18 أبريل، 2024 8:22 ص
Search
Close this search box.

سوانح في غائية النقد الشامل

Facebook
Twitter
LinkedIn

يقدّم عالم الميثولوجيا الأغريقية شخصية بروكروست Prokrustes وهو حدّاد وقاطع طريق، اشتُهِر بسريره الحديد، يدعو ضحيته الى ضيافته ثم يعرض عليه النوم على ذلك السرير، فإن كان ضيفه طويلاً قطع طرفيه ليتلاءم مع السرير؛ وإن كان قصيراً مده مدّاً بقبضتيه القاسيتين حتى يتلاءم مع السرير! ولو كنت أحد ضحاياه لفضلت المدّ على القطع برغمٍ من أنهما خياران أحلاهما مر!

ولا شك أن دلالة الأسطورة هو الحكم التعسفي الذي يخضع لمشيئة من هو على شكل بروكروست .. على أن للقضية وجها آخر؛ حين يدعوك داعٍ كريم لتتذوق زاده وتقول رأيك فيه، وهنا تنقلب المسأله الى ما هو مضاد لحكم بروكروست، فالمسألة بها نبل وضيافة ونزاهة ولباقة ومسؤولية أخلاقية وأدبية وتربوية وإنسانية..وحينها تتمنى أن يكون مضيفك كالحطيئة الذي قدّمتْه مناهجنا المدرسية على سرير بروكروست وقطعت منه أطرافاً؛ وهو الذي يصف كرمه بضيفه لا بالزاد وحدِه بل بالمفاكهة بالحديث حتى يدعه يغفو على سرير لا قطع فيه ولا مد، كل هذا ببيت آسر في نُبله وإنسانيته حين يقول (من الطويل):

أُحدِّثُهُ إن الحديث مِن القِرى – وتعلمُ نفسي أنه سوف يهجعُ

ويسألني صاحبي القارىءُ هلاّ وجدتَ مثل هذا السرير المرعب في الواقع؟ بلى ياصاح بل أسرّة؛ والتأجيل الى آخر المقالة أمر مستحب!

أرى أن النقلة الكبرى في تار يخ النقد العربي؛ هي في التحول من الشفاهة الى التدوين، وهي نقلة استغرقت مائة عامِ ونيّفاً، هي نقلة تكمن أهميتها بتحول كبير في التعاطي مع الشعر وانتقاله من الإلقاء والإصغاء الى القراءة والتمحيص، وانتقل حكم النقد من جذوره الأولية في المرجعية الفردية التي تنبني على الذائقة الفردية المنصقلة الى مرجعية معيارية هي في صميمها المحصل الجمعي للذائقة ووضعها ضمن قوانين مستمدة من علوم مستحدثة كالعروض والنحو والبلاغة واللغة وفقهها وووو.. ما أفرز رجالا نقدة ذوي أصوات متعددة أقرت الاجتهاد وأفادت من المنطق، وجعلت النص متحركا لا جامدا، حق الاختلاف فيه مضمون وحق الخصام فيه مشروع بل مثاب عليه.. وبهذه الثورة توّلد النقد ونقد النقد والموازنة بين الشعراء؛ وظهر باب واسع يخوض في الشعر ومحاسنه ومساوئه وظهر المكرر والمسروق وظهرت النقائض والخصومة بين الشعراء وتنافسهم وتهاجيهم حتى إذا رحل أحدهم رثوه بمشاعر صادقة!

ولماذا التركز على القديم شعراً ونقداً؟ أليست هذه سلفية؟ لا خشية من السلفية في الأدب والفن مطلقاً، بل هي تحمل ضرورتها بحجم ضرورة الشعر والفن والإبداع عموماً، ليس بوسع أي شاعر – أيأ كانت أداته الشعرية عمودية، تفعيلية أو حداثية- أن يكون شاعراّ بحق مالم ينهل من الشعر القديم ونقده، ليزيد من أفقه الشعري ويغني ذخيرته من المفردات، ويثبت في خاطره الشعري موسيقى الشعر وإيقاعه بما يعمق ملكته الشعرية ويسمها بميسم الأصالة، بل وأزيد على ذلك حتى لو أصبح شاعرا ينشر ويكتب ويتلقى إطراء – ومن ذا الذي لا يحب الإطراء؟ – فإنه لا بد من الاستمرار في علاقة

ودودة متطامنة وناقدة في الوقت ذاته كي لا ينقطع حبل الوصل وبذلك سيهن منه العظم ويفقد ماء شعره!

