنه يعيش مأزقاً حقيقياً وضائقة اقتصادية شديدة ، لاسيّما بانهيار سعر الليرة وأزمة المصارف وارتفاع أسعار السلع ، ناهيك عن أوضاع صحية خطيرة في ظل انتشار وباء كورونا، إضافة إلى تجاذبات إقليمية ودولية مؤثرة وضاغطة بما فيها تهديدات “إسرائيل” المستمرة ، ولذلك فإن تطبيق هذه العقوبات سيؤدي إلى تهديد عموم دول المنطقة ويزيد من استمرار أزمة النازحين واللاجئين وتصدّع النسيج الاجتماعي وارتفاع موجات التعصّب ووليده التطرّف والعنف، والنشاطات الإرهابية الدولية، لتنظيم داعش وأخواته. فما هي الحرب الناعمة؟ وماذا يعني استمرارها ؟وكيف السبيل لمواجهتها؟ وهو ما سنحاول تسليط الضوء عليه، من خلال تجربتي العراق وسوريا وتكرار سيناريو بغداد في دمشق.
في مفهوم الحرب الناعمة
إذا كانت الحروب امتداداً للسياسة لكن بوسائل أخرى، حسب المفكر العسكري الاستراتيجي “البروسي” كارل فون كلاوزفيتز (1780- 1831)، فإن الهدف من الحرب مثلما هو من السياسة يقوم على جعل العدو ينفذ إرادة عدوّه. ويعدّ كتاب كلاوزفيتز “عن الحرب” من أشهر أعماله وقد تم نشره بعد وفاته وأمضى بالاشتغال عليه 12 عاماً، وقد جاء على ذكره انجلز ولينين وهتلر وأيزنهاور، باعتباره كتاباً لا غنى عنه لفنون الحرب وعلاقتها بالسياسة، وكانت فصولاً منه تدرّس في المدارس العسكرية وكجزء من العلوم الحربية والسياسية.
لقد سار كلاوزفيتز على خطى المفكر والفيلسوف الستراتيجي الصيني صن تزو (المولود في 551 قبل الميلاد والمتوفي 496 قبل الميلاد) صاحب الدراسات العسكرية والتي نُشر قسم منها في كتاب “فن الحرب” والذي يعتبر هو الآخر مرجعاً أساسياً في هذا المجال، وتزو هو القائل : إن تحقيق مئة نصر في مئة معركة مهارة، ولكن قمة المهارة حين تتمكن أن تُخضع عدوّك دون قتال.
ولعلّ الحروب غير العسكرية قد تكون أكثر خطراً وأشدّ إيلاماً وأكثر مكراً، لاسيّما إذا استمرّت لفترة طويلة، وهو ما نطلق عليه ” الحرب الناعمة” Soft War، بما فيها ” الحصار الاقتصادي” و” نظام العقوبات” المفروضة على الشعوب والبلدان بسبب تعارض سياساتها مع مصالح القوى المتنفّذة في المجتمع الدولي.
وتصيب الحروب غير العسكرية أي التي تلجأ إلى الوسائل الناعمة النسيج الاجتماعي وتؤدي إلى تمزيق وتفكيك الروابط والعلاقات بين الفرد والدولة، بهدف إضعاف الوحدة الوطنية والعمل على تفتيتها على نحو تدرّجي ومنهجي، لاسيّما إذا رافقها حرباً آيديولوجية وإعلامية ودعاية سوداء مؤثرة، مستغلّة النواقص والثغرات والأخطاء في النظام السياسي لإحداث شرخ داخله وإثارة النعرات العنصرية والدينية والطائفية، وهو ما حصل في سوريا منذ 15 آذار (مارس) العام 2011، حيث تم ضخ أموال لجهات وأجهزة إقليمية ودولية، بهدف تحويل الحركة الاحتجاجية المطلبية إلى العنف، لاسيّما بتزويدها بالسلاح، وما صُرف حتى الآن على استمرار الحرب كان كافياً خصّص للاستثمار والتنمية وعلى نحو سليم، لأمكن تحويل سوريا إلى جنّة حقيقية، بل تحويل المنطقة بكاملها إذا ما أضفنا إليها مئات المليارات من الدولارات التي تبدّدت في الحرب على العراق، سواء خلال فترة الحصار المفروضة عليه لما يزيد عن 12 عاماً أو بعد احتلاله العام 2003.
“القوة الخشنة” و”القوة الناعمة”
إذا كانت شروط الحرب معروفة War conditions، لاسيّما المرتبطة بالعمليات العسكرية، وهو ما يطلق عليه استخدام ” القوة الصلبة” أو “القوة الخشنة” Hard Power وأحياناً تسمى ” الدبلوماسية الصلبة” Hard Diplomacy ، فإن هناك حروباً أو استخدامات للقوة الناعمة Soft Power أو غير الحربية والتي لا تستخدم فيها الوسائل العسكرية وهو ما نطلق عليه “الدبلوماسية الناعمة” وأحياناً تسمى بـ” نظرية الأمن الناعم”Theory of Soft Security” ، ويندرج تحت لوائها كل عناصر الحرب، غير تلك التي لها علاقة بالجانب العسكري مثل: الدبلوماسية والسياسة والثقافة والاقتصاد والتجارة والإعلام والفنون والحرب النفسية والبيئة والصحة والتربية والدين والاجتماع، إضافة إلى التكنولوجيا والعلوم، بما فيها الاكتشافات الجديدة، ويدخل اليوم تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصالات والمواصلات والذكاء الاصطناعي وكل ما له علاقة بالثورة الصناعية في طورها الرابع، والهدف هو التأثير على العدو أو الخصم وشلّ إرادته وإرغامه على الخضوع والتسليم، سواء بتنازلات تدرجية في الغالب أو بالانهيارات المدوية.
