تتهامس الاسارير وتستبشر الاعضاء حين تعود ذاكرتي فرحة تقلب صفحات من سنوات العمر الهاربة اتجاه الاعماق ، تتسع مساحات الابتسام و السعادة وتخطو ذاكرتي نحو ايام العز والخير فيتجمد الاحساس فوق وسادة الزمن النائم في احضان الماضي وهو ينظر اعجابا ويفرد اصابعه معي ليعد دقائق ايام نابضة بالحب والخير والعرى الثقيلة التي مسحت من عصر الانهيار المصبوغ بلون مساكنيه وطباعهم المتقلبة، فيحمر تارة نحو الدم ويصفر اخرى نحو زعاف السم ، اقتضب سفري في النزول حين لمحت مخيلتي صفحة عند قاع الذكريات معلمة بخصوصية مفرطة اثارت الحفيظة في جميع مكونات عقلي المنغلق عليها بحرص شديد في زاوية خاصة من زوايا هذا السجل العملاق ، تغطي فترة خضراء من عمر تخطى ركام الستين ، توقف الزمن عندها باحترام وصمت في محراب استهلال العمر، صفحة بيضاء نقية من شروطه وهذاره المقيت ، استثار ذاكرتي حماس مخضر بالنشاط و حيوية التحليق بدقائقها من جديد بعيون مفتوحة انبهارا وبحثا في صفحاتها المشرقة عن ومضة من سعادة هنا وهناك و نكزتني واحدة بوقاحة…!
ترتدي دوما مدينتي سماء زرقاء تعاند صفحة الفرات الصافية الطافحة بالخير، لوحة متخمة بالوان زاهية تحاكي الطبيعة جمالا ، تتراقص صفوف النخيل عليها وكأنها مغروسة فوق وجه الماء المزجج ، انعكاس حي لجمال نشط مشرئب الاعناق بريشة رسام بارع لا زال يضع اللمسات الاخيرة من الوان الطبيعة الضاحكة والمثقلة بالبهجة حين يخلطها ببراعة والفرح والسعادة و الانبهار معا ليسرق العقول بلون اسطوري جذاب يؤطر تلك اللوحة السرمدية ، يهرع ابناء المحلة ليحتل كل مكانه منها اي مساء وبتحرك كورنيش الفرات الرطب كرطوبة الرطب البرحي وحلاوة الكنطار الجنوبي مع امل مؤكد بصيد وفير من سمك طازج ، بني وكطان وشبوط تتطلع اليه مواقيد النار المنتظرة صبرا وتوقا في بيوت الاهل السعيدة ، عشاءا يطرد الشر والهم والكرب وتعب الكفاح اليومي ويبهج الاسارير تحت نسمات الغروب المتجه نحو الليل المضيء ببشارات اللذة الذائبة في الافواه المحملة بالانغام و الشعر وعسل الكلام ومذاق الطعام اللذيذ فوق مائدة الله…!!
ارادها الله قلوبا عامرة بالحب فهو يشاركها البهجة بكرمه اللامحدود حين يقذف الرزق نحوها بشكل عفوي غير محسوب من صنارة او شبك صيد او ثمر نخلة او حقل بعيدا عن السواد في الكسب ، قوت يوم يكفي ويزيد حين كانت القناعة فينا كنزا لا يفنى ولا ينضب ، وتقبل الكفوف وجها وقفا ، اخطو نحو السابعة في طرق الخمسينات ، وانا ارافق اخي الكبير احمل صنارة الصيد وسلة من خوص نخلة منزلنا الباسقة وهي لا تزال شامخة ، فسائلها ورثت بستانا عامرا بالبواسق يظلل محلتنا حد الساعة ، اضع فيها صيد رزقنا المنتظر والمؤكد بطيبة النفس وصفاء السريرة ، نأخذ مكانا منزويا فوق لوحة الفرات العامرة بالحركة المعطرة بعبق الرزق الزكي ومتعة الصيد الحلال بين نسمات المساء الفراتية الهادئة حين تتعشق مع الصدور النظيفة والمترعة بالحب تحت ضوء القمر، يقال والعهدة على الراوي ، ان السمك يعشق ضوء القمر فيتكاتف في بقع الضوء الفضية ويسهل صيده في الايام المقمرة وخصوصا وقت العشاء وفي الساعات الاولى من الليل,,,!؟ وتهز السمكة الاولى صنارتنا وتهتز معها قلوبنا فرحا وغبطة ، طفلة سمك ، صغيرة الحجم لا تتحمل نار الشواء ولا تسد رمق ، افلتها من الصنارة واقذفها في النهر تحت ضحكات محملة بالسعادة والرجاء بصيد جديد ، وتأتي الاخرى بعد دقائق وكأننا ننتقي صيدنا من حوض جاهز مليء بالسمك ، هذه المرة كبيرة تغطي العشاء لعائلتنا وحصة الجيران وتفيض عنها ويحضر الرضى الموقف ونتجه نحو المنزل بقناعة الغنى ونحن نعوم بموجات من الفرح والغبطة…!؟
وتبدأ رحلة امي وتنورها ، الشخصية الطينية الشامخة بكبرياء في زاوية خاصة من ساحة البيت الوسطى ، منصب مرموق ومكانة راقية تحسده عليها جميع قطع الاثاث في البيت وتنظر اليه بعين الغضب والغيرة ، وتبدأ رائحة الخبز والشواء وعبق الرزق وصوت غناء التنور مع صفق الارغفة بين يديها الخيرتين وكأنها تصفق فرحا لهدف مدريدي ….!؟ ويتناغم مرأى دخان الشاي ورائحه خدره الجسرة في ساحة البيت المفتوحة مباشرة نحو السماء الصافية ، يبدا العشاء في هذا المشهد البهي تحت ضوء الفانوس والقمر والنجوم التي نعدها انا واخوتي بعد العشاء مباشرة ، ايهما يعد اكثر نجوما هو الفائز ، وتستمر تلك اللعبة حتى يغفو اخر طفل فينا ، تحمله امي نحو فراشه في جو عذري هادئ رطب خال من دخان العجلات واصوات المراوح واجهزة التبريد ، حياة هانئة مختزلة مبسطة بحب الله والناس ، تملأها العفوية والصدق والبراءة والعلائق الراقية…..وشتان ما بين الامس واليوم….!؟