ولا يختلف الأمر في الموسيقى والغناء كانت نهضة الأغنية العراقية في الستينات والسبعينات شكلت نقله مشرفة على يد ملحنين موهوبين، لماذا لأن هؤلاء تخرجوا من المدرسة المقامية وجمعوا بين الحداثة والأصالة؛ وعند الأبتعاد عن الأصالة والقفز الى الحداثة انتكست الاغنية العراقية وتقهقرت على عقبيها للاسف وأصبحت لا هوية لها !! ولايختلف التشكيل فلا يمكن للرسام والمثاَّل أن يكون أصيلاً مالم يتعمق بدراسة فنون ما قبل الكاميرا ثم الى المدارس المختلفة ليشق طريقه الخاص…

هناك اندفاع بسِمة الهوس نحو الحداثة وما بعد الحداثة في الشعر والفن والنقد، ونتيجته “إبداع” منقطع الجذور، يصحبه تعمية مفتعلة، مع موجات للبنيوية وما بعدها.. ولا ينكر ناكر أو جاحد أهمية هذه الإتجاهات، التي يمكن الإفادة منها لقد هفتت هذه الموجات في مواطنها فلِمَ الغرق في لجتها؟

من يبحث عن هذه الإتجاهات في تراثنا النقدي سيجد لها لمعات عند كبار نقدة الشعر العربي..سأعطي “التناص” مثلا على ذلك وقد فهم الكثير من أنه ينطوي على معنى السرقة، وهو مفهوم قاصر مبتسر، المفهوم الاشمل للتناص هو التأثرات بمختلف ضروبها ودرجاتها تحدث بتلقائية وبتوارد طبيعي لأن الأفكار لا أسيجة لها؛ وترجع جذور التناص الى الشكلانيين الروس الذين أعطوا البعد التاريخي للتأثرات في دراسة أعلامهم..ومن يرجع الى النقد العربي سيجد أن النقاد عبروا عنه بالمفهوم الحديث نفسه تقريبا، في موضوع السرقات الشعرية وهي سرقات ذات معنى مجازي لا تُشبه سرقات عصرنا وثورته ثورة الاتصالات حين تكون السرقة بلحم النص ودمه!! ومن يُرد دليلا على كلامي فليذهبْ الى “الأشباه والنظائر” للأخويْن الخالديين وغيره كثير ك” المساوىء والمحاسن” و “السرقات الأدبية” وو…

أرى أن التحديث في شعرنا وفي النقد قد مثّل ثورة إذا ما قورن بمستوى تطور الحياة وبلغ شأواً كبيراً، فقد كان التركيز على عمود الشعر المتمثل بالجزالة اللفظية وقوة العبارة الشعرية وانقسام القصيدة الواحدة الى عدة أفكار بل الى فكرة في كل بيت مما جعل المعنى في منزلة أدنى..حتى إذا خرج العرب عن جزيرتهم ليختلطوا مع الشعوب وتغيرت البيئة فلم تعد المعاني التقليدية تلبي المعنى الحياتي الجديد ولم تعد البحور الثقيلة تفي بالمحمول الجديد من الصور والمعاني فحدث التجديد في شكل القصيدة وبدأت تتبلور وحدة الأفكار في القصيدة بدلا من وحدة البيت وتنازع النقاد الى مذاهب وأصبح تأثير النقد في الشعر لا يقل عن تأثير الشعر في النقد، ولا نريد أن نكرر مقولة أن أبا تمام والمتنبي والمعري حكماء والشاعر هو البحتري..هذه المقولة التي خفت بريقها بمرور الزمن!

هذه الثورة في الشعر والنقد كان يمكن لها أن تتطور، مع تطور الحياة الشامل لتكون نظرية النقد الشامل شمول تطور الحياة في الأدب وفي التاريخ وفي الفلسفة والعلوم..لولا الانتكاسات المتلاحقة في الجزء الثاني من العصر العباسي وفي الأندلس، حين فقدنا المعتزلة وابن رشد ليأخذه الغرب ونبقى مع الغزالي ومن بعده أفكار ابن تيمية …ثم دخول العرب في قرون من الظلام أعقبت سقوط بغداد وانهيار الأندلس..

لقد كان عصر التنوير شاملا في الغرب ومهد لتراجع الكنيسة وبدأت أوربا تنهض في جميع المجالات في الفلسفة والأداب والموسيقى والفنون والعلوم، ما أعطى أكله في نظريات جديدة أنعشت النقد

وبلورت نظريات جديدة متصارعة وظهرت الماركسية كتتويج لتطور المعرفة في ميادين الاقتصاد والاشتراكية والعلوم الأجتماعية كالأنثروبولوجيا وعلم النفس الفرويدي ..ما ساهم في خلق نظرية معرفية ومنهج علمي جدلي شكل ومازال يشكل سيلا جارفا ضد الميتافيزيقيا والفلسفة المثالية والقوانين الوضعية المعطلة وأزالة الثقافة الاستهلاكية الرأسمالية، وجعلت الإنسان هدفا لتحريرة وأدركت أن الإنسان العامل هو القادر ان ينتقل الى عالم لا استغلال فيه.