قد تكون ” الحرب” أو بعض أشكال ” القوة الخشنة” هي الطريق الأقصر لتحقيق الأهداف والوصول إلى تطبيق الخطة المرسومة ، لكنها قد تكون الوسيلة الأخطر والأكثر تكلفة مالياً وبشرياً، ناهيك عن جوانبها المعنوية الأخرى، خصوصاً وان تأثيراتها قد تبقى على الطرفين لعقود من الزمان، لاسيّما حين تفتح جروحاً ليس من السهل اندمالها وتترك آلاماً وعذابات يصعب نسيانها حيث تأخذ بُعداً تاريخياً يتسم بالكراهية والحقد وتشكّل بؤرة معادية يتم استحضارها كلّما حصلت مشكلة جديدة.
ويتم اللجوء أحياناً إلى استخدام القوة الناعمة كخيار أساسي وطويل مع جرعات محدودة وجزئية من القوة الخشنة للتأثير على المعنويات والتشكيك بالقدرات الذاتية من خلال إضعاف الثقة بالنفس فضلاً عن السعي لتعميم نمط الحياة باعتباره النموذج الأقوم والأرفع والأمثل.
وقد جرّبت واشنطن الحرب الناعمة بما فيها سياسة فرض العقوبات والحصار الاقتصادي على شعوب ودول عديدة، ولاسيّما في فترة الحرب الباردة Cold War ضد الدول الاشتراكية السابقة ودول حركات التحرر الوطني (1947-1989) ومنذ الستينات، أي على مدى نحو 6 عقود استخدمت الولايات المتحدة كل ما تستطيع من وسائل الحرب الناعمة والحصار الاقتصادي ضد كوبا على الرغم من معارضة المجتمع الدولي والأمم المتحدة وتنديدهما بالإجراءات الأمريكية لعدم شرعيتها من جهة ولا إنسانيتها من جهة أخرى، ناهيك عن تعارضها مع قواعد القانون الدولي المعاصر المعترف بها وقواعد القانون الإنساني الدولي وقيم العدالة الدولية.
ومثلما لجأت إلى مجلس الأمن الدولي لفرض عقوبات على العراق إثر مغامرة غزو الكويت العام 1990، فإن الولايات المتحدة في الوقت نفسه لجأت إلى القوة الخشنة، فشنت حرباً شاملة ضده في 17 يناير (كانون الثاني) 1991، ثم ضاعفت إجراءات الحصار الدولي الشامل، واستمرت حتى احتلاله في العام 2003، وكانت القرارات الدولية التي صدرت بحق العراق قد زادت على 75 قراراً، بما فيها تلك التي حاولت ” قوننة” الاحتلال و”شرعتنه”.

سوراقيا و اصطياد السمكة الخبيثة
وما يزال تأثير قرارات الحصار الدولي الجائر تفعل فعلها في المجتمع العراقي على الرغم من مرور أكثر من 17 عاماً على فرضية التخلّص من أسرها والانفكاك من قيدها. وهي الوسائل ذاتها التي تم استخدامها بحق ليبيا والسودان في تسعينات القرن الماضي، وكانت النتائج هي ذاتها العذابات التي تحمّلتها شعوب هذه البلدان، وهو الأمر المستمر، ولاسيّما في سوريا حيث أخذ هذا البلد العزيز ينزف على نحو رهيب، لاسيّما بفعل التداخلات الدولية والإقليمية، ناهيك عن ما قامت وتقوم به الآلة الحربية “الإسرائيلية”، من عدوان مستمر، مستغلةً الأوضاع الداخلية والاحترابات الأهلية وانفلات الجماعات الإرهابية.
لقد اختبرت واشنطن نتائج الحرب الناعمة، وخصوصاً بعد تفكيك الكتلة الاشتراكية وانقسام العديد من بلدانها وتناحرها (الاتحاد السوفييتي السابق انشطر إلى 15 دولة ويوغسلافيا تفكّكت إلى 6 كيانات وانقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى جمهوريتين هما: التشيك والسلوفاك). وأدركت الولايات المتحدة والقوى الإمبريالية أن بواسطة الحرب الناعمة يمكن تحقيق أهدافها لأنها سلاح فعّال واشدّ تأثيراً، خصوصاً بالاحترابات الأهلية، ناهيك عن انعكاساتها على صعيد المجتمعات التي فرضت عليها حصارات من الناحية الاجتماعية والسلوكية والأخلاقية والسايكولوجية، لاسيّما على أفراده وبنيته ووحدته المستقبلية ، وقادت مثل تلك الأوضاع إلى ظواهر خطيرة مثل ارتفاع منسوب العنف وزيادة حجم الإرهاب وتصاعد الجريمة المنظمة وغير ذلك.
لقد سعت واشنطن إلى تلغيم “المجتمعات العدوّة” أو ” الدول المارقة” على حد تعبيرها لكي تُسقط في نهاية المطاف التفاحة الناضجة في الأحضان أو جعلها تتعفّن في الشجرة إذا استعصي قطفها في الوقت المناسب، علماً بأن المجمّع الصناعي- الحربي بما يمتلكه من خزين وأسلحة جديدة يريد تجريبها يلجأ أحياناً إلى الحرب العسكرية أو القوة المسلحة والخشنة أو يشجع عليها ليستمر في ابتزاز الشعوب في بيع المزيد من السلاح إلى الأطراف المتحاربة.
لكن واشنطن تدرك في الوقت نفسه مخاطر شنّ الحرب من تجربتها في العراق وافغانستان وقبل ذلك في الفيتنام، لكنها تلجأ إليها أحياناً لإبراز مظاهر القوة. وإذا كانت الحرب على العراق لم تدم أكثر من 3 أسابيع (من 20 مارس/آذار ولغاية 19 أبريل/نيسان/ 2003)، إلّا أنه على الرغم من قصرها ومحدوديتها باستثناء بعض المعارك في الفاو والنجف والناصرية ومعركة المطار في بغداد، فإن القوات الغازية تعرّضت لخسائر كبيرة، ليس بفعل فترة الحرب فحسب، بل لأن هدف ترويض العراقيين وحكمهم كان أكثر إيذاء للمحتلين، ولذلك اضطرّت القوات الأمريكية إلى الانسحاب (نهاية العام 2011) بفعل مقاومة شعبية متعددية الجوانب (عنفية ولا عنفية) ومسلحة ومدنية، وكان من نتائجها 4800 قتيل أمريكي مسجّلين رسمياً كعسكريين ونحو 26 ألف جريح ومعوّق ومريض نفسياً، إضافة إلى آلاف من القتلى من أفراد الشركات الأمنية، ناهيك عن هدر نحو تريليوني دولار أمريكي، وقبل كل شيء هزيمة سياسية وأخلاقية منكرة على الصعيد العالمي، وهي الأقرب إلى إعلان انتهاء العصر الأمريكي المنفرد بالقرار الدولي، وكان ذلك درس جديد بعد درس الفيتنام الذي لم تتعلّم منه واشنطن.
