– 1 –
الذين يعرفون الحقيقة كثيرون لكنَّ الذين يملكون شجاعة قولها قليلون، أما المستفيدون من إخفاء الحقيقة، أولئك الذين يتاجرون بحقوق الناس ومصائرهم، فهم الأكثر سوءاً على الإطلاق.
– 2 –
ابتكار الأكاذيب وترويجها ظاهرة قديمة قدم الصراعات السياسية، لكن ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية اقترنت هذه الظاهرة باسم غوبلز وزير إعلام النازية بصفته المرجع الأعلى لصناعة الأكاذيب. وعباراته الأكثر تداولاً (كلما كانت الكذبة كبيرة كلما صدّقها الآخرون) أو (أكذب أكذب حتى يصدّقك الآخرون) تحولت إلى مبادىء اعتمدها معمل انتاج الأكاذيب الهتلري آنذاك ومَن آمن باساليب الدعاية النازية لاحقاً.
فلسفة الكذب ظاهرة تاريخية وُجدت بموازاة القسوة التي ميّزت الحروب الإنسانية، واستمرا، الكذب والقسوة، يعيدان انتاج نفسيهما في ظل غياب العدالة في السياسات الدولية. إن المقولة القديمة (الحرب خدعة) ما تزال مقبولة ومعمولاً بها، لكنها لا تدل على فطنة وذكاء بقدر ما تدل على ترسّخ الكذب والغدر في الثقافة الإنسانية! إن استمرار مقولة (الحرب خدعة) يدل بوضوح على إن ثقافة المجتمعات الحديثة ما زالت خاضعة لأسوأ مفاهيم الماضي، وإن الحداثة كظاهرة وكمفهوم في الغرب الديمقراطي، ليست نقيةً بما فيه الكفاية، بل هي حداثة تقنية وإدارية متقدمة أكثر من كونها تطوراً أخلاقياً وحقوقياً يُعتد به، فهي ما تزال ملوثة بشوائب الماضي الهمجي للإنسانية.
ما حدث أيام النازية هو تطوير عملي لفلسفة الكذب، وقد ساعدت ظروف المجتمع الألماني وأزماته آنذاك على إنجاحه. هدف هذه الفلسفة هو التغطية على الحقائق والمفاهيم التي لا تنسجم مع الأيديولوجيا النازية التي يُراد تكريسها من خلال إهمال الحقائق الأساسية للصراع، بموازة تكبير ظواهر معينة والمبالغة فيها وتكرارها باستمرار كي يُدمن عليها الجمهور، ليصبح من الممكن لاحقاً خلق مناخ ملائم لتمرير مزيد من الأكاذيب، فيصبح من الممكن تحويل المجرم إلى بطل حيث لا يعود من السهل اقناع الجمهور بأن الحقيقة هي عكس ذلك!
الأكثر خطورة في هذا الأسلوب هو إن أجيالاً لاحقة نشأت على منظومة أكاذيب لا تكاد تعرف سواها وخصوصاً في حقبة ما قبل الأنترنيت، ستعيش فترة من الضياع، لأن ما رافق كذب السلطة هو برنامج عام للتجهيل، تجهيل المواطنين بحقائق الصراع، وبتاريخهم القريب وشخصياتهم الوطنية والثقافية، هذا ما حدث في سوريا البعث منذ إنقلاب 1963 وخصوصاً بعد 1970 حيث هيمن حافظ الأسد على السلطة في انقلاب سُمّي بالحركة التصحيحية. في مطلع التسعينات، حيث كنتُ أعيش بدمشق، أجرى التلفزيون الرسمي استطلاعاً عن مستوى الثقافة العامة لدى طلبة الجامعة فكان الاستفتاء فضيحة أثارت الرأي العام السوري وقتها، إذ أبدى الطلبة جهلاً غريباً بالظواهر التي سؤلوا عنها، وبضمنها اعتقادهم بأن نزار قباني وغادة السمان كاتبان لبنانيان! وحين سألتُ أصدقائي من المثقفين السوريين عن هذه المفارقة، أجابني الجميع تقريباً: هذا هو جيل الحركة التصحيحية! جيل التلقين السلطوي الذي يبدأ من الطفولة عبر (منظمة الطلائع).
وهذا ما حدث أيضاً في عراق البعث 1963 – 2003 وتم تتويج ذلك خلال ديكتاتورية صدام حسين حيث حلّتْ أكاذيب السلطة عن (القائد الضرورة) محل حقائق التاريخ، ولكي تستمر حفلة إغتصاب الحقيقة هذه، كانت فلسفة (مديرية الأمن العامة) هي (إذا لم نجعل من كل مواطن شرطياً سنحتاج إلى شرطي على رأس كل مواطن)! فتصوروا أية ثقافة ممكن أن تزدهر في ظل أوضاع كهذه؟!
