23 ديسمبر، 2024 10:14 ص

سألتني ابنتي، عقب التحاقها بدراستها الجامعية في بيروت، في أول اتصال هاتفي لها، إن كنا سنةً أم “شيوعية”، لتجيب أقرانها الذين كانوا يستفسرون منها عن انتمائها. لم تدرك، بداية، أنهم يسألون عن مذهبها الفقهي، إن صح التعبير، فقد نشأت في بيئة لا تعرف سوى إسلام واحد، ومثلي، لم تعرف أن هنالك انقساما مذهبيا يسترجع الذين يغذّونه وقائع حدثت قبل أربعة عشر قرناً.

ما عرفته عن المذاهب، في طفولتي، لا يعدو كون أبي حنفياً، وأمي على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. لمست الفارق نتيجة استغراق أمي في سنن وقتاً أطول من أبي. تعلمت في مدارس الأردن ومصر والكويت، وكانت صفوف التاريخ ودروس الدين منحازة للإمام علي في مواجهته معاوية، وحسبت أن الصراع بين “شيعة” علي و”جمهور” معاوية من دروس تاريخ انقضى. وفي عاشوراء، كانت أمي تطهو لنا طعاما تسميه عاشوراء، من القمح، اكتشفت، لاحقاً، أن أهلنا في الجنوب اللبناني يعدون ما يشبهه في المناسبة، وتقضي يومها في الصلاة والدعاء لسيدنا الحسين وآل البيت.
في الجنوب اللبناني، احتضننا أبناؤه “الشيعة” في مواجهة العدو الصهيوني، وتقاسمنا معهم الخبز والشهادة، ولما كنا نصلي خلف السيد عبد الرؤوف فضل الله في عيناتا وبنت جبيل، أو الشيخ راغب حرب في جبشيت، لم يسألنا أحد يوماً لماذا نضع أيدينا حول وسطنا ولا نرسلهما، كنا في بيوتنا وبين أهلنا وإخوتنا.
وعندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، تعامل معها الجمهور العريض على أنها انتصار ضد الظلم والاستبداد. ثم لم تثر الحرب العراقية الإيرانية أي مشاعر مذهبية، ولم تهب إثرها أي رياح طائفية نتنة. كان الحديث عن حرب عراقية إيرانية، وإن اعتبرها غلاةٌ بين العرب والمجوس. وفي الغالب، لم يكن لمواقف الجماعات المختلفة منها أي علاقة بانتماءاتهم الطائفية، بل كانت نابعة من الرؤية والتحالفات السياسية. وعندما قصف مقاتلو حركة أمل مخيمات بيروت وحاصروها، بدعم من اللواء السادس في الجيش اللبناني، وبتعليمات من غازي كنعان ورستم غزالة، كان عماد مغنية، وأفراد من حزب الله، يزودون علي أبو طوق في مخيم شاتيلا بأسلحة وذخائر ومواد تموينية وطبية، ويسهلون الدخول والخروج من المخيم، ما أمكنهم ذلك.
إذن، من أين هبت ريح السموم، وحولت الخلاف على المصالح والسياسات إلى ممارسات طائفية بغيضة. كيف يمكن أن نبرر تفجير مساجد الشيعة، وتفتيت النسيج الاجتماعي الوطني في مجتمعاتنا، وهل يمكن التمييز بين دعوات وفتاوي تكفير الشيعة وتفجير داعش المساجد، ألا تمهد هذه لتلك؟ وهل يكفي أن يستنكر علماء وفقهاء تفجير المساجد، باعتباره قتلا للأبرياء أو عبثاً بالأمن، أم الأساس تحريم تكفير المسلم.