لقد حوّل الحصار الدولي بشكل عام والأمريكي بشكل خاص، بلداً مزدهراً ومرفّها مثل العراق إلى “معسكر لاجئين”، حيث أرغم على الانصياع لقرارات دولية مجحفة ومذلّة، أخذت تدريجياً تطحن عظام العراقيين وتسحق آدميتهم وتلغي إنسانيتهم، وهو الأمر الذي اشتغلت عليه واشنطن والقوى المشاركة معها في الحرب على سوريا لدعم المجموعات المسلّحة فيها لاستمرار سعير الحرب العسكرية من جهة، وفي الوقت نفسه استمرار ” الحرب الناعمة” و”الحصار الاقتصادي” والعقوبات المختلفة والمتنوّعة، مستغلة النواقص والسلبيات والأخطاء الداخلية.
وهكذا وبالتدرّج واندلاع العمليات العسكرية واستشراء الإرهاب وتشكيل وتفريخ العديد من المنظمات والجماعات الإرهابية بأسماء مختلفة من “القاعدة” إلى “جبهة النصرة” (جبهة تحرير الشام) و”داعش” وقوات مسلحة و”جيش حر” وغيرها، والهدف هو تحويل هذا البلد الآمن والواعد والرقم الذي لا غنى عنه في المعادلة الإقليمية والصراع العربي -“الإسرائيلي”، إلى تجمعات للنازحين الذين فرّوا من مناطق النزاع داخل البلد وتجمّعات أخرى للاجئين الذين اضطروا إلى مغادرة البلاد بحثاً عن أماكن آمنة.
النازحون بشكل عام واللاجئون بشكل خاص يصبحون في الظروف الاستثنائية مرتعاً للتلاعب والتوظيف، وشاهدنا من على شاشات التلفاز كيف تقاذفتهم الحدود والمركبات والزوارق والمطارات، وكيف ساهمت دولة مثل تركيا في ابتزاز أوروبا والاتحاد الأوروبي والعالم أجمع بشأن فتح الحدود للاجئين السوريين لمغادرة أراضيها، بعد أن كانت تضغط بهم على الدولة السورية. وكان عدد اللاجئين السوريين في سنوات ما بعد العام 2011 هو الأكثر على المستوى العالمي ويقدر العدد بما يزيد على 4 ملايين لاجئ مسجّل لدى الأمم المتحدة “المفوضية العليا لللاجئين”، علماً بأن البلد يعيش تحت ظروف استثنائية على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية والبيئية، وبالطبع السياسية والأمنية.
حين أستعيد المأساة العراقية ، فلأنني أعيش حالياً بكل جوانجي المأساة السورية، لأنني أعرف حقاً مدى تأثير الحصار الدولي على مستقبل سوريا والسوريين، ليس بقوة الحدس أو التصوّر، وإنما عبر أرقام لمنظمات دولية سبق لها أن تحدثت عن اعتلال وهزال الحياة الاجتماعية والتربوية والصحية والنفسية والمعاشية عموماً، وذلك بالترافق مع انخفاض سعر الليرة والموت البطيء والاحتضار التدريجي الذي أصبح مشهداً مالوفاً للفئات الأكثر فقراً. وباستعارة من كتاب جيف سيمونز “جلد العراق” أو “التنكيل” بالعراق فإن الإجراءات التي تزعم فرض عقوبات على الحاكم، إنما هي محض هراء، ناهيك عن أنها خروج على قواعد القانون الدولي المعاصر ومبادئ العدالة الدولية، وبالضد من اللوائح الدولية لحقوق الإنسان.
ونتذكّر حين نتناول المأساة السورية ما ذكره شوارتزكوف بُعيد وقف العمليات الحربية بعد ” تحرير الكويت” (2 آذار/مارس/1991): بأن الشعب كلّه ليس بريئاً، وذلك بعد ستة أسابيع (42 يوماً) من القصف الجوي بما فيها 100 ساعة من “الحرب البرية”، وهو ما ردّدته مادلين أولبرايت وزيرة خارجية الولايات المتحدة في برنامج تلفزيوني “ستون دقيقة” لمحاورتها ليسلي ستال التي تساءلت عن الثمن الذي يستحقه موت نصف مليون طفل عراقي بسبب الحصار ونظام العقوبات، بما يزيد عن الذين ماتوا في هيروشيما (نحو 170 ألف إنسان) بقولها: إننا نعتقد إن الثمن يستحق ذلك (12 أيار/مايو/1996)،وهو الأمر الذي يجري بحذافيره ويزيد عليها القضم التدريجي الطويل الأمد في سوريا، والحجة هي ذاتها “اصطياد السمكة الخبيثة”، وهكذا يتم إسقاط طائرة ركّاب مدنية بحجة وجود خاطف فيها، ليذهب الأبرياء إلى الجحيم ضحايا تلك الخطط الجهنمية اللّاإنسانية.