وكانت “نظرية النقد” الشاملة المتمثلة بمدرسة فرانكفورت* Frankfurt schoolهي المرشحة لخلق رؤية ثورية جديدة لا للآداب والفنون بل في الفلسفة والتاريخ والاقتصاد.. لقد نقلت هذه المدرسة النقد من كونه نقداً أدبيا critics الى مجال النقد الأرحب أعني النقد الشامل criticism وحررت النقد من سلطة الحزب والدولة أي من الأيديولوجيا وجمودها الى الفكر وديناميكيته… فلا غرابة أن تحارب من قبل عبدة الفرد ودعاياتهم السياسية ولا غرابة أن يفِرّ مفكروها من ألمانية بعد صعود النازية في الثلاثينات واضطهاد أتباعها وأعلامها الى نيويورك ثم تعاود الى مقرها في فرانكفورت ثانية في الخمسينات ..

منذ نشوئها في عام 1923 ولحد الآن استطاعت أن تكون البديل المقتدر للحداثة وما بعد الحداثة بفضل أعلامها الماركسيين الجدد من أمثال الفلاسفة هوركرايمر ومؤلَفه “النظرية التقليدية والنظرية النقدية”1937م؛ وكذلك هربرت ماركوز”العقل والثورة” 1941، وهو نفسه صاحب “إنسان البعد الواحد” الذي عوّل على الطلاب كحركة تكمل مسيرة العمال (الذين شاخت ثوريتهم) ودلل على ذلك في أحداث الشباب في فرنسا عام 1968 التي اشعلها التروتسكيون؛ وأرنو في “نظرية الجمال”؛ وإيريك فروم الذي استفاد من فرويد ويونغ في مؤلفه”نظرية الجمال” وهو نفسه الذي عرفه القاريء العربي في أوائل السبعينات في كتابه ” فن الحب” وغيرهم كثير.

والسؤال ما هي الغاية من النظرية النقدية؟ في عراق يعرف هجمة شاملة تستهدف كينونته من نواح شاملة تثبت عقم السياسيين ومحدودية آفاقهم وخياناتهم، تأتي المقالات السياسية ذات البعد والمكررة، وفي نقد يكاد ينحصر في النقد الأدبي ومحدوديته ..تنبثق الضرورة الى نظرية نقدية ثورية تتناول بالنقد الشامل للتراث الديني الظلامي والتراث الثقافي والأدبي والشعري وتخليصه من الخرافات والأضاليل، وكذلك التاريخي لنحفر في الميتا تاريخ بدلا من التاريخ الذي كتبه الخلفاء والسلاطين المنتصرون على شعوبهم؛؛ من أجل فصل الدين عن الدول ومن أجل نظرية شاملة تستفيد من نظرية النقد التي أتينا على ذكرها والتي تحتاج الى عقول نيرة وشجاعة ومثقفة ومتحررة من سيطرة الأيديولوجيا لكي تباشر في أيجاد ثقافة بديلة للثقافة الاستهلاكية والرجعية الظلامية تهذف لتحرير الإنسان وبلا شك الطريق طويل.

ولا شك ان القاريء ينتظر أن اقول رأيا بالنقد الحالي، الذي كثيرا ما يكون قراءات تطبيقية لقصائد في الأغلب، وفي أحيان لقصص أو روايات..وبالتأكيد أن النص الجيد يخلق نقداً جيدا والأمر صحيح أن النقد الموضوعي العميق يخلق أدبا فالعلاقة جدلية مزدوجة التأثير، ورغم المجاملة ورغم أن النقد في الأعم يأتي بلغة مغرية منمقة تنحى منحى الحداثة إلا أنها قليلة الدسم ،، ولكن هناك نقدا لا يخلو من تعسف وينأى عن الموضوعية كل نأي: وقبل مدة وجيزة قرأت لروائي مرموق متابعة لنقد على رواية هي باكورة عمل أديب عرف شاعراً، وقد ذكرني هذا الناقد بسرير بروكروست فلم يُبق سيئة ومثلبة إلا وأتى عليها وبلغة حادة..ما دفع صاحب الرواية المنقودة أن يتناول الروائي بشخصه ولم يبق له

حسنة تذكر؛ فلئن تجنى الأول في نقد قاس فلم يفند الثاني النقد بالنقد بل شخّص الموضوع وجعل رده شخصيا لا نقديا،، وبالتأكيد هي حالة غير صحية لوضع في عمومه غير صحي! نحن بحاجة الى الإختلاف بل وبحاجة الى معارك أدبية تحرك الراكد في ساحتنا وتمدنا بسل التفكير وحسن التعبير فمن غاية النقد هو الجانب التنويري ألتربوي الذي سيخلق أدبا ونقدا يتسمان بالديناميكية لا بالجمود والتكرار..

رام كم هنغ 15/10 2014

* للاستزادة عن الظرية النقدية يمكن الرجوع الى

* en.wikipedia.org/wiki/Frankfortschool

* النظرية النقدية؛ د, جميل حمداوي على الالوكة

* مدرسة فرانكفورت؛لبوتومور، ترجمة سعد هجرس،طرابلس ليبيا2004

* دليل الناقد الادبي؛ سعد البازعي،وميحان الرويلي/المركز الثقافي العربي ،بيروت

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب