كانت قريتنا تبعد عن ناحية الشورة ما يقارب ستة أو سبعة كيلومترات، وكنا نسلك طريقًا زراعيًا يمر بمنطقة مرتفعة كنا نسميها ((المچفيات))، ولا أعرف حتى اليوم سبب هذه التسمية، هل هي كلمة عربية قديمة أم مصطلح شعبي؟ ثم نمر بعدها بقرية تُدعى المچمان، لنعبر من طريق ضيق جدًا بمحاذاة سكة القطار، حتى نصل إلى محطة القطار القائمة آنذاك في أطراف ناحية الشورة.
وكان منظر عربات القطار وهي متوقفة في تلك المحطة من المشاهد المألوفة لنا، بل المبهرة لعيون الصغار آنذاك، قبل أن يقودنا الطريق إلى قلب الناحية التي لم تكن سوى قرية كبيرة في سبعينات القرن الماضي، لا يتجاوز عدد بيوتها ثلاثمئة منزل تقريبًا.
كنت غالبًا ما أبقى هناك بسبب صلة القرابة من ناحية والدتي، وفي عصر كل يوم كنا نذهب مع أبناء الأقارب إلى دكان صغير يبيع الدوندرما، تلك المثلجات البسيطة الطيبة المذاق، والتي لم تكن موجودة في قريتنا. وأتذكر أن الكاسة الواحدة كانت بخمسة أو عشرة فلوس فقط.
وكان شباب ورجال الشورة يقضون أوقاتهم عصراً في اطراف الناحية في منطقة تُعرف بـ”العلو”، وهي منطقة أثرية يمر بجوارها وادٍ يُسمى عين الچرت.
والتي تقع قريبًا من المركز العام، ذلك المبنى الذي ظل قائمًا حتى سنوات قريبة. وقد شُيّد في العهد العثماني عندما كانت ناحية الشورة بمستوى إداري أعلى، إذ كانت تُعد قضاءً يربط بين عدة نواحٍ تمتد من الشرقاط جنوبًا حتى منطقة الحميدات شمالًا.”
هناك كانت التجمعات الشبابية تدبّ بالحياة، حيث يحمل كل واحد منهم مسجلًا صغيرًا يضع فيه شريط كاسيت لمطربه المفضل. كان المشهد غريبًا وجميلًا في آنٍ واحد: عشرات الشباب، وكل واحد يبث صوته الخاص من جهازه، فتتداخل الأصوات بين الغناء الريفي ومطربي البادية والمطربين الشعبيين.
أتذكر أن أحد أصدقائي كان يعشق أغاني المطرب الريفي فاهم الجميلي واغنية ((جيران نزلوا بالطرف يايمه احبهم ))، بينما كان آخر يفضل المطرب الشعبي أحمد الانضباط وأغانيه على المطبگ (( كل الهلا بالناهي الجاني ازعلان ))، أما أنا فكنت أستمع إليهم جميعًا وكأنني أتنقل بين إذاعات متعددة.
في تلك الفترة كان شبابنا يطيلون شعرهم بما يشبه موضة ويسمى “الخنافس”، ويرتدون البنطلون المعروف باسم چارلستون، وهو واسع جدًا من الأسفل. كانت تلك الموضات تمثل لنا نوعًا من الشعور بالتمدّن والتشبث بمظاهر الحضارة الأوروبية، وربما كانت مجرد نزوات شبابية، لكنها شكلت ملامح جيل كامل.
ورغم ذلك لم يكن سلوكنا يتجاوز حدود المعقول. لم نكن نعرف ما يعيشه شباب اليوم من صور خادشة أو محادثات غير لائقة عبر الهواتف. حتى مزاحنا كان بريئًا ومحكومًا بالحياء، وكلماتنا خالية من الألفاظ الجارحة. ملابسنا إما دشداشة بيضاء لا نعرف نوع قماشها، أو البنطلون الچارلستون ربما اشتراه لنا الأهل من البالة. كنا نلهو خارج المنازل حتى أذان المغرب، ثم نعود إلى بيوت أقاربنا حيث كنت أقيم ضيفًا.
وفي المساء، كانت العائلة تجلس مجتمعة تشاهد التلفزيون لان الناحية قد وصلتها الكهرباء، فنقضي الوقت أمام شاشة التلفزيون، نتابع أفلامًا مصرية لا نفهم لهجتها تمامًا، لكننا نستمتع بمشاهدتها وننتظر من يشرح لنا أحداثها…
التلفزيون بالنسبة لنا أبناء القرى كان حلمًا صعب المنال لغياب الكهرباء في قريتنا.
وحين تقترب الساعة من العاشرة مساءً كنا نسمع صوت هورن القطار. كان أهل الناحية يسمونه العبريّة، وهو قطار نقل مسافرين بين الموصل وبغداد. كنت أنظر إليه بانبهار، أتابع عرباته التي تحمل الركاب، وأشعر وكأنني أشاهد شيئًا من عالم آخر.
وفي إحدى زياراتي، رأيت مشهدًا لن أنساه: تجمع الأهالي أمام بيوتهم وهم ينظرون الى القطار في عز النهار ويلوّحون مودعين بعض الرجال من اهالي الناحية الذين كانوا يعملون في صيانة خطوط السكك الحديدية، وقد جاءهم أمر بالانتقال عبر القطار إلى محافظات الجنوب وتسمى ((عنقره)). كانت النساء يبكين بحرقة وهنّ يلوحن بأيديهن، وكأن الرجال ذاهبون إلى ساحات حرب لا يُعرف إن كانوا سيعودون منها.
كان معظم عمال السكك في تلك الفترة يملكون دراجات هوائية (بايسكلات) يستخدمونها في التنقل لاماكن عملهم…
كانت أغلب وظائف أهالي منطقتنا إما في الجيش أو الشرطة أو السكك الحديدية، وقسم آخر يعمل في حقول كبريت المشراق التي افتُتحت في منتصف السبعينات.
كنت أبقى عند أقاربي يومين أو ثلاثة، ثم أعود إلى قريتي سيرًا على الأقدام، أعتبر رحلتي تلك أشبه بسفر طويل يساوي اليوم رحلة إلى خارج العراق. هكذا كانت طفولتنا، وهكذا بدأ شبابنا. واليوم أنقلها لكم بقلمي لتبقى ذكرى يتعرف عليها أصدقاء الأمس ويطّلع عليها شباب اليوم، ليدركوا كيف كانت الحياة في زمن أبسط، لكنه مليء بالبراءة والجمال…