وإذا كان الكونغرس الأمريكي قد صادق في العام 1998 على ما سمّي “قانون تحرير العراق” السيء الصيت، فإن مصادقته اليوم على ” قانون قيصر” الذي وقّعه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي دخل حيّز التنفيذ (حزيران/يونيو/2020) يعني أن الحرب الناعمة بكل أشكالها أصبحت سالكة في كل الدروب الموصلة إلى سوريا، ولاسيّما الحصار الاقتصادي ومحاولة تجويع السوريين وإذلالهم، يضاف إلى ذلك تهيئة المزيد من المستلزمات للحرب الخشنة، حتى وإن اختلفت ظروف سوريا عن العراق، وقد تكون محدودة أو بتفاهمات دولية وإقليمية، وبالطبع سيكون دور “إسرائيل” مائزاً فيها، ليس لإطاحة النظام فحسب، كما يتم الإعلان عن ذلك، بل قد يؤدي الأمر إلى نشر “الفوضى الخلّاقة” أو تفتيت البلد على أمل تشطيره وتقسيمه أو حتى لاقتطاع أجزاء منه سوريا وتشكيل أكثر من كيان بتقطيع أوصال الدولة السورية بسكين قصاب هذه المرّة وليس بقلم من كتبوا الاتفاقية السرّية المعروفة باسم سايكس بيكو العام 1916، والتي جزأت الوطن العربي ورسمت بالحبر المغشوش الحدود المصطنعة.
وإذا كان الحديث عن هدر حقوق الإنسان وشحّ الحرّيات، هو كلام حق، فإنه يُراد به باطل، فقد كان يمكن التعاطي على نحو مختلف مع الحراك الشعبي المطلبي الذي تقرّ الدولة السورية بشرعية مطالبه والتي استجابت بعد حين للعديد منها على صعيد التعديلات الدستورية والقانونية أو على صعيد المواطنة والجنسية وغيرها، أقول ذلك وفي الوقت نفسه أعرف ان الحصار الاقتصادي هو ذاته هدر سافر لحقوق الإنسان ويضاعف من معاناة السكان المدنيين ويزيد من مأساتهم، وليس هناك بلداً في ظروف الحرب والأوضاع الاستثنائية إلّا وتقدّمت فيه قضايا الدفاع عن الوطن وحماية البلاد من الغزو والتدخل الخارجي وتوفير استمرار الحياة العامة على نحو يمثّل الحد الأدنى، ولهذا فإن مثل هذه الحجّة من جانب القوى المتنفذة تسقط لأنها ستؤدي إلى التضييق على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبقية الحقوق ، خصوصاً وأن هناك أولويات تفرضها الحرب ينبغي وضعها في المقدمة دون إهمال الحقوق الأخرى التي لا بدّ من الحفاظ عليها في السلم والحرب، لأنها حقوق أساسية.
لعلّ الهدف من الحصار ونظام العقوبات على سوريا هو إرغامها على التخلي عن توجهاتها السياسية الممانعة وتغيير سياساتها الخارجية بقبول تسوية سياسية مشروطة مع “إسرائيل”، ولا يستبعد أن تدخل واشنطن الحرب من الشباك كما يُقال وليس مواجهة مباشرة، خصوصاً وقد تسللت للسيطرة على المناطق الغنيّة بالنفط، ولذلك فإن تأييدها فرض منطقة آمنة أو ملاذ آمن على الحدود مع تركيا safe Heaven ، القصد منه هو التحكّم بإنتاج وتصدير واستثمار وبيع النفط واستمرار توريد الأسلحة وتشكيل جيوب حدودية ، تحت عناوين مختلفة، وهناك فرق بين حقوق الشعب الكردي ومطالبه العادلة في سوريا وبين بعض النزعات الانقسامية التي تريد تحويل سوريا إلى مختبر جديد للتقاسم الوظيفي الإثني والديني والطائفي بعد التجربة العراقية، وهو ما كان قد دعا له برنارد لويس (1916-2018) منذ أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات.
ذخيرة آيديولوجية وخلفية صهيونية
لقد شكّلت أطروحات برنارد لويس ذخيرة آيديولوجية للسياسات الأمريكية في الثمانينات والتسعينات وما بعدها، على الرغم من ارتباط مفهوم “صدام الحضارات” بالمفكر المحافظ صموئيل هنتنغتون وقبله نظرية “نهاية التاريخ” بالمفكر فرانسيس فوكوياما، إلّا أن لويس هو الأكثر تعبيراً عن فكرة “صراع الحضارات” لاسيّما بتأكيده أن جذور الغضب الإسلامي إنما هي ” ردّ فعل للتراث اليهودي والمسيحي والحاضر العلماني والتمدد العالمي للأفكار” .
وكان برنارد لويس قد عمل مستشاراً للرئيسين الأب والإبن بوش،وكان الأكثر تطرفاً منهما في معاداة العرب والمسلمين بزعم تصادم دينهم مع الحداثة.
وفي مقابلة له في 20/5/2005 أي بعد احتلال العراق واحتلاله قال: العرب والمسلمون قوم فاسدون ومفسدون وفوضويون لا يمكن تحضّرهم… والحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية.. ومن الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية… ولا بدّ من تخليص شعوبهم مع المعتقدات الإسلامية الفاسدة واستثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية فيها. واعتبر لويس “إسرائيل” الخط الأمامي للحضارة الغربية أمام الحقد الإسلامي الزاحف نحو الغرب الأوروبي والأمريكي.
كيسنجر وبريجنسكي
وقد اعتمدت واشنطن مشروع لويس طبقاً لمستشارالأمن القومي بريجنسكي كسياسة مستقبلية، وكان قد صرّح في العام 1980 خلال استعار آوار الحرب العراقية – الإيرانية، إن المعضلة لواشنطن من الآن كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية … تستطيع فيها أمريكا تصحيح حدود “سايكس- بيكو” والكلام هنا لبريجنسكي.
وكان مشروع لويس يستهدف تفكيك الدول العربية والإسلامية مثل: العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان وإيران وتركيا وافغانستان وباكستان والسعودية ودول الخليج ودول الشمال الأفريقي وتفتيت كل منهما إلى مجموعة من الدويلات والكانتونات والدوقيات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، وأرفق بمشروعه المفصل مجموعة من الخرائط المرسومة والمرشحة للتفتت بالترافق مع توجهات بريجنسكي مستشار الرئيس كارتر للأمن القومي، وتنظيرات هنري كيسنجر المستشار ووزير الخارجية الأمريكي القائل: علينا إقامة إمارة وراء كل بئر نفطي في المنطقة.