في الجانب الثاني، لا يقل الأمر قتامة، إذ تحاول قوى، تحترف الاستبداد والإقصاء المذهبي، تجييش المشاعر الطائفية عند إخوتنا “الشيعة”، ونبش التاريخ، وتصوير الأمر وكأننا اليوم نعيش كربلاء، بإعادة إنتاج رموز دينية، ورفع شعارات مثل “يا لثارات الحسين”، والتشكيك ببعض الصحابة، وكأننا اليوم قرب سقيفة بني ساعدة في المدينة، أو نقارع بالسيف في صفين وكربلاء، بحيث يتخيل “الشيعي” أن أخاه “السني” أحد جنود يزيد في معركةٍ تدور اليوم، وأن ثأر سيدنا الحسين، والانتقام لـ “ضلع فاطمة”، هو ما تتم تعبئة الحشد الشعبي لتهيئتة للمعارك التي تشهدها الساحات العربية.
وبينما يتحدث الطرفان عن محاربتهما داعش، ونبذهما الاتجاهات التكفيرية، فإن ما يجري لا يصب في هذا الاتجاه، بقدر ما يضع الحب في طاحونة داعش. إذ لا يستقيم الوضع ضمن الاتجاهات المتزايدة في التحريض على إخوتنا “الشيعة”، وتكفيرهم أحياناً. فهذا هو الأساس الذي يستند إليه دعاة تفجير المساجد، ولا يستقيم الأمر باستحضار معارك الماضي، واعتبار “السنة” اليوم وكأنهم جيش يزيد أو أنصار داعش، وسط تشكيك بعدالة الصحابة. ولا يجوز استخدام الموروث الديني والتاريخي لدعم الاستبداد ورعاية الفساد ونصرة الديكتاتوريات من هذا الطرف أو ذاك، واستغلال عواطف الجماهير، لتحقيق أغراض دنيوية، على حساب مبادئ ديننا الحنيف.
الأهم إعادة تحديد العدو الرئيس لأمتنا، ونبذ الانقسام والتجييش الطائفي والمذهبي، والتمسك بالوحدة، ورفض الاستبداد والفساد والإقصاء، والتفرغ لمقاومة العدو الصهيوني. حينها يصبح شعارنا يا لثارات فلسطين وقانا وبحر البقر، وهو الاتجاه الذي يوحد جهود كل الأمة، ويصلح دينها ودنياها.

سني وشيعي
سألتني ابنتي، عقب التحاقها بدراستها الجامعية في بيروت، في أول اتصال هاتفي لها، إن كنا سنةً أم “شيوعية”، لتجيب أقرانها الذين كانوا يستفسرون منها عن انتمائها. لم تدرك، بداية، أنهم يسألون عن مذهبها الفقهي، إن صح التعبير، فقد نشأت في بيئة لا تعرف سوى إسلام واحد، ومثلي، لم تعرف أن هنالك انقساما مذهبيا يسترجع الذين يغذّونه وقائع حدثت قبل أربعة عشر قرناً.

ما عرفته عن المذاهب، في طفولتي، لا يعدو كون أبي حنفياً، وأمي على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. لمست الفارق نتيجة استغراق أمي في سنن وقتاً أطول من أبي. تعلمت في مدارس الأردن ومصر والكويت، وكانت صفوف التاريخ ودروس الدين منحازة للإمام علي في مواجهته معاوية، وحسبت أن الصراع بين “شيعة” علي و”جمهور” معاوية من دروس تاريخ انقضى. وفي عاشوراء، كانت أمي تطهو لنا طعاما تسميه عاشوراء، من القمح، اكتشفت، لاحقاً، أن أهلنا في الجنوب اللبناني يعدون ما يشبهه في المناسبة، وتقضي يومها في الصلاة والدعاء لسيدنا الحسين وآل البيت.
في الجنوب اللبناني، احتضننا أبناؤه “الشيعة” في مواجهة العدو الصهيوني، وتقاسمنا معهم الخبز والشهادة، ولما كنا نصلي خلف السيد عبد الرؤوف فضل الله في عيناتا وبنت جبيل، أو الشيخ راغب حرب في جبشيت، لم يسألنا أحد يوماً لماذا نضع أيدينا حول وسطنا ولا نرسلهما، كنا في بيوتنا وبين أهلنا وإخوتنا.
وعندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، تعامل معها الجمهور العريض على أنها انتصار ضد الظلم والاستبداد. ثم لم تثر الحرب العراقية الإيرانية أي مشاعر مذهبية، ولم تهب إثرها أي رياح طائفية نتنة. كان الحديث عن حرب عراقية إيرانية، وإن اعتبرها غلاةٌ بين العرب والمجوس. وفي الغالب، لم يكن لمواقف الجماعات المختلفة منها أي علاقة بانتماءاتهم الطائفية، بل كانت نابعة من الرؤية والتحالفات السياسية. وعندما قصف مقاتلو حركة أمل مخيمات بيروت وحاصروها، بدعم من اللواء السادس في الجيش اللبناني، وبتعليمات من غازي كنعان ورستم غزالة، كان عماد مغنية، وأفراد من حزب الله، يزودون علي أبو طوق في مخيم شاتيلا بأسلحة وذخائر ومواد تموينية وطبية، ويسهلون الدخول والخروج من المخيم، ما أمكنهم ذلك.
إذن، من أين هبت ريح السموم، وحولت الخلاف على المصالح والسياسات إلى ممارسات طائفية بغيضة. كيف يمكن أن نبرر تفجير مساجد الشيعة، وتفتيت النسيج الاجتماعي الوطني في مجتمعاتنا، وهل يمكن التمييز بين دعوات وفتاوي تكفير الشيعة وتفجير داعش المساجد، ألا تمهد هذه لتلك؟ وهل يكفي أن يستنكر علماء وفقهاء تفجير المساجد، باعتباره قتلا للأبرياء أو عبثاً بالأمن، أم الأساس تحريم تكفير المسلم.
في الجانب الثاني، لا يقل الأمر قتامة، إذ تحاول قوى، تحترف الاستبداد والإقصاء المذهبي، تجييش المشاعر الطائفية عند إخوتنا “الشيعة”، ونبش التاريخ، وتصوير الأمر وكأننا اليوم نعيش كربلاء، بإعادة إنتاج رموز دينية، ورفع شعارات مثل “يا لثارات الحسين”، والتشكيك ببعض الصحابة، وكأننا اليوم قرب سقيفة بني ساعدة في المدينة، أو نقارع بالسيف في صفين وكربلاء، بحيث يتخيل “الشيعي” أن أخاه “السني” أحد جنود يزيد في معركةٍ تدور اليوم، وأن ثأر سيدنا الحسين، والانتقام لـ “ضلع فاطمة”، هو ما تتم تعبئة الحشد الشعبي لتهيئتة للمعارك التي تشهدها الساحات العربية.
وبينما يتحدث الطرفان عن محاربتهما داعش، ونبذهما الاتجاهات التكفيرية، فإن ما يجري لا يصب في هذا الاتجاه، بقدر ما يضع الحب في طاحونة داعش. إذ لا يستقيم الوضع ضمن الاتجاهات المتزايدة في التحريض على إخوتنا “الشيعة”، وتكفيرهم أحياناً. فهذا هو الأساس الذي يستند إليه دعاة تفجير المساجد، ولا يستقيم الأمر باستحضار معارك الماضي، واعتبار “السنة” اليوم وكأنهم جيش يزيد أو أنصار داعش، وسط تشكيك بعدالة الصحابة. ولا يجوز استخدام الموروث الديني والتاريخي لدعم الاستبداد ورعاية الفساد ونصرة الديكتاتوريات من هذا الطرف أو ذاك، واستغلال عواطف الجماهير، لتحقيق أغراض دنيوية، على حساب مبادئ ديننا الحنيف.
الأهم إعادة تحديد العدو الرئيس لأمتنا، ونبذ الانقسام والتجييش الطائفي والمذهبي، والتمسك بالوحدة، ورفض الاستبداد والفساد والإقصاء، والتفرغ لمقاومة العدو الصهيوني. حينها يصبح شعارنا يا لثارات فلسطين وقانا وبحر البقر، وهو الاتجاه الذي يوحد جهود كل الأمة، ويصلح دينها ودنياها.