إنها عملية مبرمجة لإخلاء الساحة أمام أكاذيب السلطة حيث تم تتويج بلطجي عديم الضمير كصدام حسين ليصبح (بطلاً قومياً) وليقود العراق من كارثة إلى كارثة إلى أن اشتعلت المنطقة حروباً فأزدهرت تجارة الأسلحة والأكاذيب الأمريكية بدورها فتم احتلال العراق لـ(تحرير شعبه من الديكتاتورية) فكانت النتيجة هي المأساة التي نراها الآن!
إن هويّة الديكتاتور ليست طائفته ولا حزبه بل هي السلطة ذاتها، لأن وجوده يقترن بوجودها، وللبقاء في السلطة فهو مستعد لإعادة تأليف التاريخ القديم والحديث على ضوء مصالحه، بل مستعد لتصفية أهم شخصيات حزبه أو طائفته إن اقتضى الأمر. هذا ما فعله حافظ الأسد والشواهد معروفة بدءاً من صلاح جديد وجماعته وليس انتهاءً بغازي كنعان، ومع كوابيس مجازر محافظة حماة الشهيرة، بقيت غالبية الطائفة العلوية، إسوة بغالبية السوريين، تعاني من الفقر والحرمان في بلاد تعيش تحت سلطة الطواريء وكأنها مصابة بتراخوما سياسية حيث عاش الجميع في حالة ضياع، ولأن المجتمع غير قادر على تحمل المهانة إلى مالانهاية انفجرت الثورة الشعبية في 2011، ثورة من أجل الكرامة لكنها ماتزال تصارع الأكاذيب لحد الآن، أكاذيب السلطة وأكاذيب المجتمع الدولي!!
وكذلك في عراق البعث حيث قام صدام حسين بتصفية مبرمجة للمجتمع السياسي وكل من اعتبره منافساً مُحتملاً، بمن فيهم قيادات حزب البعث بدءاً بعبد الكريم الشيخلي مروراً بحردان التكريتي وعبد الخالق السامرائي وليس انتهاءً بمجزرة جماعة محمد عايش الشهيرة 1979، وهؤلاء جميعاً من طائفته وحزبه!
فإين تقع طائفية صدام أو الأسد إذن؟ الطائفية في الواقع هي أخطر أكاذيب الديكتاتور، لأنها تورّط الطوائف بعضها بالبعض الآخر بينما يصبح هو متفرجاً على هذا المقلب التاريخي الذي تعانيه شعوبنا الآن، ولأن فرجة من هذا النوع لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، ها نحن نرى كيف تنهار دول على رأس الديكتاتور وضحاياه معاً! إن التفسير الطائفي للصراعات السياسية والاجتماعية هو في الواقع خضوع لأكاذيب السلطة التي تعيش على تمويه حقائق الصراع، وأول الحقائق إن هناك ظلماً يتجسد بالتوزيع غير العادل للسلطة والثروة. والحزب الحاكم يتكون في البداية من جميع الطوائف والقوميات، وبعد استلام السلطة يحدث الصراع المحتوم داخله، فتنفرد فئة منه بالسلطة حيث يبزغ نجم الديكتاتور مُتقنّعاً بقناع طائفي أو قومي كبديل عن غياب شرعيته وليستقطب فئة من المجتمع لدعم سلطته!
إنه مآل الأحزاب الإيديولوجية الإنقلابية، قومية كانت أم يسارية أم دينية، فجميع هذه الأحزاب تنظر للدولة بصفتها غنيمة، وليست طرفاً محايداً بين المواطنين كما هو حال الدولة في الأنظمة الديمقراطية، لذلك نجدها –أي هذه الأحزاب- في صراع دائم على السلطة. السلطة هي الهدف وليس تحقيق العدالة كما تدعي. السلطة هي أداتها للهيمنة على الدولة والسيطرة على المجتمع حيث يصبح الكذب الإعلامي والسياسي عملاً رسمياً منتظماً كأحد أدوات الهيمنة وتعويضاً عن غياب الشرعية.
الديكتاتور لا يصنع نفسه بنفسه بل يصنعه نسق ثقافي منحط، وهذا النسق هو معطى تاريخي سابق على ولادة الديكتاتور، وتتجلى صفات هذا النسق في التضليل Demagogism والتعسف Dogmatism التي تمتاز بها برامج الأحزاب الانقلابية.
إن أخطر غرائز الإنسان هي غريزة السيطرة على الآخرين، لأنها غريزة تدميرية. إن السيطرة على المجتمع وإخضاعه لسلطة غامضة هي سلطة الأجهزة، هي التي قادت ألمانيا إلى الهلاك. فهذه الغريزة تستيقظ في دواخل الإنسان عندما يصاب بعمى العقل، أي عندما يكون عاجزاً عن حل الأزمات التي تواجهه بالطرق الواقعية. وهذا النوع من العجز ليس عجزاً عضوياً أو ثقافياً، بل هو عجز أخلاقي ونفسي مركب تساهم في خلقه ضروف الصراع التناحري داخل المجتمع السياسي نفسه، وذلك عندما تغيب الديمقراطية ويصبح الصراع مسألة حياة أو موت!
إنه عجز عن فهم حقائق الحياة ومعادلات الصراع يخلق بطبيعته أفقاً مسدوداً لدى المسؤول أو الحزب المعني، وهو ناتج بالضرورة عن رفض الإقرار بحقوق المواطنين المدنية والسياسية، أي حرمان المجتمع من حرياته وتعدديتة وحق الإختلاف وحرية التعبير حيث يُعتبر الحديث عن مثل هذه الأمور في ظل الحكومات النازية والديكتاتورية جرائم تهدد أمن الدولة، لأنها فعلاً تُهدد مستقبل الديكتاتور!
هذه الغريزة الهوجاء هي التي ستوجّه أجهزة النظام لكي تسيطر على المجتمع ككل، ولأن الديكتاتور عاجز عن فهم إستحالة السيطرة على المجتمع بالأجهزة الأمنية، سيزداد قلقه باستمرار ما يدفعه لتوسيع صلاحيات هذه الأجهزة إلى أن تصبح خطراً على الديكتاتور نفسه! وحين يشعر بذلك يصبح أسير الخوف من أجهزته لذلك يعمد على تغيير مسؤوليها بين وقت وآخر، وهذا ما نسميه سوء استخدام العقل، أي تحويل السلطة إلى ورطة للحاكم والمحكوم! وفي هذا الخضم تتحول الدولة نفسها إلى معمل لإنتاج القهر والرعب والأكاذيب!
إن استمرار الكذب لن يؤدي إلّا إلى توسيع الفجوة بين الطرفين. ولكن ما لم يفهمه المستبدّون، تلامذة غوبلز عندنا، هو إن ترويج الأكاذيب بطريقة يسهل تقبلها أو تصديقها من قبل جمهور معين، لا يأتي اعتباطا، ولا يصح في كل زمان ومكان. فقد نجحت أكاذيب غوبلز لأن المجتمع الألماني كان يعيش أزمة وجدانية وسياسية كبيرة جراء هزيمة الإمبراطورية الألمانية في الحرب العالمية الأولى 1914-18 حيث فرض الحلفاء المنتصرون على ألمانيا توقيع معاهدة فرساي 1919 ما فرض على ألمانيا تعويض الأطراف المتضرّرة مالياً بمبالغ كبيرة أنهكت الاقتصاد الألماني، وإلى جانب القيود العسكرية في المعاهدة خسرت ألمانيا أراضٍ ومستعمرات، ما أدى إلى جرح وجداني جماعي عند الألمان.
وجراء ذلك، كان الألمان بحاجة لحكومة (قويّة) تنقذهم، وهذا ما عزز تحالف القوى المحافظة واليمينية في انتخابات 1932 ليصبح هتلر مستشاراً في العام اللاحق حيث وعد الألمان بنهضة قومية شاملة. لقد استطاع النازيون توجيه العلوم والصناعات والقوى العاملة وجهةً حربية والمباشَرة بعسكرة المجتمع للخلاص من الشعور بالهزيمة مع مزيد من الأناشيد والدعاية التي ركّزت على التفوق المزعوم للعنصر الجرماني وعلى شخصية الفوهرر باعتباره منقذاً، إذ بشّرهم بأن ألمانيا ستحكم العالم خلال الأف سنة القادمة. لقد كان الرأي العام الألماني المجروح بحاجة لمثل هذه الأوهام لذلك صدّقوا أكاذيب هتلر وغوبلز التي قادتهم إلى الهزيمة ثانيةً!
هذه العوامل والظروف هي التي خلقت استعداداً واسعاً لتقبل أكاذيب النازية، وليست قوة الأكاذيب بذاتها، والدليل هو عدم إمكانية ظهور هتلر جديد في ألمانيا الحالية، لأن الألمان ليسوا بحاجة لهذا النوع من مجانين العظمة، أما (النازيون الجدد) فهم موجودون الآن ولكن لا أحد يصدق أكاذيبهم، فالأكاذيب لا تملك سحراً خاصاً بذاتها، والجمهور لا يتقبلها في كل الظروف والأحوال، على عكس ما يتصوره البعض عندنا ممن تحوّلَت أكاذيبه إلى مجرد فجاجة إعلامية مثيرة للسخرية. إن الكذب الرسمي يُسقط هيبة السلطة قبل سقوطها السياسي، إذ تسقط أقنعة الزعيم ومريديه كمقدمة لسقوط سلطته.
[email protected]