الكونغرس الأمريكي ومشاريع التقسيم
جدير بالذكر أن الكونغرس الأمريكي وافق بالإجماع في جلسة سرّية على مشروع برنارد لويس في العام 1983 واعتمد في ملفات السياسة الخارجية الاستراتيجية لواشنطن إزاء دول المنطقة.
وبخصوص سوريا فإذا نظرنا إلى الخريطة سنراها تتميّز بما يلي:
أولاً- تقسيمها إلى أقاليم متمايزة عرقياً أو دينياً أو مذهبياً إلى ستة دويلات: دولة علوية ” شيعية” على امتداد الساحل ودولة سنّية في منطقة حلب، ودولة سنّية حول دمشق ودولة درزية في الجولان ترتبط بدروز لبنان ودولة كردية في القامشلي وعفرين، ودولة في دير الزور امتداداً لجزء من محافظة الأنبار في العراق تكون حاجزا بين الدولتين
ثانياً- تقسيم لبنان إلى 8 كانتونات عرقية ودينية ومذهبية هي:(دولة سنية في الشمال – طرابلس)و (دولة مارونية-عاصمتها جونية) و(دولة سهل البقاع- عاصمتها بعلبك وهي شيعية) و(بيروت-عاصمة الدولة أو مدينة مدوّلة) وكانتون فلسطيني حول صيدا وحتى نهر الليطاني وكانتون كتائبي في الجنوب (يضم المسيحيين ، إضافة إلى الشيعة) ودولة درزية (إلحاق أراضي سورية وفلسطينية بها) وكانتون مسيحي تحت النفوذ “الإسرائيلي”.
وكان ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش (2001-2009) ووزير الدفاع في رئاسة جورج بوش الأب، والمشرف على عملية ” عاصفة الصحراء” 1991 ضد العراق من أشد المعجبين ببرنارد لويس الذي قال عنه ” إن صانعي السياسة والدبلوماسيين وأقرانه من الأكاديميين والإعلام الجديد يسعون يومياً إلى حكمته في هذا القرن الجديد”.
ولعلّ هذا المشروع القديم الجديد ما زال مطروحاً، خصوصاً وأن مشروع تقسيم العراق ثلاثياً: دولة شيعية في جنوب بغداد إلى البصرة، ودولة سنّية تضم محافظات الأنبار وصلاح الدين والموصل وأطراف من ديالى وكركوك، ودولة كردية في كردستان شمال العراق تضم المحافظات الكردية ووضع نقاط حدود بينها وإصدار هويّات أقرب إلى جوازات سفر في المستقبل أما بغداد فيمكن أن تبقى لفترة عاصمة للدولة الموحدة شكلياُ وهذا هو جوهر مشروع جو بايدن والذي صادق عليه الكونغرس العام 2007، أي قبل أن يصبح نائباً للرئيس أوباما.
نقد الاستشراقية
ولا بدّ هنا من استذكار النقد الشديد الذي وجهه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد لبرنارد لويس، لاسيّما لدراساته الاستشراقية، أولاً في كتابه ” الاستشراق” الصادر العام 1978 والثاني كتابه ” تغطية الإسلام” الصادر في العام 1981 والذي انتقد فيه نظرة العالم الغربي للإسلام، ولعلّنا بتسليط الضوء على أطروحات برنارد لويس إزاء سوريا هو التنبيه إلى المخاطر الحقيقية للمشاريع الاستعمارية الجديدة ولـ صفقة القرن بعد مرور 100 عام على اتفاقية سايكس – بيكو، تلك التي ترافقت مع الحرب النفسية والقوة الناعمة والحصار الاقتصادي والتضليل الايديولوجي والدعاية السوداء والأهم من ذلك إضعاف الثقة بالنفس وبالقدرات والسعي لخلخلة المجتمع من داخله وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والإثنية والدينية وغيرها.
ومع استخدامات القوة الخشنة بأشكالها المختلفة وممارسات القوة الناعمة بأدوارها المتنوعة ، مرّت مياه كثيرة تحت الجسور ففي ظلّ هذه الأوضاع نقلت الولايات المتحدة سفارتها إلى القدس بالضد من قرارات الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي والقرار 181 لعام 1947 بخصوص تقسيم فلسطين إلى دولتين وبشان الوضع الخاص لمدينة القدس المدوّلة، كما اعترفت واشنطن بكون الجولان السورية المحتلة، جزء من “إسرائيل” بحكم الأمر الواقع، والأكثر من ذلك برّرت زعم ” إسرائيل” محاولتها لوضع اليد على غور الأردن وشمال البحر الميت، كما تعهد رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو.
إذا كان تأثير القوة الناعمة في الماضي محدوداً، فقد أصبحت فاعلة ومؤثرة على نحو كبير في عالم اليوم في ظلّ ثورة الاتصالات والمعلومات وما يسمّى بـ Info midia وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية ” الديجيتبل” والطور الرابع للثورة الصناعية والذكاء الاصطناعي، بل إن الحروب الخشنة أحياناً تبدأ وتنتهي بـ “القوة الناعمة”، اي باستخدام وسائل غير عنفية أو غير عسكرية لتحقيق الهدف، وخصوصاً التأثير على سلوك العدو أو الخصم ليتم تقويضه من الداخل، وهذا يعني حسم المعركة بخصائص قد تفوق أحياناً استخدام القوة الصلبة. وقد كان للقوة الناعمة دوراً بارزاًفي فترة الحرب الباردة (1947-1989) بين الشرق والغرب، وخصوصاً في ظلّ “توازن الرعب” بين المعسكرين ، لاسيّما بوجود ” السلاح النووي”.
