للتأريخ أهميةٌ في صناعة الانسان وعلامةٌ فارقةٌ في تحديد مصير الشعوب ورسم ملامح الخط البياني في بنائها الحضاري ؛ إذ هو إما ماضٍ مشرقٌ سطّرت أمجادَهُ مواقفُ الانسانيةِ هناك , أو تحللٌ من قيمِ التحضرِ ملأ صحفًا من الظلمِ والجهل كبَّلت عقولَ التحررِ بأصفاد العنجهيّةِ وحبِّ الدنيا .
ولئن كانت حتميّةُ هذا التأريخ بشقّيهِ المشرقِ والمظلمِ ألقتْ بضِلالها على مستوى تفكيرنا شئنا أم أبينا دونما إرادةٍ منا سلبًا أو إيجابًا، إلاّ أنّ هناك تأريخٌ _ نسبناه إلى التأريخ _ رسمنا حروفَه ونسجنا خيوطَه الطللية بين متاهات الفكر السوداوي المتشائم ، فكرٌ اتكالي ما أنزل اللهُ به من سلطان ، تخللَ إلى ذهنياتنا عبر عقيدةٍ فاسدةٍ تبريريةٍ متوارثَة ،أشلّت شطرًا معتدًّا به من مشاريع الإصلاح في مسيرتنا الانسانية تلك هي بمفهومها ( سنن التأريخ ) .
فكلُّ ما يحيطُ بنا من أحداثٍ صراعاتٍ وتحديات ، وما ينتابنا من جورٍ واضطهاد وما نصنعهُ بأيدينا من خنوعٍ وتخلف هو من سننِ التأريخ ، مكتوبٌ علينا أن نُضطَهد أن نُصفَى أن نجوعَ ونعرى وليس لك أو بمقدورك أن تُغيِّر وهذه سنّةُ التأريخ في أبنائه كما يحلو لهم أن يعبرون ، كلُّ ذلك قد تناقله الخلفُ عن السلف وارتمى بين ظهرانينا حتى أضحى مرتكزًا ذهنيًا تختبيءُ خلفَه سلوكيات البعض .
وممّا يزيد الطين بلّة ، والداء تفاقماً والخرق اتساعاً أن تؤطر هذه السنن بإطارٍ عقَدي عبر نافذة ( القضاء والقدر ) ، فلا مفرّ ولا مهرب من التسليم وكلُّ ما يقع عليك كُتِب في قضاءِ الله وقدره .
كثيرةٌ هي السلوكيات المنحرفة في مجتمعاتٍ يسودها الجهلُ والتخلف إلا أن ما يدعو إلى القلقِ أن تُقترن تلك السلوكيات أو تعنون بإطار العقيدة ، تلك العقيدة التي تسربت إلينا من تراكماتٍ سياسيةٍ لحكامٍ سعَوا إلى تبرير انحرافاتهم في مخالفةٍ صريحةٍ لتعاليم الإسلام ، ولأجل تحصيلِ إذعان الشعوب لهم على طبقٍ من ذهب ,وأنهم خلفاءُ الله في أرضه فلا يحق لك التغيير بأي شكلٍ من الأشكال .
هكذا هي حال عراقنا اليوم فهو بين فكي هذه ( السنن ) كمفهومٍ متوارَث و ( قسرية القضاء ) أو هو بين المطرقة والسندان ، فاليوم هناك شطرٌ من سواد الناس ممن ينتمي إلى هذه الذهنية العقيمة وهو لا يعلم أنه بذلك يقف عائقًا في طريق الإصلاح الذي يلهج به الجميع ، وأن الخرافة هي التي جعلت من هذه التراكمات سننًا لا سبيل إلى تعديلها ، بعد أن ألزمت مَن انتمى إلى نهجها بالسير على هذا النهج .
للتأريخ كلمتُه قالها منذ سنين ؛ معترضًا على مَن تجنَّى عليه وألصق به هذه السنن الخرافية ونسب إليه ما هو بُراءٌ منه ،ولسانُ حالِه ترجَم كلمتَه قائلاً: ( ياليتني متُّ قبل هذا وكنتُ نسيًا منسيا ) ، فهلا تناسينا وأمتنا ( سننَ التخريف ) وبدأنا بإصلاح ذواتنا كما قال عزَّ من قائل (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [ الرعد : 11] فليس للعراق إلا أهله .