منذ القدم والشرق يعيش معضلة سياسية تتمثل في تبني مبدأ ( الارض لا تسع كلينا) بين من في السلطة ومن خارجها , وتسبب هذا العقم الفكري في سفك الكثير من الدماء منذ فجر التاريخ ولغاية يومنا هذا . ورغم الفارق الثقافي بين ما نعيشه الان وبين ما كان يعيشه اجدادنا في الازمنة الغابرة , الا ان حكومات المنطقة لم تستطع التخلص من هذا الارث المتخلف بل استمرت سائرة عليه , رغم ان هذا المبدأ كان من الاسباب التي ادت الى عدم الاستقرار السياسي الذي شهدته وتشهده المنطقة , فلم يدع أي طرف يهنأ بما لديه ( لا الغالب ولا المغلوب) , لا الحاكم ولا المحكوم , فالكل خاسرون .. . يمكن ان قدر المنطقة هذه ان تعيش وسط انهار الدم القاني باستمرار …… .
وسط هذا البؤس الحضاري الثقافي الذي نعانيه ينبري اقليم كوردستان ليعبر عن نموذج مشرق يبشر بولادة ثقافة جديدة في المنطقة .. ويتبنى مبدأ جديدا مفاده ( ان الارض تسعنا جميعا) سواء في تعامله مع المشاكل الداخلية او ما يتعلق بالمشاكل خارج الاقليم .
فمن يطلع على تفاصيل الحوار الذي جرى هاتفيا بين السيد مسعود البارزاني ورئيس وزراء تركيا داوود اوغلو عقب بدا الغارات الجوية على مواقع حزب العمال الكوردستاني , سيكتشف انه امام عقلية جديدة على المنطقة , وتتجسد امامه اسباب استقرار كوردستان سياسيا وامنيا , والنجاحات التي حققتها خلال هذه السنين . فقد اكد البارزاني خلال هذه المحادثة على ان الحوار هو الطريق الانجع لحل المشاكل بعيدا عن جعجعة السلاح , واكد لاوغلو بان ( سنوات من التفاوض افضل من ساعة قتال واحدة ) .
هذا المفهوم السلمي الواضح في التعامل السياسي قلما نشهده في منطقة تعود الساسة فيه على تبني مواقف ارتجالية مستندة على مبدأ الفعل ورد الفعل البعيدين عن الحكمة . ولذلك فعندما يقود هكذا فكر مسالم وحكيم شعبا عاشقا للحرية والازدهار تكون نتيجته ما نراه في اقليم كوردستان من الق في كل شيء .
فرغم العواطف المتاججة التي اجتاحت الشارع الكوردي ازاء التجاوزات التركية , ورغم ضغوطات بعض الاحزاب الكوردية الغير ناضجة التي دعت حكومة الاقليم الى اتخاذ اجرائات عملية حيال هذا القصف التركي , فان تعاطي حكومة الاقليم مع الازمة انطلق من احساسه العالي بالمسئولية تجاه مصالح الشعب , وتقييم الاولويات القومية بشكلها الصحيح , دون الانجرار لردود افعال غير محسومة العواقب . لذلك فقد قوبل هذا الموقف الحكيم من قبل السيد مسعود البارزاني بالكثير من التقدير والاحترام من الدول الغربية , ما دعى الاتحاد الاوروبي للمطالبة من سيادته التوسط لوقف اطلاق النار بين الطرفين , ولولا هذا الموقف لتسببت دعوات هذه الاحزاب في ارتكاب الاقليم لخطا سياسي قاتل يطيح بكل المكتسبات الكوردية طوال هذه العقود .
ان السبب الذي اعلنه حزب العمال الكوردستاني لانهاء عملية السلام من طرفه كان لتورط بعض المؤسسات الامنية التركية في التفجير الانتحاري الذي نفذه عنصر من داعش في بلدة
سروجي الكوردية جنوب تركيا , ولتنصل اردوغان عن تعهداته حيال عملية السلام بين الطرفين . ولكن .. ان كانت هذه الاتهامات صحيحة ( وهي صحيحة) افلم يكن الاجدى بحزب العمال الكوردستاني ان يستوعب هذه الاستفزازات ويمتصها لسحب البساط من تحت ارجل اردوغان ومنعه من استغلالها في ضرب حزب العمال كما يفعل الان ؟ واذا كان حزب العمال الكوردستاني يعي هذه الحقيقية فلماذا اوقع نفسه في هذا المطب الذي عرف مسبقا انه يصب في مصلحة الحكومة التركية ؟
ان من اهم اسس الاداء السياسي الناجح هو ان لا تكون لحظية وفي نفس الوقت مراعية للاولويات . وفي الحقيقة فان هتين النقطتين افتقدهما حزب العمال الكوردستاني في الازمة الاخيرة هذه , فاضاع من خلالها الكثير من الجهد الذي صرفه في تنصيع صورته دوليا طوال العامين الماضيين . لذلك فنتمنى ان لا يقع حزب الاتحاد الديمقراطي السوري ( الكوردي) اوحزب الشعوب الديمقراطي التركي ( الكوردي) بدورهما بنفس الخطا الذي وقع فيه حزب العمال ويحافطوا على سياسة ضبط النفس مهما كانت الاستفزازات التركية لهما .
ان كنا نبرر موقف حزب العمال الكوردستاني الغير مدروس (لاسباب معينة) , فاننا لا نرى أي مبرر للموقف المتشنج لبعض الاحزاب الكوردية في اقليم كوردستان من هذه الازمة , والتي طالبت فيه حكومة الاقليم باتخاذ موقف حازم من الاجراء التركي … فاذا اخذنا موقفهم هذا من زاوية حسن النية ( وهذا ما نستبعده .. فقد كان الغرض منه احراج السيد مسعود البارزاني وحزبه) , فان هذه الدعوات هي ابعد ما تكون عن الحكمة السياسية في قراءة الاحداث وتقيمها , فالاداء السياسي للاحزاب يجب ان يختلف عن الرؤية السياسية للشارع , واضعا نصب عينيه المصالح العليا للمواطن في تخفيف اندفاعه العاطفي , لا ان يكون متهورا مستعدا للتضحية بكل ما كسبه خلال عقود في طيش مؤقت يدفعه اليه عاطفته المجردة …
واخيرا نتسائل …هل يمكن ان نضع مستقبل اقليم كوردستان في يد هكذا احزاب لا تمتلك رؤية سياسية ناضحة ؟هذا السؤال اتمنى ان يجاوب عليه المواطن الكوردي .