القوّة الناعمة والاستراتيجيات العالمية
منذ انتهاء عهد الحرب الباردة والعالم تتنازعه استراتيجيتين أساسيتين، حتى وإنْ بدتا متناقضتين، إلاّ أنّهما في الوقت نفسه متداخلتين أحياناً:
الاستراتيجية الأولى استندت إلى مبدأ القوة الناعمة Soft Power التي تقوم على الدبلوماسية والحوار في إطار “نظام عالمي جديد” له شروطه التي روّج لها جورج بوش الأب، وكان الإعلان عن سيادة الهيمنة الرأسمالية العالمية والنظام الليبرالي المدخل لذلك، عبر تنظيرات “نهاية التاريخ” التي قادها فرانسيس فوكوياما، الأمريكي من أصل ياباني، ومع أن هذه الاستراتيجية كانت سائدة خلال الحرب الباردة، وما عُرف منذ الخمسينات بـ توازن الرعب “النووي”، إلاّ أنّ تجلّياتها كانت قد ظهرت في عقدي السبعينات والثمانينات بخصوص العلاقة مع الدول الاشتراكية السابقة، فيما عُرف بسياسة الوفاق الدولي، والتي قادت بصورة تدريجية إلى انهيار الكتلة الاشتراكية بضعضعة كيانها من الداخل، إلاّ أنّ حرب التحالف ضدّ العراق العام 1991 بعد غزوة الكويت في العام 1990، كانت إيذاناً بمرحلة جديدة لاستخدامات القوّة الخشنة، بعد انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على نظام العلاقات الدولية والأمم المتحدة.
أما الاستراتيجية الثانية فقد ظلّت منشغلة بالصراع العسكري (القوّة الخشنة) hard Power تلك التي ينبغي استغلال الوقت لتحقيقها ولضمان هيمنة واشنطن على العالم ليصبح القرن الحادي والعشرين قرناً أمريكياً بامتياز. ولعل أطروحة “الخطر الإسلامي” كانت جاهزة بعد انتهاء ” الخطر الشيوعي”، وهكذا ضجّت وسائل الإعلام بالإسلامفوبيا، وصدام الحضارات التي نظّر لها صموئيل هنتنغتون.
القوة الناعمة مقابل القوة الناعمة!!
لم يكن اليمين الغربي وحده هو منظّر القوة الناعمة، بل أن مفكراً يسارياً كبيراً مثل نعوم تشومسكي كان قد دعا إلى مواجهة المشاكل الكبرى مثل الإرهاب والفقر والتخلّف والعولمة والتنمية من خلال علاقات دولية أكثر تكافؤاً، وإنْ كان من زاوية مختلفة، حيث دعا إلى أن تتفرّغ الأمم المتحدة لحلّ النزاعات الدولية، وهذا يتطلّب من وجهة نظره انضمام (جديد) لواشنطن لنظام محكمة روما (المحكمة الجنائية الدولية) التي أعلن عن تأسيها في العام 1998 ودخل ميثاقها حيّز التنفيذ في العام 2002، (لكي تكون مساءلة أمام القضاء الدولي حتى تنتهك الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي). وكانت الولايات المتحدة قد انضمت إليها عشية إغلاق باب الانضمام إلى الهيئة التأسيسية (أواخر العام 2000)، لكنها انسحبت منها بعد أن أصبحت نافذة بانضمام 60 دولة (2002)، ومثلها حذت “إسرائيل”.
لم يكتفِ تشومسكي بذلك، بل اقترح حلولاً دبلوماسية واقتصادية واجتماعية للمشكلات الدولية، لا سيّما بعد الاعتراف بمبدأ حق تقرير المصير الوارد في ميثاق الأمم المتحدة (المادة 55) وبحق الدول في الدفاع عن النفس فرادى أو جماعات (طبقاً للمادة 51)، خصوصاً من أجل التحرر الوطني والانعتاق ونيل الاستقلال، كما اقترح بضعة خطوات لإعادة هيكلة الأمم المتحدة وتعديل ميثاقها، بما فيه إلغاء حق الفيتو للدول الأعضاء الدائمة العضوية (الخمسة الكبار).
حسب وجهة نظر تشومسكي، ليس الغرب وحده هو من يستطيع استخدام وسائل القوّة الناعمة، بل إنّ الشعوب والأمم والدول الصغيرة، هي الأخرى بإمكانها “التكتل” و”التجمّع” لتحقيق انعطافة في إطار منظومة العلاقات الدولية، والتأثير على الدول والقوى الغربية التي تريد اختراق الدول الضعيفة لتحقيق مصالحها الأنانية الضيقة، كما يدعو إلى عمل جماعي لإصلاح الأمم المتحدة وإعلاء هيكلتها وتركيبها وميثاقها، بما يضمن مصالح الشعوب.
قوّة النموذج ونموذج القوّة
ومثلما عرض تشومسكي رؤيته حول القوة الناعمة، فإن جوزيف ناي من جامعة هارفارد قدّم مفهومه بخصوص القوة الناعمة في العلاقات الدولية، وذلك حين تحدّث عن “قوة النموذج” الذي ينتصر فيه على نموذج القوة ليؤكّد أن العدوان الأمريكي على العراق لم يكن مبرّراً مشيراً إلى أنه كان يمكن كسب المعركة بالقوّة النّاعمة ودون تكلفة تُذكر، محذّراً من الإفراط في التوسّع العسكري، لا سيّما بعد احتلال أفغانستان، معتبراً الحرب ليست قدراً محتوماً، لا في السابق ولا في الحاضر، وبحث ذلك مطوّلاً في كتابه “تناقضات القوة الأمريكية” الذي عاد ونشره بعد تعديلات إضافات بعنوان “القوّة النّاعمة”.

والقوة الناعمة من وجهة نظر جوزيف ناي تعني: القدرة على الجذب والضم كوسيلة للإقناع دون استخدام القوة أو أي وسيلة من وسائل الإكراه، وقد استخدم المصطلح للتأثير على الرأي العام الاجتماعي من خلال قنوات متعددة ومنظمات دولية، وهكذا تكون أفضل أنواع الدعاية ليس دعاية، حيث تكون المصداقية أندر الموارد في عصر المعلومات، وهو ما بدأ الاهتمام به دولياً، حيث قال أمين عام الحزب الشيوعي الصيني السابق هو جينتاو: إن الصين بحاجة إلى زيادة قوتها الناعمة.
وكان وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس قد قال حينها: إن تعزيز القوة الناعمة الأمريكية يحتاج إلى ” زيادة الاتفاق على الأدوات المدنية من الأمن القومي بالدبلوماسية والاتصالات الاستراتيجية وتقديم المساعدات الأجنبية وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية. وتحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى في توظيف القوة الناعمة في صراعاتها الدولية، تليها ألمانيا والمملكة المتحدة واليابان وفرنسا وسويسرا وأستراليا والسويد والدانيمارك وكندا. أما مصادر القوة الناعمة الأساسية فهي: 1- الثقافة في جذب الآخرين
2- القيم السياسية التي تدعو إليها
3- السياسة الخارجية وإبراز الجانب الشرعي والأخلاقي فيها، أما وسائل الأصول إلى تحقيق الأهداف فهي:
1. الإكراه بالتهديد
2. التحفيز بالدوافع
3. جذبهم واستجذابهم
والقوة الناعمة هي أكثر من مجرد تأثير وتعتمد على القوة الصلبة للتهديدات والمدفوعات وهي أكثر من مجرد إقناع، بل القدرة على التحريك بالحجة والقدرة على الجاذبية لجلب الرضا
الحروب الخشنة تفرض معادلاتها، لكنها قد تسبّب ردود فعل وانعكاسات تأتي تأثيراتها لاحقاً، فمثلاً أدّت الحرب العالمية الأولى إلى انهيار 4 إمبراطوريات: الأولى ألمانيا، والثانية النمسا – هنغاريا، والثالثة روسيا، والرابعة الإمبراطورية العثمانية، (الرجل المريض الذي كان مصاباً بالشلل وأخذ يتغلّغل في جميع مفاصله حتى انتهى بالقضاء عليه)، وكان لبريطانيا وفرنسا الدور الحاسم في اصطفافات عالمية جديدة وفي تقاسم مناطق نفوذ، مع ظهور دور واعد للولايات المتحدة وخروجها من عزلتها.
وكان من نتائج الحرب العالمية الثانية، سقوط ألمانيا مجدداً وانهيار الإمبراطورية اليابانية وإيطاليا، وصعود توازن جديد، أساسه الحلف المعادي للفاشية، وخصوصاً: بين واشنطن وموسكو، والأخيرة شقّت نظام العلاقات الدولية بعد الثورة الاكتوبرية العام 1917، والتي كانت الحرب العالمية الأولى واحدة من عوامل نجاحها.
هذه المقاربة التاريخية للحروب، ولا سيّما الخشنة، تبيّن أن الصراع لاحقاً وبفعل امتلاك السلاح النووي، اتّجه نحو الحرب الناعمة، حتى وإن كانت تعبيرات الحرب الخشنة باقية ومؤثرة، تارة بزعم كونها “حرباً وقائية”، وأخرى الزعم بأن “الحرب أمر حتمي” لا يمكن تلافيه أو “لأهداف الردع” من “خطر محتمل” أو “وشيك الوقوع” أو “الخشية من صعود قوة دولية” قد تحدث فجوة في نظام العلاقات الدولية.
الحرب ليست حتمية، كما أنها لا تحدث بمحض الصدفة، إنها عن سابق تخطيط وتنظيم، حتى وإن حرّكتها أو دفعتها عوامل ظرفية أو محدودة، لكنها تحمل في داخلها عوامل أساسية تتعلق بالمصالح ومحاولات فرض الهيمنة والنفوذ وإملاء الإرادة.
قد تبدو الحرب فرصة لتحقيق الأهداف بالوسائل العسكرية، أي أنها دبلوماسية بالعنف أو على حد تعبير المفكر النمساوي كلاوزفيتز: الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل عنفية، للوصول إلى الأهداف، لكن مثل هذه الوسائل تصبح أقل تأثيراً في العلاقات الدولية، في ظل موازين القوى الجديد ووجود السلاح النووي، حتى وإن كانت الحرب أكثر إغراء لبعض الزعماء، لأنها تحقق الأهداف بصورة سريعة وحاسمة، أكثر من الحرب الناعمة الطويلة الأمد، ولكن العالم يدرك مدى خطورة مثل هذا الاختيار المدمّر للآخر، مثلما سيكون مدمّراً للذات.
لنتصوّر أن المنافسة المحمومة اليوم بين واشنطن وبكين ستؤدي إلى حرب عسكرية، خصوصاً بعد جائحة كورونا فايروس والاتهامات المتبادلة .

كيف يتم مواجهة الحرب الناعمة؟
إنه سؤال في غاية الأهميّة، لا بدّ من استخدام العلم أولاً ورفع درجة الوعي، ثانياً لتحصين الشعوب ، وثالثاً لا بدّ من تحقيق منجز حقيقي على الأرض، بإقامة نظم تعتمد قيم العدالة والمساواة ومبادىء المواطنة، وإشاعة الحريات، وتشخيص نقاط قوة وضعف العدو أو الخصم أو الآخر واحترام حقوق الإنسان، مع مراعاة المصالح العليا للبلاد، خارج التصنيفات الضيّقة والمصالح الأنانية، كما ينبغي الإعلاء من شأن المشتركات وتفعيل دور النخب، فبدلاً من استخدامها لتسهيل مهمة الحرب الناعمة، واستغفالها لتكون جسراً للاختراق، يمكن إذا ما أحسن التعامل معها في أجواء من الحريّة، ولا سيّما حريّة التّعبير أن تكون هي رأس الحربة للوقوف ضدّ أساليب القوّة النّاعمة التي يوظّفها الخصم والعدوّ، ولا عملية تغيير أو مقاومة أو مواجهة للتحديات دون دور النخب الفكرية والثقافية والسياسية.
ولكي يكون الإعلام بمستوى المواجهة، لا بدّ من مهنية وصدقية ونزاهة وكشف للحقائق، بما فيها بعض النواقص والثغرات والمثالب، وكذلك يقع مثل هذا الدور على المجتمع المدني، الذي ينبغي أن يتحوّل من “قوة احتجاج إلى قوة اقتراح”، بهدف إسقاط حجج العدوّ والوقوف ضد انزلاق البلدان إلى الطائفية والتمذهب والصراعات الدينية وغيرها، والعمل على بناء دولة الحق والمؤسسات والرقابة والمساءلة، وتيسير الإدارة لصالح الناس وحقوقهم ورفاههم.
لا ننسى هنا دور العامل التربوي والتعليمي في التنشئة والتأثير ومواجهة عوامل الانقسام والفتنة، والسعي لترصين وتمتين الشخصية والتفكير الحر والمستقل واحترام الرأي والرأي الآخر والتعدّدية القومية والدّينية، وبالطبع يلعب الفن والأدب والثقافة بشكل عام دوراً كبيراً في مواجهة الحرب الناعمة، مثلما تلعب اللغة التي ينبغي صيانتها وتطويرها في مواجهة أساليب الحرب الناعمة بمحاولة طمس اللغة أو اللغات المحلية لحساب تعميم لغات أخرى، في محاولة للتأثير على الهويّة الوطنية، التي تشكّل اللغة والدين أو الأديان في المجتمعات المتعدّدة الثقافات أحد أركانها الأساسية.
إذا كنّا قد سلّطنا الضوء على الماضي وتوقفنا عند الحاضر، فذلك بهدف استخلاص الدروس والعِبَرْ الضروريّة، فالتاريخ حسب عبد الرحمن ابن خلدون “ديوان العِبَر” وحسب هيغل فهو “مراوغ”، وبقدر ما نستطيع فهمه، فإنه سيساعدنا على معرفة الحاضر بكل عناصر ضعفه وخوره، إضافة إلى عناصر قوته ومنعته، تلك التي لو أحسن استخدامها واستثمارها، فإن استشراف المستقبل سيكون ممكناً ولو بخطوطه العريضة، من خلال تعزيز عناصر القوة الداخلية من جهة، وتشخيص عناصر الضعف وردم الثغرات التي يمكن للعدوّ أن يتسلل منها بالحرب الناعمة أو النفسية من جهة أخرى.
الخاتمة
إن استمرار الحرب الناعمة ضد سوريا بما فيها الحصار الاقتصادي ضد شعب أعزل يثير الكثير من التساؤلات الأخلاقية أولاً حول “الفضيلة الغربية” و”قيم العالم الحر” و” العالم الجديد”، لاسيّما إزاء أرقام الضحايا المذهلة في هذه “الحرب الصامتة” الأشد إيلاماً وبشاعة، تلك التي يجري فيها مثل هذا الذبول المريع للضمير الإنساني ، حيث يتم التعامل مع معاناة البشر بدم بارد أو ترحيل للذنوب على الآخر، فللآخر ذنوبه، لكن الحكم بهلاك شعب انتظاراً ودون حدود أو آجال يعدّ جريمة كبرى لا يمكن السكوت عنها، والسكوت يعني تواطؤاً، علماً بأن بعض الأصوات الأوروبية والأمريكية بدأت تحتج على التأثيرات الخطيرة للعقوبات وتجويع شعب بكامله، ولنتذكر ما قاله جيمس بيكر بحق العراق دون أن يرفّ له جفن، سنعيده إلى “العصر ما قبل الصناعي” وحسب تقرير منظمة الصحة العالمية فقد أعيد العراق إلى نحو 50 عاماً إلى الوراء، وهو ما يُراد لسوريا وشعبها، فإعادة الإعمار أو إعادة ما خربته الحرب بأنواعها يحتاج إلى أكثر من جيل حسب تقديرات خبراء اقتصاديين وإلى نحو تريليون دولار أمريكي.
إن تلك الجرائم ترتب مسؤولية دولية جنائية وفقاً للمادة 54 من بروتوكول جنيف الأول لعام 1977 حول حماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، خصوصاً تجويع السكان المدنيين وترحيلهم ومحاولات تدمير وإتلاف ضرورات بقائهم وحياتهم فضلاً عن تراثهم وذاكرتهم وآثارهم وصروحهم العمرانية التي تشهد لحضاراتهم وتاريخهم. إن تجويع المدنيين بوصفه طريقة في الحرب عمل غير مشروع ولا يمكن تبريره قانونياً، ناهيك عن كونه لا إنسانياً ولا أخلاقياً أو دينياً.
وخارج نطاق السياسة والانحيازات، فالموقف من الحصار ضد أي شعب وأياً كانت المبررات، لا يمكن تبرئته ، فليس هناك حجة يقبلها العقل البشري السوي تعطي للآخر “حق” قتل شعب أو مجموعة من السكان جوعاً، بل إن ذلك جريمة خطيرة، لأنه يمثل نوعاً من أنواع الإبادة الجماعية الشاملة، بما فيها علاقة الإنسان بحق الحياة والعيش بسلام وهو حق مقدس ويتقدّم على جميع الحقوق.
إن استمرار العقوبات والحصار ضد الشعب السوري يعني استمرار تشريع القسوة وتقنين الوحشية، في عالم يزعم فيها المرتكبون والجناة أنهم يريدون مجتمعاً أكثر عدلاً وتسامحاً وإنسانية، ولعلّ مقترح تشريع اتفاقية دولية لمنع معاقبة الشعوب وحصارها اقتصادياً، يصبح اليوم أكثر إلحاحاً وعلى جميع المعنيين بالدفاع عن الحقوق والحريات أن يوحدّوا جهودهم للضغط على الأمم المتحدة لتحقيق ذلك. وكنت قد دعوت إلى ذلك في مؤتمر نظمناه في لندن منذ نحو ربع قرن والموسوم “الحصار الدولي والواقع العرب” في إطار فعاليات “المنظمة العربية لحقوق الإنسان” في ملتقاها السابع، ولعل مطلباً من هذا القبيل يدخل في صميم مطالب البلدان النامية وشعوب وأمم وبلدان الجنوب الفقير وعالمنا العربي والإسلامي الأكثر تضرّراً من الجميع من استمرار هذا الوضع.
وحسب الشاعر والمسرحي الألماني برتولت بريخيت ” أي زمن هذا الذي يكاد الحديث فيه عن الأشجار أن يصبح جريمة لأنه يعني الصمت عن جرائم أخرى” .